الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق

عبد الرحيم العطري

2005 / 12 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


على امتداد أربعة شهور من سنة 2001 كان السؤال الشقي يتأجج في الأعماق بحثا عن إجابات ممكنة و مقنعة لكل هذا اليأس المعتق ، و لكل هذا البؤس المجتمعي الذي " يرفل " فيه هذا المغرب غير النافع ، كنا نعانق الألم الباذخ و الجرح الغائر لواقع يرفض الارتفاع ، و نحن نشارك في استشارة وطنية للشباب بجهة عبدة دكالة .
كنا نرتحل عبر الأزمنة و نحن نعاين الفداحة القصوى ، نصل إلى قرى و هوامش خذلها الجميع ، و تركوها تنتحب و تبكي حظوظها التعسة ، و ننتهي بعدئذ إلى أقاصي الرفاه و الثراء ، لنغوص مجددا في رحلة أخرى أكثر عجائبية ، نبحث على طول الطريق عن حبات فهم تجعلنا نهضم هذه المسافات الضوئية بين مغارب اليوم ، لكننا نعجز عن الفهم .
هذه إذن أشياء و أشياء سقطت سهوا و قصدا من مفكرة بحث وطني حول الشباب ندعوكم لمعانقتها بكل امتلاء .
بيع الوهم
و أخيرا انقدفنا إلى مدينة تائهة غاب عنا التخطيط، و تنكر لها الجميع ، جئنا إلى أسفي نبغي استقصاء آراء و مواقف الشباب تجاه العديد من القضايا و المشاكل التي تهم أبعاده النفسية و الاجتماعية الاقتصادية و السياسية و الثقافية ، نرتحل عبر أزمنة شتى و نزور مغارب شتى تتجاور و تتنافر في زمن مغربي رديء ، لا يقدم لشبابه غير اليأس المعتق ، و تحديدا في هذا الهنا حيث يصدر ماروك شيمي و باقي معامل التصبير مزيدا من السموم إلى رئات المسفويين الذين تعودوا على الخذلان و نكران الجميل ، فبحرهم لم يعد يجزل العطاء ، و معامل السردين تحولت إلى أطلال، و بالمقابل فقد تعالت ثقافة الهامش و الإجرام في أغلب فضاءات المدينة نكاية في الواقع و مهازله .
كان البدء من شنقيط ، قريبا من سيدي عبد الكريم ، و شنقيط هذا الحي المسفيوي المغربي معتل بداء المسخ الإسمنتي و محتضن لكل ملامح البؤس و الضياع المجتمعي .. عطالة .. و فقر و دعارة و ألم باذخ يربض فوق الصدور .
دخلنا شنقيط مسلحين بأخلاقيات البحث العلمي ، و في أعماقنا يلتهب السؤال حول دواعي التهميش ، و مع توالي المقابلات و ملء الاستمارات مع الشباب المبحوثين تبين لنا أننا نبيعهم الوهم ، لقد اعتقدوا بأننا نمثل " غودوهم " المنتظر ، الذي بمقدوره إخراجهم مما هم غارقون فيه من بؤس و عطالة ، تزاحموا في البداية حولنا ثم نظموا أنفسهم تلقائيا في طابور طويل للظفر بفرصة الإجابة عن أسئلة الاستمارة ، لقد بينا لهم الهدف من البحث ، و الذي لا يتعدى الغايات العلمية ، لكنهم كانوا أكثر اقتناعا بأن الإجابة على أسئلتنا ستجعل ساعي البريد يطرق بابهم قريبا ، حاملا إليهم خطابا رسميا يؤكد على ضرورة الالتحاق بعمل على " طابلة المخزن " .
ألا لعنة الرب علينا من باحثين ، بعناهم الوهم و جعلناهم خطأ يتعلقون بحبال أمل كاذب ، بعدما فعلت فيهم العطالة فعلتها الشنيعة ، قدما لهم حقنة مخدرة تؤجل الحراك و الثورة لا محالة و تضمن تكريس و إعادة إنتاج نفس أوضاع التهميش و الإقصاء .
لكن مع غروب الشمس لم يعد لهذه الحقنة أي تأثير ، فقد التحق أغلب المستجوبين " برأس الدرب " لتبادل " القرقوبي " و " الكماية "و " الروج " ، حينها برحنا المكان خوفا من حدوث المتوقع و غير المتوقع في عالم يكون فيه الحوار ابتداء و انتهاء بشفرات الحلاقة و السيوف و السكاكين .
الدعارة الحلال
لم تكن تلك المساحيق الرخيصة التي وضعتها بغير اتساق على وجهها ، لتمنع عنها الكبر ، لم تكن ابتسامتها العريضة لتضمر ذلك الألم القابع في عينيها ، لكنها لم تفقد بعد بهاء الأنوثة ،و إن كانت قد تجاوزت الخمسين بكثير حسبما هو مثبت في أوراقها الرسمية . بعدما غادرتنا فتاتها الوحيدة التي أطفأت شمعتها السادسة عشرة ، و التي لم تعرف إلى دفء الأب سبيلا لحد إجراء المقابلة ، أصرت السعدية أن " نتشاركو" الطعام و أن تقدم عنوان الكرم المغربي ، " أتاي منعنع بالنعناع العبدي زاعم يرد المجاج " ، هذا فعلا ما نحتاجه أيتها السيدة المحترمة ، فملء الاستمارات يتطلب مجهودا استثنائيا ، و لا بد من لحظة شاي حتى يستطيع المرء مواصلة هذا العمل الذي لا يريد أن ينتهي .
حول " الصينية " بدأت السعدية تكشف أوراقها و تسأل مع أهل الغيوان " مال كاسي وحدو نادب حظو ، هاذا وعدو ..وا هيا الصينية "، جاءت المسكينة من " أحد حرارة " ، قرية تبعد عن أسفي بعشرين كيلومترا على الأكثر ، استقر بها المطاف في شنقيط ، وقعت في حب " بحري " أي الرجل الذي يشتغل بالبحر ، حملت منه فهرب نحو المجهول " يقولون أنه في أكادير ، و قد أرسلت له صورة بنته ، و لكنه لم يكترث للأمر "
منذئذ و السعدية التي لا تحمل من السعد إلا الاسم ، تناضل ، أي نعم تناضل في صمت مالح ، تبيع زبناءها لحما مملحا ، تبيعهم لحمها و عرقها لمجابهة تكاليف الحياة التي تكشر عن أنيابها في كل حين ، فلكي تطعم الفتاة ،و تهزم فواتير الماء و الكهرباء و إيصالات الكراء تضطر لامتهان أقدم المن ، لقاء خمسة دراهم أحيانا ، أي نعم إنها تفعل ذلك من أجل هذا الثمن البخس ، كي تطفئ نار جوع طارئ أو مرض زائر بغير استئذان .
خبث الواقع يدعوها للاستجداء بجسدها وسط زحام البروليتاريا الرثة ن تبيعهم بضاعة فاتها قطار الزمن السريع ، و كلها أمل في أن تكون في مستوى هذا اليومي المخادع .إنها الدعارة الحلال في دنيا الفقر و الفاقة يا سيدتي ، فلا تبك زمنا فادحا و حارقا لهذه الدرجة . لقاء الأجر ذاته عرضت علي السعدية " لذتها الرخيصة " ، قدمت لها ورقة نقدية لم أعرف قيمتها لحد الآن تاركا ورائي بابا مهترئا يحدث أزيزا خبيثا ، و في الأعماق تشتعل تساؤلات شقية عن انحرافها الحلال ، و عن المسؤول تحديدا عما هي فيه ، أ هو حب ال " بحري " ؟ أم الرحيل القسري من أحد حرارة ؟ أم نحن جميعا ندفعها بصمتنا لتستمر في بيع لحمها بالتقسيط المريح ؟
شيخ الثوابت
المسافة التي تفصل " أحد الثوابت " عن أسفي لا تتجاوز الأربعين كيلومترا ، لكن بالرغم من هذا القرب الجغرافي ، فثمة مسافات ضوئية بين المكانين . وصلنا إلى أحد الثوابت بعد استعمال مختلف وسائل النقل الحديثة و الأخرى الغارقة في القدم ، لنجد أنفسنا بعد قضاء أربع ساعات في رحاب قرية شاحبة يقطنها أزيد من 700 نسمة و لا تتوفر حتى على مدرسة ابتدائية بسبب الحسابات الرخيصة لآل المجلس القروي لاثنين الغيات ، فقط يوجد مستوصف يتيم لا يستطيع هزم حتى جرح بسيط ، ذات المستوصف البائس ما كان له أن يكون لولا القلوب الدافئة للراهبات اللواتي مررن بالمنطقة خلال الستينيات من القرن الفائت .
إن المخزن كنظام يؤسس وجوده على شخصنة العلاقات و الأنساق و التحرر بالتالي من المؤسساتية ، يعبر عن استراتجيته و حضوره بكل وضوح بأحد الثوابث ، حيث لا حركة و لا سكون إلا بإيعاز من " الشيخ " الذي يجسد النظام المخزني و يحقق امتداده في نسيج هذه القرية المغلوبة على أمرها .
فهذا الشيخ الطاعن في السن و الممثل الشرعي للقايد في تراب الثوابت هو الآمر الناهي في هذه الدويلة الإقطاعية ، و هو الذي يساهم في ترسيخ الهاجس المخزني و إعادة إنتاج صيغ الإقطاع ، عن طريق " السخرة " و " الفريضة " و " الهدية " و " التويزة الإجبارية "..
لقد أخبرنا مجموع المبحوثين أنهم لا يهابون شخصا في هذا العالم أكثر من الشيخ و زبانيته من المقدمين ، و أنهم يضطرون للعمل " بالسخرة " في حقوله المترامية اتقاء لظلمه و جبروته ، في الثوابت إذن لا كلمة تعلو على كلمة الشيخ و بعدا على كلمة المخزن الغائر في تضاريس الحياة الاجتماعية بالرغم من غيابه المادي من إمكانات هذه الحياة ذاتها ، فالحضور المخزني هنا مجسد من قبل الشيخ فقط ، و لا تلوح بالمرة أية مؤسسة دولتية أخرى خارج المستوصف الذي جاد به عطف الراهبات .هذا ما انكتب في حكايا أحد الثوابت البائسة ، و هذا ما يتواصل إلى حدود اللحظة في تفاصيل المغرب العميق .
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الطاولة المستديرة | الشرق الأوسط : صراع الهيمنة والتنافس أي


.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية




.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ


.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع




.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص