الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأبحاث المنطقيّة، مقدّمات لمنطق خالص

مختار العربي

2005 / 12 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1. الخصومة المتعلّقة بتعريف المنطق و بمحتوى نظريّاته الجوهريّ.

" إنّه يغلب إختلاف كبير في تعريف المنطق ككبر الإختلاف الّذي يغلب في نمط البحث في هذا العلم نفسه. وما كان ذلك ليكون بالعجب في مادّة إنّما ارتضى فيها أكثر المصنّفين استعمالهم ألفاظا هي هي، ولكن ليفصحوا عن آراء ذات تباين" (1). لقد انصرمت عشرات السّنين منذ أن افتتح بهذه العبارات جان ستيريوات ميل مصنّفه البارع في المنطق، قضّاها جهابذة الفكر لدينا وممّن هم على الجانب الآخر من "المانش" (2) مستفرغين أرفع الهمم من أجل المنطق، فأثروا العلوم بمباحث ما انفكّت تتجدّد. واليوم أيضا يجوز أن نصف وصفا صادقا حال علم المنطق بهذه العبارات، واليوم أيضا إنّما نوجد أيّما بعيدين عن إصابتنا إجماعا فيما يتعلّق بتعريف المنطق وبمحتوى نظريّاته الجوهريّة. وليس لأنّ المنطق اليوم كان مشاكلا لمنطق وسط القرن. وهو، لا سيّما، لتأثير ذلك العالم الألمعيّ، كان قد ظهر بَيِّنَ الظّهور عددا وقدْرَ أنصارٍ، المذهب الأوّل من بين المذاهب الثّلاثة الرّئيسة في المنطق، أي المذهب النّفسانيّ والصّوريّ والميتافيزيقيّ. ولكنّ المذهبين الباقيين، فقد وُوصِلَ الإستفاضة فيهما، ومسائل الخلاف المبدئيّة الّتي تنعكس على شتّى تعاريف المنطق، ما كفّت عن كونها مواضع خصومة، وقد يوجد دائما بل على نحو مطّرد أنّ شتّى المصنّفين إنّما يستعملون فقط، فيما يتعلّق بالمذهب الّذي تتضمّنه المقالات النّسقيّة، ألفاظا هي هي، ليعبّروا عن أفكار ذات تباين. وليست هذه الملاحظة بصادقة فحسب على الأراء الّتي تصدر عن فريق الخصوم (3). فالفريق الّذي نجد فيه الفعل الأكبر، أعني فريق المنطق النّفسانيّ، فلا نصيب فيه وحدة اعتقاد، إلاّ فيما يتعلّق برسم علم المنطق و بيان أغراضه ومناهجه الجوهريّة. ولكن ليس لأحد أن ينعتنا بالمُغْرِبِينَ في القول، لو أطلقنا عبارة حرب الكلّ ضدّ الكلّ Bellum omnium contra omnes في حقّ النّظريّات الّتي كانت قد قُدِّمَتْ، لاسيّما فيما يتعلّق بالتّآويل ذات التّنازع لأقوال وأجزاء مذهبيّة أورثتناها العلوم السّالفة. ولن يكون سعينا إلاّ عبثا لوأردنا حدّنا مجموعة من القضايا أوالنّظريّات ذات تأسيس موضوعيّ يكون ممكنا توريثها الأجيال القادمة على أنّها الجوهر الثّابت لعلم منطق عصرنا نحن(4).

2 ضرورة استئناف النّظر في المسائل المبدئيّة :

لمّا كان حال علمنا كما هو لا نقدر أن نتبيّن به يقينا شخصيّا من حقيقة كلّيّة الصّدق، فإنّ العودة إلى المسائل المبدئيّة ليبقى أمر ينبغي أبدا استئناف التّصدّي له. وهو ما نراه يجب على نحو مخصوص فيما يتّصل بالمسائل الّتي تدخل دخولا جوهريّا في تنازع شتّى المذاهب، ومن ثمّ في المناظرة ذات التّعلّق برسم المنطق رسما صحيحا. صحيح أنّ الإهتمام بمثل هذه المسائل قد ضعف ظاهر الضّعف في العشرات السّنين الأخيرة. فبعد مقارعة ميل الباهرة لمنطق هاملتون، وأبحاث ترندلنبرغ المنطقيّة ذات الصّيت أيضا، وإن كانت دونها في النّفع (5)، فقد ظُنَّ أنّ هذه المسائل في مجملها قد حُلَّت. من أجل ذلك، لمّا نهضت الأبحاث النّفسيّة نهوضا كبيرا، فإنّ المذهب ذا النّزعة النّفسيّة psychologismeكان قد تغلّب هو أيضا في المنطق، وتجرّدت الهمم من أجل فقط الصّوغ صوغا كاملا شاملا لهذا العلم وفق المبادئ الّتي كان قد سُلِّمَ بها. ولكن إذا كان إنّما المساعي الكثيرة والّتي جاء بها مفكّرون جهابذة من أجل الخلع على المنطق موثوقيّة المنهج العلميّ،ما كُلِّلَتْ بتمام التّوفيق، فإنّ ذلك يجعلنا نفترض أنّ الأغراض المنشودة لم تكن قد بيّنت كما تقتضيه غاية البحث.
ولكن تصوّر مقاصد علم ما إنّما يظهر في تعريفنا إيّاه. إلاّ أنّه هو بيّن أنّنا لسنا نظنّ أنّ خصوبة علم وصوغنا له إنّما يلزم عن حدٍّ حدّا مفهوميّا صادقا لمبحثه. بل تعريف علم من العلوم إنّما يعكس طورا من أطواره؛ فكلّما تطوّر العلم نفسه، تطوّر معه في نفس الوقت المعرفة الّتي تلزم عنه، أي المعرفة بخصوصيّة مواضعه المفهوميّة، وبتعيين وتقييد مبحثه. بيد أنّ درجة صدق تعريف علم من العلوم أو درجة صدق المفاهيم الّتي تصف مبحثه، إنّما ينعكس أيضا على مسعى العلم نفسه؛ فربّما أثّر هذا الإنعكاس بحسب أنّ التّعريف قد جانب أو قارب الصّواب، تأثيرا تارة ضعيفا، وطورا كبيرا، في تطوّر العلم. ومبحث علم من العلوم إنّما هو وحدة موضوعيّة مغلقة؛ فلسنا كما نشاء نحدّ أينما اتّفق وكيفما اتّفق مباحث الحقيقة. بل جنس الحقيقة إنّما على نحو موضوعيّ ينشعب إلى مباحث، وبحسب هذه الوحدات الموضوعيّة يتعيّن على الأبحاث أن تُيَمِّمَ سبيلها وتأتلف في علوم. فهو يوجد علم العدد، وعلم الأشكال الهندسيّة، وعلم الحيوان... وهلمّ جرّا؛ ولكن لا توجد علوم قائمة بذاتها في الأعداد الأوّليّة أو شبه المنحرف أو الأسود، ولا في كلّ تلك مجتمعة. فإذًا حيثما كان يقود التّجانس البيّن لمجموعة من المعارف إلى تأسيس علم من العلوم، فإنّ الكذب في رسمه ربّما كان سببه فحسب في أنّ مقولة المبحث ذي التّعلّق بالمعطى كان قد ظهر في الأوّل على نحو أيّما ضيّق، علىمعنى أنّ العلاقات الجوهريّة المترابطة إنّما تتّسع لماوراء المبحث المعتبر في البدء. وعليه فإنّها إنّما فقط إلاّ إذا التقت في مبحث أرحب أمكن لها أن تؤسّس وحدة نسقيّة مغلقة. ولكن ليس لزاما أن يكون لمثل هذا الحدّ للأفق أثر سيّئ على تطوّر ذلك العلم. فقد يجد الإنشغال النّظريّ رضاه، في الأوّل، في تلك الدّائرة الأشدّ ضيقا، وقد يكون الفعل الّذي قد يأتى به غَيْرَ معتبرين تفرّعّات منطقيّة أوسع وأعمق، إنّما هو الأمر الوحيد الضّروريّ حقيقةً أوّلَ الأمر(6).
أمّا العيب الآخر الّذي قد يلحق رسم علم من العلوم، ألا وهو الخلط بين المباحث ومزج أشياء غير متجانسة وجمعها في وحدة مبحث واحد مزعومة، لا سيّما إذا انبنت على تأويل أيّما كاذب للمواضيع الّتي ينبغي أن يكون البحث فيها الغرض الجوهريّ للعلم المعتبر، فهو أشدّ خطرا. فمثل هذا metasaois eis allo genos لو لم نتبيّنه، كان له أسوأ العواقب، مثل: تثبيت أغراض غير ذات تأسيس، الثّبات على مناهج خُلْفٍ مبادئها، لأنّها غير مقايسة للمواضيع الحقّ للعلم المعتبر، والخلط بين مراتب منطقيّة مختلفة حتّى أنّ القضايا والنّظريّات الجوهريّة حقّ الجوهريّة تكون غالبا ما تسلك طريقها متّخذة هيئة أيّما منكرة بين تحارير تباينها أيّما مباينة في الطّبيعة، تظهر فيها بنحو لحظات في ظاهرها ذات منزلة ثانية، أو بنحو نتائج تزعم أنّها ثانية المرتبة... وهلمّ جرّا. وهو لاسيّما في العلوم الفلسفيّة يوجد هذا الخطر أكبر؛ فمن أجل ذلك كانت مسألة ماصَدَق هذه العلوم وحدودها ذات شأن أكبر في تطوّرها ممّا هي عليه في العلوم ذات التّعلّق بالطّبيعة الخارجيّة المصطفاة أيّما اصطفاء، أين سير التّجارب إنّما هو الّذي يوجب فصلا بين المباحث، حيث ربّما نشأ، على الأقلّ لوقت ما، بحث ذو نفع (7). وكانط إنّما كان نظره بالأساس إلى المنطق لمّا قال عبارته الشّهيرة الّتي نأخذ بها نحن أيضا، وهي " لمّا نجعل حدود العلوم تتداخل، فليس زيادة في العلوم نستفيده وإنّما تشويها لها". وعليه، فنحن نُأَمِّلُ أن نبينّ واضح البيان في المبحث الآتي، أنّ المنطق السّالف ولا سيّما المنطق اليوم المبنيّ على علم النّفس يكاد يكون كلّه قد تردّى في المحظور الذكور(8)، وأنّ تطوّر المعرفة المنطقيّة قد عُطِّلَ تعطيلا جوهريّا بسبب ذلك التّأويل الخاطئ للمبادئ النّظريّة وما لزم عنه من خلط بين المباحث.
3 مسائل النّزاع، المسلك:
إنّ مسائل الخلاف التّقليديّة ذات الصّلة برسم المنطق هي الآتي:
1) هل المنطق فنّ نظريّ أم عمليّ ( صناعة عمليّةTechnologie ) ؟
2) هل هو علم يقوم بذاته بالإضافة إلى العلوم الأخرى، ولا سيّما بالإضافة إلى علم النّفس والميتافيزيقا ؟
3) هل هو علم صوريّ، أي كما كان يُعْتَقَدُ، إنّما يتعلّق فحسب " بصورة المعرفة بمجرّدها" أم هو يُعْنَى أيضا بمادّتها؟
4) هل المنطق علم ما قبليّ و برهانيّ، أم علم خبريّ واستقرائيّ؟

ومسائل الخلاف هذه كلّها متلازمة قويّ التّلازم حتّى أنّ أيّما رأي نراه في واحدة، أو في قدر منها، فإنّه يُعَيِّنُ بالنّتيجة الحكم الّذي نقضي به في سائرها، أو يكون ذا تأثير فعليّ في ذلك الحكم. في الحقيقة لا يوجد إلاّ رأيان اثنان. رأي أوّل يرى أنّما المنطق علم نظريّ يقوم بذاته بالإضافة إلى علم النّفس وأنّه صوريّ برهانيّ. ورأي ثان يصفه بنحو صناعة عمليّة موقوفة على علم النّفس ممّا يرفع عنه بالنّتيجة صفة العلم الصّوريّ البرهانيّ في معناه الحسابيّ الّذي هو مثاله في رأي الفريق المخالف (9).
ولمّا لم تكن نيّتنا، على التّحقيق، الخوض في هذا النّزاع القديم، وإنّما نيّتنا، بالضدّ، الأخذ في بيان التّباين المبدئيّ الّذي نجده فيه، وفي آخر الأمر، بيان أغراض المنطق الخالص الجوهريّة، فنحن نعتزم السّعي على النّحو الآتي: نبتدئ من التّعريف شبه المجمع عليه اليوم، تعريف المنطق بنحو صناعة عمليّة فنضبط المعنى والعلّة في ذلك (10). ثمّ نظمّ إلى هذه المسألة بالطّبع، مسألة الأسس النّظريّة لهذا الفنّ، ولا سيّما مسألة علاقته بعلم النّفس. وهذه المسألة في جوهرها، إنّما تتطابق، إن لم يكن بتمامها، ففي جزء منها كبير مع مشكلة نظريّة المعرفة الرّئيسة ذات التّعلّق بموضوعيّة المعرفة. أمّا نتيجة أبحاثنا في هذا الموضوع فإنّما ستكون استنباطنا علما جديدا خالص النّظريّة، يكون الأساس الأعظم لكلّ صناعة عمليّة للمعرفة العلميّة، ومتّصفا بصفة العلم الماقبليّ والبرهانيّ. وهذا العلم هو نفسه ما كان كانط وأنصار المنطق " الصّوريّ" و" الخالص" يَصْبُونَ إليه، ولكنّهم ما أفلحوا في تعيين لا محتواه ولا مداه. فينتج، آخر الأمر، من هذا التّدبّر رأي بيّن التّحديد في المحتوى الجوهريّ للعلم موضوع النّزاع، وهو ما يجعل، بالنّتيجة، الموقف الّذي ينبغي وقوفه بالإضافة إلى المسائل الّتي ثارت بخصوصه، بَيِّنَ الهويّة.
الملاحظات:
+ كلّ هذه الملاحظات هي بقلم المعرّب.
1) جان ستيريوات ميل، المنطق، الفقرة الأولى.
2) بلاد الإنجليز
3) أنصار التّأويل الميتافيزيقيّ والصّوريّ في المنطق.
4) أي أنّنا نعدم في علم المنطق، عَصْرَ كتب المصنّف تلك السّطور، محتوى مؤسّسا تأسيسا موضوعيّا يمكن أن تتلقّاه الأجيال التّالية بنحو علم المنطق كما قد تتلقّى سائر االعلوم التّجربيّة أو الرّياضيّة.
5) الضّمير في دونها يعود إلى خصومة ميل مع هاميلتون المنطقيّة.
6) يذكر هوسّرل الوجه الأوّل من عيب قد يلحق تعريف علم من العلوم، وهو أنّ ما يشتمل عليه الحدّ يكون أخصّ ممّا يستغرقه حقيقة مبحث ذلك العلم وينطوي عليه من علاقات أشدّ جوهريّة وأوثق ترابطا؛ من ذلك، مثلا أن لايرى الرّياضيّ موضوع بحثٍ في علمه إلاّ الكمّ، الكمّ المتّصل وهو موضوع الهندسة البحتة، والكمّ المنفصل، وهو موضوع الحساب؛ لكنّ تطوّر هذا العلم قد أظهر، لاسيّما مع نشأة الرّياضيات المنطقيّة، أنّ أساس وحقيقة هذا المبحث الجوهريّين، ليسا الكمّ، وإنّما هما القوانين المنطقيّة الصّوريّة الأعمّ والأرحب. ولكن هذا الوجه من العيب، هو غير ذي ضرر أو خطورة، حسب هوسّرل، بل ربّما كان ضروريّا في وقت من الأوقات. أمّا ذو الضّرر والخطر فإنّما الوجه الثّاني من العيب الّذي سيذكره هوسّرل فيما يلي من أسطر.
7) يريد هوسّرل أنّ الخلط بين أجناس المباحث، وإدخال بعضها في بعض، إنّما ضرره على العلوم الفلسفيّة أشدّ وأظهر منه في العلوم التّجربيّة. لأنّ المرجع في العلوم التّجربيّة إنّما الخارج وسير الأحداث الخبريّة سيرا موضوعيّا؛ فهذه إذًا بذاتها إنّما تُمْلِي على الذّات طرقها ومسالكها، ومن ثَمَّ تبيّن لها حدود وأطراف مباحثها. أمّا في العلوم الفلسفيّة، فلمّا كان مِلاَك اقتناص الحدود وهويّة مباحثها إنّما هو مسعى الذّات بمفردها التأمّلي، فإنّ إمكانيّة الزّيغ والخطأ، وإلباس أجناس العلوم بعضها ببعض، كانت أظهر وأقرب للوقوع.
8) والّذي هو إلباس أجناس المباحث بعضها ببعض، وهي الّتي في ماهيتها كانت تختلف أيّما اختلاف.
9) الرّأي المخالف يقصد به أنصار التّأويل الصّوريّ للمنطق؛ فهؤلاء يرون من أجل ذلك أنّ المثال الحقيقيّ للمنطق إنّما هو علم الحساب. راجع في هذا الشّأن، فريجيه،أصول الحساب.
10) أي ماكانت البواعث في أنّ عُرّف المنطق بنحو صناعة عمليّة.

طبلبة ماي 2000

*EDMUND HUSSERL, Recherches logiques, prolégomènes à la logique pure, Introduction.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا


.. أوضاع إنسانية صعبة في قطاع غزة وسط استمرار عمليات النزوح




.. انتقادات من الجمهوريين في الكونغرس لإدانة ترامب في قضية - أم


.. كتائب القسام تنشر صورة جندي إسرائيلي قتل في كمين جباليا




.. دريد محاسنة: قناة السويس تمثل الخط الرئيسي للامتداد والتزويد