الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الممسوخون

سامي عبدالعال

2016 / 8 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المثقف حينما يطرح نفسه في ألعاب سلطوية فهو كائن مسخ. لأنَّه يبدو مرئياً خلال الشاشة الفضية وقد أكد أهداف السلطة المتلاعبة بالمشاهدين اثباتاً لهيمنتها. كما أنه يظهر بلا أفكار مميزة. كلامه يجري لإرضاء أسياده دون اختلاف. هو يفعل ذلك كأنه منذ البدء صنيعة ماكرة للسلطة. فيظل عالقاً بوجودها منفذاً أغراضها على مستواه الفكري والخطابي. كثيراً ما رأينا هؤلاء المثقفين العرب- مع الأحداث السياسية اليومية- كائنات ممسوخة تقطن الشاشات الفضية على مدار الساعة. ويتفننون في الدفاع عن مآرب الأنظمة الحاكمة متناسين القضاياً الحيوية للإنسان كإنسان.
الكائن المسخ مرادف للشيء الذي بلا معالم. وجه مختلط بالعدم. وقد تكون له علامات مشوهة. لكنه ذات وجود انطولوجي مضطرب غير مؤثر. فالكائن يحتاج إلى تكملة تميزه عن غيره. هذا بالضبط ما يحتاجه المثقف تعبيراً عن علاقات الرفض للأوضاع القائمة. الحاصل أنه سلبَ (ذاتياً وثقافياً) كل إمكانيات نشاطه. وبذلك خضع لدورات استعمالية جعلته إفرازاً قميئاً لأي وضعٍ سياسيٍّ.
فمن حينه يظهر المثقف العربي بوجه متواتر على شاشة معينةٍ كأنه محجوز لها. هو موظف خاص يلهث بتعليقات تخدم سياسات مشبوهة. لقد جعل من الثقافة ممارسة فاقدة للمضامين الكونية والفلسفية. تلك التي تتجاوز أية مواقف ضيقة. الأمر الأبرز أنَّ من يكرر هذا العمل يجري اعتباره مثقفاً لا يُشق له غبار. ويتحول من باحث عاديٍّ يتعثر في اولويات التفكير إلى مبدع وصاحب مؤلفات بمقدار القوى الناتجة عن استعمال التليفزيون في تشكيل الرأي العام. فهذا الجهاز لا يحوي فضائيات وبرامج وتغطية إخبارية فحسب لكنه معمل خيالي لتجريب وانتاج صور الأشياء، نماذجها ودلالتها. ويترك تأثيره حتى مع اغلاقه المادي لكونه يؤسس لما يريد فيما وراء الواقع الغُفل.
ومع احساس المثقف المسخ بالقوى الناعمة المرتبط بها لا يستطيع الاستفاقة من تلك الحالة. لعله داخل أتون ينصهر فيه كأنه قد أخذ قدرات إضافية مع تعميده خلال كل مرة يظهر فيها على نطاق واسع. والسلطة تستغل المثقفين في اشباع مناطق النقص لديهم. وعندما تعطيهم حالة الشهرة المخدرة فإنها تقرب صاحب الولاء الأكبر لمصالحها. وبذلك تكتمل حلقات مترابطة: هذا الكائن الطامح إلى الشهرة والثروة. ثم السلطة التي تستعمله. في مقابل جماهير لا تدرك غثاً من ثمين. وتعيش في برك آسنه من التسلط والقهر. إذن التسمية (أي المثقف) خطأ. ليس لأنَّها لا تطابق مضموناً حقيقياً بل بسبب كون التسمية وهميةً إلى حدٍ بعيدٍ. فلئن كان ثمة شيء وهمي في حياة العرب المعاصرين فهو عالم الميدياً. إنه يمسخ كل شيء مميز نافياً قدراته الخاصة.
وبالتالي فالقضية المهمة: هل يمكن صناعة المثقف؟! هل يتسنى فرضه بصورة مقبولة دوماً أو حتى غير ذلك؟ كيف توضع درجات للمثقفين كأنَّها قائمة تجريديه لأهميتهم؟ أليس المثقف هو الكائن القلق وجودياً مع تأرجح المصير؟ بالفعل إنَّه- عكس ما سبق منذ قليل- تاريخ من التفكير التأسيسي، تراكم معرفي ينصهر في رؤى للعالم والحياة. وقد يقترن بمواقف حية يُفرز خلالها الأفعال والأحداث. ذلك استناداً إلى معايير نقدية تميزه عن بقية محترفي صياغة الأفكار. وإذا كان بإمكان أي شخص المساهمة في مجرى الأحداث فهو المثقف. لأنَّه يظل مرهوناً بقضايا ضروريةٍ كليةٍ لا مجرد انحياز شخصي.
هكذا يُفترض اهتمام المثقف بأسئلة أساسية: كيف نفهم أنساق الثقافة بواسطة التداعيات الظاهرة لما هو عميق وممتد تاريخياً؟ لماذا تأتي الأعماق السحيقة زمنياً في عصور تاريخية دون سواها؟! ما هي إمكانيات الحياة الإنسانية في مسيرتها الزمنية؟ المثقف الكبير بنَّاء وناقد عملاق للمعاني والتصورات. فهو يفاجئ فاعلي الثقافة بتفسير حركتهم اليومية راسماً آفاق نافذة لم تكن مطروقة. والواقع عادة هو حجاب الثقافة العربية الغليظ. لأنه صلد وغير قابل للزحزحة. ويؤشر إلى مفاهيم الحقيقة والآن والتاريخ وماذا سيكون غداً. ومع ذلك تكمن الثقافة فيه كهسيس الهواء وحفيفه غير المحسوس.
للأسف كل ذلك لا قيمة له. طبعاً لا قيمة له حال استعمال المثقفين في حياتنا العربية بسطوة الرواج الإعلامي المشار إليه. لقد كان العصر الراهن عصراً تليفزيونياً وفضائياً بلا منازع. وخلق واقعاً بديلاً عن الواقع الأصلي الذي نرتكن إليه. فوق ذلك أخذ يقلب الصور النمطية عن الحركة والفعل، بل دخل إلى جوف التفكير ذاته والقدرة على معادلة التصورات الجارية.
الفضاء الاعلامي حدد ماذا عساه أن تكون حدود الوعي. لأنَّه يتميز بالإلحاح على ما يريد دونما شعور بنواياه الحقيقية. الاعلام هو أخطر ما يمرر المآرب من غير الإمساك به. ولأن مجتمعاتنا العربية مغيَّبة فإن استفاقتنا تأتي من "فاعل بيتي" اسمه التليفزيون. والأخير لا يأتي بماهية الأشياء بل يرتبط - في سياقنا- بالأنماط الزائفة منها. ذلك بحكم أنَّ الشاشة الفضية ليست عالماً افتراضياً خالصاً. إنَّها "أنياب أيديولوجية" تنهش عقول المتلقين ليلاً ونهاراً ، وكل ذلك بلا تحديد ولا تصفية.
هكذا باستطاعة الشاشة الفضية قلب المعايير رأساً على عقب. بل لم لا تقلب الحياة –أيضاً- بتلك الطريقة؟ فالمجتمعات العربية التي نراها خلف الشاشة الفضية ليست هي الحالة الجمعية الجغرافية المشار إليها. وإذا كان التليفزيون في العالم كله وسيطاً معرفياً فليس كذلك بهذا التوصيف لدينا.
1- لأنَّ العقلية العربية لم تطور هذه الوسيط لأغراض معرفية ولا حياتية. كانت عقلية تتلقى الوسائط كما تتلقي السلع المادية.
2- أممت السلطة السياسية الشاشة بحيث لا يسمع من خلالها إلى صوت أحادي منفر.
3- كانت الشاشة منفذا لملء الفراغ الروحي والفكري نتيجة غياب الثقافة المنفتحة ونتيجة غياب التنوع والاختلاف.
4- حصرت الشاشة الحقائق في شكل السلطة القائمة. لأنه الأخيرة عودت أعين المتلقين وأسماعهم على رؤية الحقائق عبرها لا غير. لدرجة أنَّ بعض المجتمعات العربية لا تصدق الحقيقة، أية حقيقة، إلاَّ إذا كانت من تلفزيون الدولة الرسمي.
5- اضحت الشاشة حظيرة لترويض الجمهور. وذلك باسم الثقافة العامة. ومن هنا تم اللعب على شهوات القطعان. وذلك حينما ارتبط الاعلام بالتفاهة والتعري بلا حدود.
6- غدا الخطاب الاعلامي خطاباً عدوانياً. إنه يفترض افتراساً لأعداء مفترضين. بواسطة خلق مساحات التربص والمؤامرة على الدولة والتاريخ. وطبعاً هذا يغذيه الرضا الذاتي ضمنياً على حال الدولة ومؤسساتها وأنها تخطو في الطريق الصحيح بثبات وتطور!!
الآن كان على المثقف المسخ أن يراوغ كل تفكير حر لصالح تلك الحظيرة الافتراضية. المشكلة هنا ليست ما إذا كان التليفزيون قد طور الحياة والمعارف كما يذهب بيير بورديو أم لا. لأنَّ الثقافة لدينا ليست حرة التكوين من الجذور. لا مجال عام يستطيع الافلات من سلطة الدهماء مرة أو سلطة الجماعة الموروثة مرة أخرة أو السلطة القمعية سياسياً مرة ليست بالأخيرة. وهذا ما يجعل الثقافة فعل ترويض للجماعة داخل سياج من التواطؤ السياسي والديني والاجتماعي المتشابك. إنَّ هذا التواطؤ يتبادل التغذية الراجعة كعمل قيد الممارسة باستمرار.
ولهذا ما لم يمتلك المثقف قدراته النقدية الطليقة لن يكون إلا فريسة لأي من هذه السلطات. فالمثقف نشأت معه- أو هكذا يفترض- بذرة الفعل العمومي المؤثر. هذا الذي ينبغي عليه حراسته كما تحرس الحيوانات المفترسة قوانين الغابة. وعليه أن يتفلت من أي نزوع لامتلاكه. لأنه لم يكُن مروضاً باي اسم من الأسماء: الدول، السلطة، المجتمع، المعرفة، الدين. إذن كيف للمثقف(وهو جزء منه) أن يدمر آليات المسخ الذي يطال الجميع؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وول ستريت جورنال: الحوثيون استحدثوا طرقا جديدة لتهريب السلاح


.. استهداف محيط بلدة شقرا جنوبي لبنان




.. في أول أيام العيد.. فلسطينيون يزورون قبور شهدائهم في دير الب


.. المتحدث العسكري الإسرائيلي: حزب الله أطلق أكثر من 5 آلاف صار




.. شاهد: الشرطة الألمانية تطلق النار على رجل هدد عناصرها بفأس و