الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


راهنية العلمانية -المغرب نموذجا-

عبد الله بادو
(Abdollah Badou)

2005 / 12 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


راهنية العلمانية
"إن الحقيقة الاجـتماعية لم توجد بالصدفة ، بل وجــدت كـنتيجة لجهـــود الإنـسان ، كذلك فإن عملية التغـيير لا تتم بالصدفة بل تتم نتيجة لجهود الإنسان ، وإذا كان الرجال هم الذين يحدثون التغيير في الحقائق الاجتماعية ، فإن تلك الحقائق تصبح بالضرورة عملاً تاريخياً من صنع الرجال "
( باولو فريري ، تعليم المقهورين ، 1982 ، ص 32 )

" الجهل يتقدم بقدر خوف العقلاء و الردة الحضارية تقوى بقدر تراجع المتحضرين و العناصر الضلامية تصبح عالية الصوت عندما يخفت صوت المتنورين.. أما الواقع فهو ما يسود المناخ الفكري الثقافي من أن الرأي الصحيح هو الرأي الصريح"
فرج فودة: نكون او لا نكون
تقديم:
من هذا الأساس ننطلق من أن الحقيقة كما الديمقراطية لا تمنح و ليست أمرا خاضعا للصدفة بقدر ما هي نتاج لحركة الفكر و لمجهودات الإنسان، فالعلمانية كنتاج ثقافي و فلسفي لا يقتصر على "الغرب" دون "الشرق"و لا على قومية دون أخرى...و معه تتناسل العديد من التساؤلات لتؤرقنا و نحن نخوض في هكذا موضوع، و بشكل يصعب معه الوقوف عند حدود الموضوع الحقيقية، بحكم طبيعة الموضوع الذي يتبين انه أعمق من كونه فصلا بسيطا و سطحيا للسلطة الدينية عن السلطة المدنية، إن جاز تسميتها هكذا، أو حرية الاعتقاد، لنجد أنه يلامس شتى مجالات الحياة : السياسة ،الاقتصاد ،الثقافة، التربية و التعليم و الفكر... و لعل أهم التساؤلات تلك :
- هل إقرار الديانة الوحيدة إقرار بالتسامح، المساواة و الهوية المتعددة الأصول للشعب المغربي، أم أن ذلك لا يغدو أن يكون شعارات للاستهلاك الإعلامي و الخارجي و تجاوبا مع الحملة الأمريكية ضد الإرهاب؟
- لمصلحة من يتم إقصاء التداول العمومي لباقي الديانات ؟
- هل من حرية الاعتقاد أن يتم التضييق على إتباع مذهب آخر غير المذهب المالكي الرسمي؟
- هل قدر المغاربة أن يهجروا هويتهم كما كان "قدر" اليهود المغاربة هجر وطنهم؟
ينبع الاهتمام بالعلمانية و جعلها من بين أهم القضايا الأساسية التي صالات في صلب الاهتمامات الأولية للشبكة الأمازيغية من اجل المواطنة، من قناعتنا الأكيدة بان البوابة الحقيقية لبلوغ/التأسيس لممارسة ديمقراطية سليمة تبدأ من بوابة العلمانية، وليست ردود فعل على الأفعال و الأعمال الإرهابية التي أنتجها الهوس بالماضي لدى الجماعات السلفية(11 شتنبر 2001 بأمريكا، احداث16 ماي الدار البيضاء، مدريد....).
و تجدر الإشارة إلى أن سمير أمين ينبه إلى ضرورة عدم الاقتصار على تعريف العلمانية بكونها فصل الدين عن الدولة، لكون العلمانية لا تنحصر في مبدأ استقلالية القرار/السلطة السياسية عن اللاهوت/المؤسسة الدينية، فهذا المبدأ كان معمولا به، علنيا أو شكليا/ظاهريا، منذ أزمنة بعيدة و في جميع المجتمعات،أي علمنة شكلية تهتم بالمظاهر و لا تنفد إلى عمق و جوهر العلمانية نفسها، و مازال يطبع بعض الأنظمة الحالية إلى يومنا هذا مع وجود فوارق في التطبيق بطبيعة الحال، إذ لا يمكن أن نقارن النموذجين التركي و التونسي مع النموذج الفرنسي، إذ شتان بينهما فكرا و ممارسة.
فعلى الرغم من انه ،ظاهريا لم يكن كذلك دائما، و على الرغم من ادعاء البعض انه لا يجب أن يكون كذلك، فالدمج بين السياسة و الدين يضفي طابعا مقدسا يلقي قناعا يحول دون شفافية القرار السياسي و يلغي جوهر الديمقراطية، كذلك لا ينحصر مفهوم العلمانية في ممارسة التسامح و إطلاق حرية الممارسة الطقوس الدينية مهما كانت.
و على هذا الأساس ارتأيت أن أتناول الموضوع من زوايا متعددة، (المفهوم-المواطنة-نظام الحكم-الأمازيغية)، أظن أنها ضرورية لإثبات مدى راهنية مطلب العلمانية و الأساس المادي و الفكري لهذا المطلب، ودحض الأفكار المناهضة و المقاومة لأي مسار تغييري قد يمس من مكانتها الاعتبارية و مصالحها الاقتصادية و السياسية، و الذي في نظرنا المتواضع سيحقق قفزة نوعية في طريق التغيير الديمقراطي و تطور حقوق الإنسان بالمغرب، أي الإسهام في نقلنا من مستوى الرعايا إلى المواطنة الحقة.
في مفهوم و مصطلح العلمانية :
يعتبر مفهوم العلمانية من بين أكثر المفاهيم التباسا، و الأقل حضورا في معجم الحركات السياسية و الاجتماعية المغربية، مع بعض الاستثناءات القليلة و النادرة، رغم وجود دراسات و انتاجات فكرية في هذا المجال، نظرا للأحكام المسبقة و الجاهزة السائدة حول المفهوم و كل من يحاول مقاربة المفهوم أو الدعوة إلى إقامة نظام علماني أو ما شابه ذلك، نظرا للدعاية المغرضة التي تقودها من جهة الحركات الأصولية الضلامية، و النظام الحاكم من جهة ثانية، و ما تعرض له العديد من المفكرين العلمانيين أمثال: فرج فودة، حامد نصر ابوزيد،طه حسين، سليمان بشير...و القائمة طويلة خير دليل على ذلك، بحكم أن مشروعيهما يتأسسان بشكل كبير على الدين، و يوظفانه لنفس الغاية و هي تثبيت شرعيتيهما و إضفاء نوع من القداسة عليها تستمدها من العلاقة مع الدين.
من هنا لابد من الإشارة إلى أن سمير أمين في مفهوم القومية في مواجهة أزمة عصرنا ص 97، يرى بان العلمانية تتجاوز مبدأ فصل الدين عن الدولة إلى كونها إعلان للقطيعة بالماضي و الطبيعة، و يلغي المرجعية المعتمدة على السلفية، و منها انتماء الشعب إلى عقيدة دينية مشتركة. فالثورة الفرنسية أعلنت أن المسيحية هي رأي فلسفي فردي"لا أكثر" شانها شان أي رأي فلسفي، و ليست عاملا من عوامل البناء الإيديولوجي للمجتمع، بل اعتبرت الثورة الفرنسية أن المؤسسة الدينية إحدى مؤسسات طغيان النظام القديم(1).
وهو ما يفسر أن الثورة الفرنسية اعتبرت النضال من اجل العلمانية نضال ضد النظام الطاغي و لذلك سنت مجموعة من القوانين تحول دون توظيف الدين من جديد من طرف السياسيين او المؤسسة الدينية لأغراض سياسية ومعلوم أن توظيف الدين و التلاعب يشكل خطرا على الديمقراطية و على المجتمع، كما يقول محمد أركون:" حين يحدث التلاعب بالدين، يتحول إلى قوة سياسية خطيرة"
في مصطلح العلمانية(2):
إن كلمة علمانية، بمعنى حالة او وضع، هي ترجمة عربية للكلمة الفرنسية « laïcité » او « sécularisme » ، أما كلمة «laïcité »فهي مشتقة من كلمة « laicos »اليونانية التي تعني كافة الناس، و تميزهم عن رجال الدين و التي اشتقت منها « laïque » للدلالة على المدني العادي ابن العامة غير المتعلم، و ذلك مقابل كلمة « clerc » التي استخدمت للدلالة على رجل الدين و الكاهن المتعلم. و في لاتينية القرن الثالث نجد أن كلمة « laicos » تعني الحياة المدنية او النظامية . حيث يعيش الناس حياتهم بكل معطياتها، و تعارضهم محاولات رجال الدين المستمرة للتدخل من اجل ضبطها « irijular » .و ظهرت كلمة « laïcité » بمعنى مذهب او عقيدة و كلمة « sécularisme » التي تعني دنيوة المشتقة من « séculier » التي تعني الزمن و الدهر في مقابل اللازمن او الروح او الدين.
كما أنها أيضا ، ترجمة للكلمة الانجليزية « secularism » او « sécularisation » بمعنى تحويا او عملية،نشتق من كلمة « socular » (المدني العامي ) ذات الأصل اللاتيني « secularism » المشتقة من « saeculum » التي تعني القرن الزمن العالم .و ثمة لفظ آخر لاتيني يعني العالم « mundus » و الفارق بين اللفظين ، الأول ينطوي على الزمان و التاريخ، أما الثاني فينطوي على المكان، أي أن التغيير حادث في العالم و ليس ل العالم. وهو لهذا يعني باللاتينية أيضا لفظ « cosmos » أي الكون او المجال او النظام.
و قد أفضت هذه الازدواجية في اللغة اللاتينية إلى مشكلة لاهوتية، و هي الخلاف الحاد بين الرؤيا المكانية للوجود عند اليونان، و الرؤيا الزمانية عند العبرانيين. و قد رفع هذا التناقض في مفهوم العالم في العصر الوسيط، بتقدم العالم المكاني او الديني على العالم التاريخي و أصبح لفظ علماني محصور في معنى ضيق إذ أطلق على الكاهن الديني الذي يتحمل مسؤولية ايبارشية فيقال في هذا، الحال أن الكاهن قد تعلمن « secularised » .
ثم اتسع استخدام اللفظ عندما استقل الإمبراطور عن بابا روما و انتقال بعض المسؤوليات من السلطة الكنسية إلى السلطة السياسية و سمي هذا الانتقال بالعلمانية.

العلمانية و المواطنة":
المواطنة في الديمقراطية الدستورية تعني أن كل مواطن هو عضو كامل ومساو لكل أفراد المجتمع بحقوق أساسية كما أن عليه واجبات، وعلى المواطن فهم أنه من خلال اشتراكه في الحياة السياسية والمجتمع المدني، يمكنه تحسين نوعية الحياة في مجتمعه وأمته.
وكما قال أرسطو في كتابه السياسة (340 ق.م )(3) "إذا ما كانت الحرية والمساواة ، كما يؤمن البعض، موجودة بشكل أساسي في الديمقراطية فأن هذا يحصل عندما يشارك كل الأشخاص وبشكل متساو في الحكم"، وفي كلمات أخرى فأن مثل الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا عندما يشارك كل فرد في المجتمع السياسي في الحكم بشكل أو بأخر وأعضاء المجتمع السياسي هم المواطنون ولهذا تكون المواطنة في الديمقراطية هي العضوية في الجسم السياسي في بلد ما ، والعضوية تعني المساهمة. ولكنها مساهمة مبنية على المعرفة والتأمل النقدي وفهم وقبول الحقوق والواجبات التي ترافق تلك العضوية.

باعتبار المواطنة، إقرارا بالمساواة الكاملة بين جميع المواطنين و المواطنات، و تؤطر العلاقة بين المواطنين من جهة، و الحاكم و المحكومين من جهة ثانية، بما يضمن حقوق جميع الأطراف و واجباتهم تجاه الآخرين، تسمو على كل الخصوصيات المصطنعة و المفتعلة، (الدين، العرق، الجنس...) التي تلجأ إليها الأنظمة الديكتاتورية و الحركات العنصرية و الأصولية للالتفاف و الإجهاز على حقوق باقي مكونات الدولة الواحدة، أقليات كانت أم أغلبيات، فانه يستحيل الحديث عن الإقرار للمواطن بحقوقه في دولة غير علمانية، خاصة إذا راجعنا التاريخ سنجد أن أهم المجازر المرتكبة وما تزال كانت دائما باسم الدين، أي دين مادام جميع الأديان كانت و ما تزال توجج الصراعات في العديد من بقاع العالم .
في المجتمع المغربي يصعب الحديث عن المساواة و الديمقراطية باعتبار أن الأساس المنتهج لتمكين المواطنين من حقوقهم يتأسس على ربطه بالدين، و الذي بالمناسبة هو دين الدولة الرسمي، و نظرا لكون الدين يقر باللامساواة بين المواطنين و المواطنات على مستويات عدة، بسن مجموعة من القوانين المقرة بالتمييز بين المواطنين، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: بين المسلم و غير المسلمين(أهل الكتاب، "الكفار"...) في دفع الجزية، الزواج إذ يحق للمسلم أن يتزوج غير المسلمة و العكس حرام، الإرث فلا يحق للزوجة غير المسلمة أن ترث زوجه،كما أن أحوال اليهود المغاربة يخضعون للمدونة العبيرية في تنظيم أحوالهم الشخصية مما يضعنا أمام ازدواجية قانونية في حال ما تعلق الأمر بأسرة مغربية متعددة الديانة فلأي مدونة ستخضع؟
ثانيا: بين الذكر و الأنثى(الإرث:للذكر مثل حظ الأنثيين، الشهادة إذ شهادة الرجل بشهادة امرأتين، تعدد الزوجات أحله للذكور من غير الإناث، تقلد المناصب و المسؤوليات:القضاء، الجيش، الإمامة، الحكم...
هذان نموذجين فقط لللامساواة التي تبنى على أساس الدين، مما يوضح بجلاء انه يستحيل الحديث عن المساواة الكاملة بين الجميع في ظل دولة دينية تستمد شرعيتها منه، و تؤسس لحقوق المواطنين على أساس الشريعة التي تقر بتمييز بينهم تارة بسبب المعتقد و تارة بسبب الجنس...الخ.
كما أن الدستور المغربي، الفصل السادس:الإسلام دين الدولة، و الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية، باتخاذه للدين الإسلامي دينا للمغاربة يصادر حقهم في اختيار معتقداتهم و وضع قيودا أمام حرية التدين و ممارسة الشعائر الدينية، و صار الدين واجبا او إلزاما لا اختيارا مبني على الإيمان و الاقتناع الشخصي، وهذا نوع من استباحة الحياة الخاصة للإفراد سلب لحرياتهم، ولهذا وجب رفع نحفظ الدولة المغربية على حرية الاعتقاد.
إن الانتقال من دولة الرعايا إلى دولة المواطنين هو نضال من اجل الديمقراطية و المساواة الفعلية بين جميع المواطنين حاكمين و محكومين في الحقوق و الواجبات و فق نظام يضمن

العلمانية ونظام الحكم في المغرب:
يستعصى عمليا الحديث عن ما يمكن أن نسميه نموذجا فريدا لنظام حكم إسلامي، خاصة أننا في العصر الحاضر نزامن عدة نماذج و كل منها يحاول أن يؤسس لبعض او كلية شرعيته على الدين (الجمهورية الإسلامية الإيرانية (امة الله)، المملكة المغربية(أمير المؤمنين)،المملكة العربية السعودية (خادم الحرمين الشريفين)...) والملاحظ أنها تختلف في الشكل و الطبيعة معا باختلاف المذهب المتبع فللشيعة وجهة نظر تختلف إن لم نقل تتناقض مع وجهة نظر السنة، إذ يصعب أن نجد نقط تلاقي بينها، مما يبرز أن الأمر لا يغدو أن تكون في مجملها نماذج وضعية.
كما أن تاريخ الحكم الإسلامي غني بالتجارب الفاشلة/الظالمة، و إلا ما كان مبرر مجموعة من الثورات التي و وقعت في صدر الإسلام(الثورة البابكية، الزط، الزنج،القرامطة...) الم يكن رغبتهم في تحقيق العدالة الاجتماعية و استرداد كرامتهم في ظل دول الخلافة الإسلامية، بحكم ابتعادها عن "الروح السمحاء" للدين الإسلامي و إحقاق العدل و المساواة، التي تعتبر لدى دعاة هذا التوجه المبرر الأساس للدفع من اجل إقامة نظام حكم إسلامي لضمان العدالة الاجتماعية وبان تطبيق الشريعة الإسلامية وحدها كفيلة بذلك من دون غيرها من الشرائع الوضعية،
إن التشخيص الأولي و السريع لنظام الحكم في المغرب يعطي الانطباع انك أمام نظام حداثي مواكب للتطورات التي مست أنظمة الحكم (دستور،برلمان، حكومة، قضاء…) لكن سرعان ما تتكشف طبيعته الحقيقية مع أول قراءة للدستور باعتباره المرجع الأساس المنظم للدولة و مؤسساتها و التي تكشف عن استفراد إن لم نقل احتكار كلي للمؤسسة الملكية لجميع السلط (التشريعية، التنفيذية..) بمنطوق الفصل 19:الملك أمير المؤمنين و الممثل الأسمى للأمة و رمز وحدتها و ضامن دوام الدولة و استمرارها، و هو حامي حمى الدين و الساهر على احترام الدستور، و له صيانة حقوق و حريات المواطنين و الجماعات و الهيئات، كما جاء في الورقة التقديمية حول مذكرات الإصلاحات الدستورية والقضائية والقانونية التي أعدها النسيج المدني لمتابعة ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ، أن صيغة الفصل 19 سمحت و تسمح للمؤسسة الملكية بأن تستمد سلطات أخرى من خارج الحقل والنص الدستوريين باللجوء إلى حقل إمارة المؤمنين للقيام بتأويلات تسمح بتجاوز النص الدستوري وتبطل مفهوم فصل السلط مع ما يجره ذلك من تهميش للمؤسسات الدستورية الديمقراطية(4).
ابتداء من دستور 1972 يسجل الملك بصفته أميرا للمؤمنين و ممثلا أسمى للأمة و بهذا يقر الدستور، إزاء مرجعيته الوضعية، بمبدأ للتشريع خارج عن المبادئ الوضعية، و يكرس بذلك ازدواجية المنهل، و يعيد تسجيل شرعيته" تقليدية " لم تعد تقليدية تماما(5) . وهو ما يزيد يؤكده و يثبته الدستور في الفصل 106:النظام الملكي للدولة و كذلك النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي لا يمكن أن تتناولها المراجعة.أي انه يقرن النظام الملكي،الطاعة و الانقياد، بالدين الإسلامي بجعلهما في نفس المرتبة، القداسة، نظرا لكونها غير قابلين للمراجعة و التغيير لأي ظرف، أي أن النظام الملكي المغربي يستوحي بذلك قداسة من الدين، و هو في نفس الوقت نصب نفسه لحمايته.
أي أن وجود المؤسسات تلك لا يغدو أن يكون إلا صوريا/شكليا تلعب فيه المؤسسات دور "الكومبارس" بينما السلطة الحقيقية متمركزة في يد الملك، أي أننا أمام ديمقراطية الواجهة، بل عمل الدستور على توفير التغطية القانونية الوضعية فلنتأمل النصوص التالية:
كما أسس الدستور لنوع من الرباط المقدس بين العاهل و رعيته(6) ( الفصل 23: شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته). يتم ترسيخه من خلال تجديد البيعة سنويا للملك، هذه البيعة تربط بصورة دائمة الشعب بالملك، مما ينزه هذا الأخير على الصراعات و التحزبات التي يمكن أن تعرفها الأمة/الجماعة و ترفع مكانته فوق الأغراض الخاصة (7).
الفصل 28:للملك أن يخاطب الأمة و البرلمان و يتلو خطابه أمام كلا المجلسين و لا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش.
إذن فالأنظمة المستبدة، بما فيها المغربي، تسعى تعمد إلى تمويه الصراع الاجتماعي و التغطية على استبداده و تبريره و حجب استغلالها الفاحش للطبقات الاجتماعية بتوظيف مكشوف و مفضوح للدين ،أي أن الدين وظيفة سياسية هي الحفاظ على السلم الاجتماعي في حدود النظام القائم فيه، بنقل الصراع من مستواه المادي الفعلي(طبقي/استغلال) إلى مستوى آخر روحاني وهمي، لا يطمسه و يموهه فحسب، بل يشله لأنه على هذا المستوى الوهمي ، ليس الصراع نفسه بل غيره، و الهم الطبقي الفعلي للبرجوازية هو بالتحديد ألا يظهر الصراع الاجتماعي الفعلي في صراحته المادية كصراع طبقي(8).
العلمانية و الحركة الأمازيغية:
قد يتبادر إلى الذهن تساؤل بديهي هو :أية علاقة يمكن أن تربط بين المطالبة بالعلمانية و النضال من اجل الاعتراف و الإقرار الرسمي بالهوية الأمازيغية للمغرب؟
النضال من اجل الاعتراف و الإقرار الرسمي بالهوية الأمازيغية للمغرب من خلال إعادة الاعتبار للمكون الأساسي للهوية المغربية ألا و هو المكون الأمازيغي، باعتباره واقعا و معطى سوسيوثقافي مميزا لها، و الذي عانى تهميشا ممنهجا يستهدف إقصاءه، وسم السياسة الرسمية للبلاد طيلة العقود الخمسة "للاستقلال"، و المكون الامازيغي أحد أهم العوامل المؤسسة للشخصية المغربية على مر العصور، و التي اكتسبت قيمها عبر تفاعلها مع جميع الحضارات المختلفة التي تعاقبت على المجال المتوسطي، و كان آخرها الحضارة العربية الإسلامية القادمة من الشرق، دون أن يمنعها ذلك من تطوير ذاتها بالتفاعل الايجابي مع المتغيرات الثقافية و الحضارية و يتجلى ذلك في كونها كانت من بين المناطق الأولى التي ثارت، 12 مرة، ضد الاستبداد و الحكم المطلق و الفاسد للخلفاء الإسلاميين و ولاتهم الطغاة دون أن تعمل على إقصاء الدين الإسلامي بل منها من حافظ عليه، و كان محركا أساسيا لقيام دول كبرى أخرى فيما بعد( المرابطون ،الموحدون...)، أي أنها في جوهرها ترفض الاستغلال و إن كان أساسه الدين ،أي دين ، و في الوقت الحاضر ساهمت في صفوف جيش التحرير بشكل كبير في استقلال البلاد، هنا لابد من التذكير بالدور الذي لعبه جيش التحرير والذي كان يظم أمازيغ الأرياف ، والذي للأسف سيتم اقصاؤه باسم المغربة المتمركزة على مقومين(عرقي و ديني) فريدين: العروبة و الإسلام، وهو مشروع قومي يحمل في طياته إلغاء التعدد باسم الوحدة، في إطار الصراع من اجل الاستفراد بالحكم من طرف الحركة الوطنية المدينية و المؤسسة الملكية في المغرب في مرحلة أولى، لتحتكره هذه الأخيرة في نهاية المطاف إلى يومنا هذا، و لعل السائل الآن يدرك علاقة ذلك بموضوعنا قيد الدرس و التحليل، إن العلاقة وطيدة و أساسية إذ أن في مغرب "الاستقلال" أول ما شرع فيه هو العمل على سلخ المغرب عن هويته الحقيقية و إلباسه هوية جديدة فريدة تلغي التعدد و تقبره، سيتم تكريسها فيما بعد في الدستور، الحياة العامة، الإدارة، القضاء و الإعلام…تحت شعارات: المغربة، التعريبّ، الوحدة العربية، الأمة الإسلامية…ولنتأمل المقولات لكتاب و سياسيين مغاربة التي تجسد بحق هذا التوجه العنصري و الإقصائي للغة الأمازيغية على أساس الدين:
• "ينبغي إماتة اللهجات" محمد عابد الجابري
• " فان جاءت فراشة لغوية تركفونية او أمازيغية تناطح العربية بقرونها الواهية و تطير بأجنحة الأهازيج الشعرية و الأمثال الشعبية السهلية الجبلية قلنا لها:ليست هناك..." عبد السلام ياسين.
• "أن يقيموا للهجة البربرية قواعد في المخاطبة و الثقافة لتزحزح لغة القرآن عن قمتها" قدور الورطاسي.
• ينبغي العناية التامة باللغة العربية أما اللهجات فهي من فضلات التاريخ" احمد الطريبق احمد.

إذا تأملنا التوظيف المغرض لأحداث تاريخية نستنتج أن الدين استعمل و لايزال في كبح الدينامية التي تعرفها الحركة الديمقراطية و الأمازيغية باعتبارها جزء لا يتجزأ منها ، كظهير16 ماي 1930 و الذي يدعونه بالظهير البربري، الخاص بتنظيم المحاكم العرفية في المناطق التي كانت تسير وفق الأعراف التي كانت سائدة و متبعة قبل و بعد الغزو الإسلامي لشمال إفريقيا و لاتزال بعض الأعراف تطبق إلى يومنا هذا...و الصمت الذي أحاط بعملية هجرة/تهجير اليهود المغاربة،حسب بعض الإحصائيات كان عددهم حوالي300 إلف نسمة و ألان لا يتجاوز10000 نسمة.
تحت ذريعة أن الأمازيغية ستعمل على تشتيت المغرب و تقسيمه على أساس عرقي، و اندلاع الحرب الأهلية أو ما شابه ، و بالتالي يجب الاصطفاف و الاتحاد في ظل لغة واحدة العربية "مقدسة" باعتبارها لغة القرآن الكريم، يقول محمد عز الدين توفيق: اللغة العربية مقدسة لا لأنها لغة العرب بل لأنها لغة القران و السنة و الله تعالى هو الذي اختارها لتكون وعاء لكلامه"(9)، وهو ما يتناقض مع النص القرآني نفسه في الآية 22 من سورة الروم>.
أي انه تم توظيف الدين لدفع المغاربة إلى التخلي عن لغتهم الأصلية و ثقافتهم و حضارتهم و الانصهار في ثقافة أخرى أي لصالح اللغة العربية، و هو نفس المنطلق و الأساس الذي تنطلق منه الحركات الأصولية المتطرفة و حتى المعتدلة و الممخزنة منها.بل منها من قادت حملات تشهير ضد بعض الإطارات الجمعوية الأمازيغية المطالبة بالعلمانية ودون أن تكلف نفسها عناء البحث و إعمال العقل في كنه و طبيعة العلاقة و الدوافع الكامنة و راء تبني الحركة الأمازيغية الديمقراطية لمطلب العلمانية. بل ركنت إلى أسلوب مبتذل و متجاوز يؤسس على نظرية المؤامرة و العمالة للغرب و الحركة الصهيونية، و استعملت أساليب متعددة للتعبير عن هذا ك:(حفدة ليوطي، الكفار الملاحدة، أعداء الوحدة الوطنية، حفدة كسيلة و دهيا...) يقول محمد العرباوي:"سبق لي أن تناولت هذا الموضوع بالدراسة في سياق مواجهة النزعة البربرية المتمزغة التي أخذت تستفحل في المنطقة بدعم من فرنسا و الصهيونية"(10).
خلاصات:
في الأخير و بعد استعراض ما سبق يتبن لنا مدى راهنية مطلب العلمانية: يقول الأستاذ كمال عبد اللطيف:عندما نقر براهنية المطلب العلماني .. فإننا لا نلوح بشعار مستنفذ القيمة، كما قد يتبادر إلى ذهن البعض(11).
ليس من اليسير الحديث عن حلول عملية او وصفة جاهزة للحالة المغربية، إذ اتضح و بالملموس أن الطريق نحو العلمانية ما زال في بداياته، أولا:وجود نظام سياسي مناهض للعلمانية و التحديث، ثانيا: تعدد الأطراف الرافضة و المقاومة للفكر العقلاني و التقدمي، و لأي تغيير قد يطرأ على المجتمع المغربي .ثالثا: غياب نخبة قادرة على التعبئة و نشر الفكر العقلاني رابعا:سيادة ثقافة رجعية و ارتفاع نسبة الأمية و الجهل.
و هو ما يفرض التفكير في مشروع مجتمعي يستهدف دمقرطة المجتمع بجميع إبعاده بوصفها عملية دائمة و ليست وصفة ثابتة لا تتغير و لا تتطور مع متطلبات المتغيرات التي تمس البنية الاجتماعية، فالديمقراطية الحقة تتطلب التوسع في مجالات تطبيقها لتشمل الإدارة الاقتصادية و الاجتماعية، و ألا تتوقف عند مجال الإدارة السياسية للمجتمع، و التي هي أساس و جوهر المطالب الآنية لفئات عريضة من المجتمع المغربي التي ملت من نهج النظام القائم لديمقراطية مراوغة ، حسب تعبير بيير ساني، تدعي الديمقراطية دون أن تكون كذلك.
و هذا يستوجب خلق جبهة وطنية للمطالبة بالعلمانية و الديمقراطية من داخل الحركة الاجتماعية المغربية قادرة على الاشتغال و العمل بشكل جماعي ،بحكم ارتباطها بنضالها المستمر من اجل الديمقراطية و حقوق الإنسان، للبحث عن حلول تخص مراجعة و تغيير الدستور وكافة القوانين المنظمة للمجتمع، لتتلاءم و المواثيق الدولية و تسقط الخصوصية المختلقة، مما يؤسس لتعددية ويحترمها على المستوى الهوياتي، و يضمن لكل المغاربة الحق في المساواة و المواطنة الكاملة و التصدي للمشاريع السلفية و الرجعية للحركات الإسلامية.
المراجع:
1. سمير أمين: مفهوم القومية في مواجهة أزمة عصرنا ص 97
2. تعريف مصطلح العلمانية أخد عن كتاب" العلمانية من منظور مختلف" للدكتور عزيز العظمة.
3. أرسطو في كتابه السياسة (340 ق.م ).
4. الورقة التقديمية حول مذكرات الإصلاحات الدستورية والقضائية والقانونية التي أعدها النسيج المدني لمتابعة ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
5. عبد الله الحمودي:> صفحة: 47.
6. عبد الله الحمودي:<<الشيخ و المريد>> صفحة: 37.
7. عبد الله الحمودي:<<الشيخ و المريد>> صفحة: 37.
8. مهدي عامل
9. محمد عز الدين توفيق: "جريدة الراية" عدد 128 10/01/1995.
10. محمد العرباوي : الكتابة البربرية:اللوبية-التيفناغ ما حقيقتها" - كتاب: في الهوية و الثقافة الأمازيغية- منشورات منتدى المواطنة 2004.

11. كمال عبد اللطيف: "التأويل و المفارقة: نحو تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي" ص:97








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المسيحيون في غزة يحضرون قداس أحد الشعانين في كنيسة القديس بو


.. شاهد: عائلات يهودية تتفقد حطام صاروخ إيراني تم اعتراضه في مد




.. بابا الفاتيكان فرانسيس يصل لمدينة البندقية على متن قارب


.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين




.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ