الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإستعلاء الديني و تداعياته على قضية التماسك الوطني في المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة، و محاولة الإجابة عن سؤال إمكانية إعادة بناء الذات الفردية في تلك المجتمعات (السودان نموذجا)

زاهر موسى عبد الكريم

2016 / 9 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الإستعلاء الديني و تداعياته على قضية التماسك الوطني في المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة، و محاولة الإجابة عن سؤال إمكانية إعادة بناء الذات الفردية في تلك المجتمعات (السودان نموذجا)

زاهر موسى عبد الكريم

في يوم محاكمته ذائعة الصيت عبر التاريخ، حيث صدر عليه الحكم بالموت بتُهمة الكفر بالآلهة و إفساد عقول الشباب في مدينة أثينا في اليونان القديمة، ذكر الفيلسوف اليوناني سقراطSocrates ، خلال مرافعة عظيمة ارتجلها أثناء تلك المحاكمة عبارته الشهيرة: "إن الحياة غير المُجرَّبة لا تستحق أن تُعاش" ، أو حسب الترجمة الإنجليزية. "the unexamined life is not worth living" القصة طويلة، و لكن ما يهمنا منها هو ذلك الدرس العظيم و المثال الفعلي الذي قدمه شيخ الفلاسفة سقراط للبشرية فيما يتعلق بمسألة بناء الذات الفردية للإنسان و صقلها ثم الثبات على المبدأ في وجه القيم الإجتماعية و الثقافية الرجعية، المستجيرة بهيمنة و غلبة النظم السياسية القمعية الراعية و المساندة لها. و هذا هو المنطلق الذي سوف أعالج من خلاله، في نهاية هذا المقال، مسألة إمكانية إعادة بناء الذاتagency reconstruction بالنسبة للفرد داخل المجتمعات الإسلامية في البلدان العربية، و التي تؤكد العديد من الأحداث السياسية التي جرت في الساحة العربية المحلية و الإقليمية في الآونة الأخيرة أن هناك مآخذ و علل كبيرة أعترت منظومة القيم الإجتماعية و المعايير الأخلاقية social values and standards of ethicsالتي تحكم العلاقات الإنسانية داخل هذه المجتمعات. إذ أنه من الواضح أن عامل التنشئة الإجتماعية، بالإضافة إلى عوامل أخرى لا يتسع المجال للحديث عنها في هذا المقال، قد أسهمت في ظهور العديد من الاختلالات و المعضلات الإجتماعية داخل هذه المجتمعات و التي من أبرزها ظواهر الفوضى، العنف، و العصبية السياسية و الدينية. و إذا أستمر الأمر على هذا المنوال، فإنه حتماً سوف يؤدي إلى إحداث نتائج كارثية على المستوى الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، و مناطق شمال، شرق، وغرب أفريقيا، خصوصاً و أن النشاط التعبوي للعديد من الجماعات "الإسلامية" المتطرفة بدأ ينشط بشكل مكثف في هذه المناطق مؤخراً.

تأسيساً على حالة السودان، يعالج هذا المقال، بشكل رئيسي، ظاهرة الإستعلاء الديني religious superiority المرتبطة بالاتجاه العام للتنشئة الإجتماعية mainstream socializationالسائدة داخل المجتمعات الإسلامية المعاصرة في البلدان العربية و تداعيات ذلك على موضوع التماسك الوطنيnational cohesion في هذه البلدان . يعتمد التحليل الذي اتبعته في كتابة هذا المقال على ملاحظاتي للمسار العام لعمليات التنشئة الإجتماعية و الدينية في مجتمعات "شمال السودان"، مجتمع "العاصمة المثلثة" على وجه الخصوص. و كذلك يعتمد على ملاحظاتي لعدد من ردود الأفعال و التفاعلات التي أبداها بعض الشباب العربي المسلم عبر وسائط التواصل الإجتماعي فيما يتعلق بالعمليات "الإرهابية" التي نُفذت في عدد من الدول الغربية مؤخراً و تبنتها فيما اصطلح على تسميته "جماعات الإسلام السياسي" في الأوساط الأكاديمية. ينقسم المقال الى ستة أجزاء رئيسية تشمل مقدمة المقال، التأطير النظري لظاهرتي الصراع و العنف الدينيين في عالمنا المعاصر، توضيحات هامة حول بعض القضايا المصطلحية و المنهجية للمقال، بعض مظاهر الإستعلاء الديني في المجتمعات الإسلامية المعاصرة في البلدان العربية، تداعيات مسألة الإستعلاء الديني على موضوع الوحدة الوطنية في السودان، ثم أخيراً خاتمة المقال و التي أحاول من خلالها تقديم بعض المقترحات حول أُسس إعادة بناء الذات الفردية داخل المجتمعات الإسلامية في البلدان العربية.
التأطير النظري لظاهرتي الصراع و العنف الدينيين في عالمنا المعاصر:
بشكل عام، إن المتابع للأحداث السياسية المعاصرة على إمتداد الكون الواسع لا بُد أن يلاحظ أن المجتمعات البشرية تعيش في عالمٍ بدأت تشكله و تحدد معالمه، بصورة كبيرة، ظاهرة الصراع/ أو العنف الديني المسيس. و كما يؤكد الفيلسوف الأمريكي المعاصر سايمون كريتشلي Simon Critchley أن السياسةpolitics ، الدينreligion ، و العنف violence، قد أضحت العناصر الثلاثة البارزة التي تُشكل الواقع السياسي الذي نعيشه اليوم. و هنا، أجدني أتفق مع الحجة التي يطرحها كريتشلي مؤكداً على أن العنف الذي تتم ممارسته تحت غطاء الدين، في الغالب الأعم، ما هو إلا وسيلة للوصول إلى أهداف و غايات سياسية محددة للمنظمات، و الهيئات، و الجماعات "السياسية" التي تقف من وراءه . و عليه، فإنه من الصعوبة بمكان تفسير الواقع المعاصر الذي نعيشه ما لم نفهم العلاقة المعقدة التي تربط بين الدين و السياسة فيما أصطُلح تسميته "تسييس الدين" politicization of religion. هنا، كما يذكر سايمون كريتشلي، أن الواقع المعاصر في جميع أنحاء العالم يكشف أمثلة متشابهة يستخدم فيها الدين كغطاء لتسويغ العمل السياسي . و يبدو هذا الأمر جلياً من خلال النماذج الأربعة التالية:
أولاً، الإسلام السياسي Islamism، و الذي على أساسه يتم تبرير الفعل السياسي على أُسس و مرجعيات دينية (مثلاً، أن تبرر التنظيمات "الإسلامية" المتطرفة المعاصرة استهداف المواطنين الأبرياء و قتلهم تحت مسمى الجهاد و الشهادةmartyrdom ).
ثانياً، النيوليبرالية العسكرية Military neoliberalism، المتمثلة في الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة، و التي قامت على أساس أن هناك ارتباط عضوي بين عقيدة السوق الحر free market doctrine و مفاهيم الحريةfreedom ، الديمقراطيةdemocracy ، و حقوق الإنسانhuman rights . و بنفس القدر، يتبنى هذا التنظيم سياسة التدخل العسكري الكثيف تحت مسمى الحرب على الإرهاب war on terror، التي يتم تبريرها من خلال أيدولوجية صراع الحضارات clash of civilizations، في الوقت الذي نلاحظ فيه أن مفهوم الحضارة نفسه تُحدده القوى الإمبريالية العالمية.
ثالثاً، الصهيونية Zionism، و التي على أساسها قامت دولة إسرائيل من خلال منطق الهُوية و الدين المسيسين identity of politics and religion. و من خلال هذا التوجه، فإن أي انتقاد يُوجه للسياسة الإسرائيلية يتم تفسيره من قِبل المتشددين الصهاينة على أنه معادٍ للسامية anti-Semitic، و ضد اليهودية.
رابعاً، الديمقراطيات الاجتماعية المحافظةSocial democratic conservatism، حيث نجد أن دولاً مثل هولندا، الدنمارك، فرنسا، سويسرا، فنلندا، و عدد كبير من الدول الأوربية ترفع شعار الدفاع عن تقاليد الثقافة الأوربية ("مثل التسامح tolerance، التكامل integration، دولة الرفاه welfare states") مبطنة من خلال سياسات عنصرية خفية ضد الجيل الثالث من أبناء المهاجرين المسلمين اللذين يتم وصفهم دائماً بأنهم مهاجرين غير راغبين في الاندماج في المجتمع الأوروبي.
توضيحات هامة حول بعض القضايا المصطلحية و المنهجية للمقال:
و قبل المضي قدما في موضوع المقال، هناك بعض الاعتبارات المصطلحية و المنهجية للمقال و التي لابد من توضيحها و تجليتها:
أولاً، بشكل عام، يمكن ملاحظة نوعين شائعين من أنماط ظاهرة الإستعلاء الديني داخل المجتمعات البشرية التي تعتنق الأديان أو الشرائع الإبراهيمية، تحديداً اليهودية، المسيحية و الإسلام. النوع الأول، الإستعلاء الديني على أساس العصبية الدينية لدين إبراهيمي معين ضد الأديان أو الشرائع الأخرى، مثلاً "اليهود" ضد "المسيحين"، "المسلمين" ضد "اليهود"، "المسيحين" ضد "المسلمين". أما النوع الثاني هو الإستعلاء الديني داخل الدين الإبراهيمي الواحد على أساس العصبية لطائفة أو جماعة دينية معينة ضد طائفة أو طوائف دينية أخرى تعتنق نفس الدين، مثلاً "السُنة" ضد "الشيعة"، أو "الوهابية" ضد "الصوفية"، كما هو واقع الحال في كثير من المجتمعات المسلمة في البلدان العربية. إن الجزء الأكبر من تركيزي في هذا المقال ينصب على النمط الأول من أنماط الإستعلاء الديني.
ثانياً، مصطلح "السودان الشمالي" أو "شمال السودان" Northern Sudan، عنيت به في هذا المقال الإشارة إلى المفهوم التاريخي الأيديولوجي لمصطلح "شمال السودان" ideological Northern Sudan، و ليس الشمال بمعناه ومدلوله الجغرافي. و وفقاً لهذا المنظور الإيديولوجي، يشير مصطلح "شمال السودان" إلى كل المجموعات السكانية "العربية" و المُستعرِبة التي تعزو هويتها الدينية إلى الإسلام و تتواجد في الحيز المكاني الواسع الذي يضم أقاليم شمال السودان، وسطه، شرقه، و غربه (كردفان و دارفور). و هنا، من الملاحظ أن مصطلح "شمال السودان" يعتبر المقابل لمصطلح "جنوب السودان" التاريخي الأيديولوجي .بمعنى أن "جنوب السودان" يتم وصفه، وفقاً لهذا المفهوم، على أساس أنه "أفريقي" الهُوية الإثنية، و "مسيحي" و "وثني" من حيث الهُوية الدينية. و من المعروف أن جنوب السودان قد انشق عن الشمال و كوَّن دولة مستقلة منذ يوليو2011 . و من ناحية أخرى، اريد أن أوكد إن استخدامي لمصطلح "مجتمعات عربية" ليس المقصود منه الخوض في مناقشات طويلة حول موضوع الإثنية و مسألة أفريقانية السودان أو عروبته، بل أن تلك دلالة قصدتُ منها لفت الإنتباه إلى أن غالبية مجتمعات "شمال السودان" تُعرِّف نفسها على أساس الهُوية العربية الإسلامية. و في ذات السياق، يستطيع المرء أن يُلاحظ أن ما يُطلق عليه في السياق السيسيولوجي و الأنثروبولوجي بسيادة بنية الوعي القَبَّلي و العشائري tribal and clan consciousness تُعتبر أحدى الظواهر التي ألقت بظلالها الكثيفة على الممارسة الحياتية اليومية لعدد كبير من المجتمعات في "شمال السودان" و أصبحت سمة مميزة للظاهرة السياسية، الإجتماعية، و الدينية في هذه المجتمعات، كما هو الحال في عدد كبير من البلدان العربية. فعلى سبيل المثال يؤكد الكاتب يوسف ضمرة، في مقاله دور الثقافة القبلية في عملية التغيير، أنه "قد تحول الحزب السياسي مثلا في العديد من البلدان العربية إلى معادل موضوعي للقبيلة، وتحولت الاتحادات على اختلاف أنواعها والنقابات والجمعيات إلى بدائل عن القبيلة. بل يمكن القول إن مؤسسات وطنية وقومية كالجيش والأمن، ناهيك عن المؤسسات والدوائر المدنية الرسمية الأخرى أصبحت هي أيضا توازي القبيلة" .
ثالثاً، أن تناولي لظاهرة الإستعلاء الديني في المجتمعات العربية الإسلامية لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه الظاهرة غير موجودة في المجتمعات غير العربية و غير الإسلامية. و لكن تركيزي على المجتمعات العربية الإسلامية كان القصد منه هو تقديم شكل من أشكال النقد الذاتي self-criticismبغرض التوعية بمواطن الخلل التربوي و الإجتماعي للمجتمع الذي أنتمي إليه، سيما و أنه قد إتضح جلياً من خلال كثير من الأحداث السياسية و الإجتماعية التي شهدتها المنطقة العربية في الآونة الأخيرة، و خصوصاً فيما بات يُعرف بمرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي، أن الإتجاه العام للتنشئة الإجتماعية و الدينية التقليدية داخل هذه المجتمعات، و استغلال هذا الأمر من قِبل بعض جماعات الإسلام السياسي، يُعد أحد مسببات تنامي ظواهر العنف، و العصبية و الدينية في كثير من هذه البلدان (مصر على سبيل المثال) و هي تمر عبر هذه المرحلة المهمة من تأريخها السياسي و النضالي.
بعض مظاهر الإستعلاء الديني في المجتمعات الإسلامية المعاصرة في البلدان العربية:
إن من مظاهر الإستعلاء الديني الملحوظة التي تستوقف المرء بشدة في البلدان العربية في الفترات الأخيرة هي السلوك الذي ظل يمارسه عدد كبير من الشباب "المسلم" عبر وسائط التواصل الإجتماعي و المتمثل في إبداء مشاعر الفرح و السرور، بل و حتى الشماتة و التشفي أحياناً، تعبيراً عن قبول و استحسان اعمال العنف و الإرهاب التي تستهدف المواطنين في الدول الغربية، بحُجة أن هؤلاء "غربيين كفار"، أو "نصارى"، أو "يهود" و أن حكوماتهم هي السبب في كثير من المعاناة و الحروب التي يشهدها العالم العربي و الإسلامي اليوم. و خير مثال على ذلك هو نبرة الرضا و الارتياح التي لاحظتها في مشاركات عدد كبير من الشباب "المسلم" عبر بعض وسائط التواصل الإجتماعي في البلدان العربية فيما يتعلق بالعمليات "الإرهابية" التي نُفذت في عدد من الدول الغربية مؤخراً، خاصة هجمات باريس الأخيرة التي نُفذت في يوم الجمعة 13 نوفمبر 2015 و راح ضحيتها عدد كبير من المواطنين الأبرياء ما بين قتيل و جريح.
لا شك أن هذا النمط من التفكير و السلوك دليل على وجود خلل كبير في البنية الفكرية و النفسية و في منظومة الأخلاق و التربية التي ينشأ عليها الفرد المسلم في البلدان العربية في الوقت الحاضر. و هو دليل أخر على فشل مؤسسات التنشئة الإجتماعية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة في البلدان العربية على إستصحاب القيم العليا للدين الإسلامي مثل المحبة، الأخوة الإنسانية، العدل، التسامح، و حرية التدين، و من ثم إدماج هذه القيم في الحياة الإجتماعية لهذه المجتمعات. هنا، يمكن للمرء أن يجادل بقوة أن قيم النظام الإجتماعي القبلي التقليدي (مثل الحمية القبلية أو العشائرية، الإنكفاء على الذات، النزعة للعنف و الإقتتال، بنية الوعي التناسلية ، النظرة الفوقية للآخر المختلف و محاولة إلغاءه) قد أضحت من المفاهيم الأساسية التي ركبت على الدين و أختطفته، ثم تم إضفاء طابع القداسة عليها و إعادة إنتاجها داخل المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة على أنها القيم الإسلامية الحقيقية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. و عليه فقد أضحت كل جوانب الحياة الإجتماعية داخل هذه المجتمعات تُدار من خلال منظومة القيم القبلية العشائرية التقليدية، سواء كان ذلك داخل مؤسسات التنشئة الإجتماعية المختلفة أو من خلال النظم الإجتماعية و المعايير الأخلاقية التي تُوجه عمل هذه المؤسسات. و فيما يتعلق بجدلية العلاقة بين القبيلة و الوطن يقدم المفكر سيد القمني تحليلا دقيقا من خلال نموذج جزيرة العرب يصل من خلاله إلى خلاصات مهمة حول الموضوع حيث يؤكد أنه: "لا تعرف القبيلة شيئا اسمه الوطن ولا تملك انتماء ولا عواطف لأرض ولا تتفهم معنى المواطنة، ما تعرفه شيء اسمه (الحِمى)، والحِمى للقبيلة هو المعادل التصوري المعنوي البديل للمواطنة، هو شيء غير محسوس مُبهم يمثل ويدل على توحد القبيلة والتحامها ببعضها يتحرك معها أينما يمَّمت ويمتزج بها وبأفرادها. "
تداعيات مسألة الإستعلاء الديني على موضوع الوحدة الوطنية في السودان:
أما فيما يتعلق بحالة السودان، يستطيع المرء أن يدفع بالحجة التي تقول أن ثقافة الإستعلاء الديني، القائمة على أفضلية "الشمالي المسلم" على "الجنوبي غير المسلم"، و التي تمت ممارستها، لفترات طويلة، من قبل كل من مؤسسات الدولة و المجتمع على المواطنين الجنوبين في "شمال السودان" كانت أحد مسببات إنفصال جنوب السودان. و عليه، فعوامل إنفصال جنوب السودان لم تكن إقتصادية و سياسية فحسب ، أو نتيجة محضة لتآمر دول الغرب على السودان كما يردد باستمرار عدد كبير من الكتاب و المحللين السياسيين في الوطن العربي . بل أن العوامل الإجتماعية و الثقافية وطريقة التعاطي معها من قِبل الدولة و المجتمع كانت أيضاً من أسباب الإنفصال. و بشكل عام، أن التنشئة الإجتماعية التقليدية التي يتربى عليها الفرد "المسلم" في مجتمعات شمال السودان، و بالتالي تُشكل وعيه الفردي و الجماعي، قائمة على إفتراض الأفضلية على "غير المسلم" قيمياً، روحياً، و إجتماعياً. و أن "المسلم" هو محور و غاية هذا الكون، و أن الرب قد أحبه و اصطفاه دون سواه من الناس، و أنه مهما فعل و أذنب و أعتدى فإنه في نهاية الأمر سوف ينال رضى الرب و يدخل الجنة. أما "غير المسلمين" من خارج نطاق "شمال السودان"، و اللذين يتم تصنيفهم تحت مسميات "وثنيِّن"، "مسيحييِّن"، "يهود"، "خواجات" ، "أفارقة"، فإنهم يُعتبرون من "أهل النار"، و أن كل حياتهم، قيمهم، منجزاتهم لا معنى لها، لأن الله قد خلقهم و سخرهم لخدمة "المسلمين" حسب التصور الذهني للعقل العربي المسلم التقليدي في "شمال السودان". و في كثير من الأحيان يتحد عاملا الإثنيةethnicity و الدين، فتتطابق صورة "المسلم" مع "العربي"، و بالتالي تتوطد في مخيلة الفرد "العربي المسلم" مفاهيم الأفضلية و الاصطفاء الإلهي على الأفراد الذين ينتمون إلى الإثنيات الأخرى غير العربية، خصوصاً غير المسلمين منهم. من خلال هذه التنشئة الإجتماعية التقليدية تشكلت الصورة النمطية stereotype"للجنوبي" في الوعي الجمعي لمجتمعات "شمال السودان". و من وجهة نظري، أن هذا الطراز للتنشئة الإجتماعية يُعد من ضمن الأسباب التي مكنت العديد من الحكومات المتعاقبة في السودان من إستنفار و تجنيد عدد كبير من المواطنين في "شمال السودان"، على أسس دينية تحت مسمى الجهاد، لمناصرتها و القتال في صفها في حروبها ضد حركات النضال و المعارضة السياسية المسلحة في جنوب السودان. و من ناحية أخرى، إن هذا النمط من التنشئة الإجتماعية هو السبب الأساسي الذي يفسر الغياب المستمر للتعاطف الشعبي (إلا في حدود ضيقة جداً) مع ضحايا الحرب من إخوتنا و بني جلدتنا في جنوب السودان لفترات طويلة استمرت منذ منتصف الثمانينيات و حتى تاريخ إنتهاء الحرب الأهلية و توقيع إتفاقية السلام الشامل في السودان في العام 2005. و على الرغم من أن تلك الحرب شهدت ممارسة انتهاكات إنسانية بشعة و واسعة النطاق بحق ملايين المواطنين الأبرياء من الأطفال و النساء و العجزة، إلا أن الوعي الجمعي المسلم التقليدي في "شمال السودان"، و في البلدان العربية، لم يأبه بذلك كثيراً على إعتبار أن هؤلاء الضحايا "غير مسلمين" و أن معاناتهم ليست أمراً ذي بال بالنسبة "للمسلم".
خاتمة: بعض المقترحات حول أُسس إعادة بناء المجتمع و الذات الفردية داخل المجتمعات الإسلامية العربية:
إن السؤال الضروري و المهم الذي يطل برأسه في نهاية هذا المقال هو: هل من الممكن إعادة بناء الفرد في المجتمعات الإسلامية في البلدان العربية، و بالتالي إعادة تشكيل تكوينه الفكري، النفسي، و الوجداني بحيث تتوافق قيمه و مبادئه مع جوهر تعاليم الدين الإسلامي التي كرمت الإنسان و نادت بضرورة تعزيز قيم الأخوة بين البشر؟ في اعتقادي أنه رغم صعوبة عمليات إحداث مشاريع النهضة الإجتماعية، إلا أنها تظل على الدوام خياراً ممكناً و قابلاً للتحقيق. و من وجهة نظري، بالإضافة إلى أهمية إحداث التغيرات الإقتصادية و السياسية، فإن التغيير يستلزم بذل جهوداً جبارة في الجوانب الإجتماعية التربوية بالإضافة إلى المعرفية الفكرية.
فيما يتعلق بالجوانب الإجتماعية التربوية، فمن وجهة نظري أن التنشئة الدينية يجب أن تقوم على تدعيم مبدأ التعايش بين جميع البشر على أساس الانتماء الإنساني. و نجد أن هذا المبدأ الإنساني المهم قد أكده القران الكريم مراراً و تكراراً. على سبيل المثال جاء في الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات التالي :"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " . و هنا يقول المفكر الإسلامي يوسف القرضاوي أن "النبي –عليه الصلاة والسلام- في حجة الوداع وأمام مائة ألف من أصحابه، جاؤوا من قبائل العرب يعني قال: أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجميٍ على عربيٍ، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقوله (عند الله أتقاكم) معناها عند الله يعني في الآخرة، يعني لا يأتي واحد ويقول: أنا أفضل منك لأني تقي، وأنت غير تقي " . و في ذات السياق يذكر الأكاديمي و الداعية الإسلامي محمد النابلسي: "إن النبي صلى الله عليه وسلم ربط ربطاً محكماً بين الأخوة الإنسانية وبين الإيمان، بل جعلها مِن مقوماته ، فعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ـ في الإنسانيةـ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ، وفي رواية : وحتى يكره له ما يكره لنفسه، وقد ذكر بعض شُرَّاح الحديث أن كلمة أخيه في الحديث لم تُقيد بصفة تحدُّ إطلاقها والمُطلق في النصوص المحكمة على إطلاقه" . و تتأكد اهمية أن نعيش أخوة متحابين، أو على الأقل احترام الرابطة الإنسانية التي تجمعنا كبشر، من خلال إدراك حقيقة أن التدين هو شأن بين العبد و ربه يختار فيه الفرد الدين الذي يرغب بدون أي إكراه أو سلطة دينية كهنوتية. و في هذا المدلول يذكر القران الكريم: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" نقطة أخرى لابد من ذكرها في هذا السياق هي لابد من أن تستند التنشئة الإجتماعية في البلدان العربية على قاعدة أن جميع الأديان السماوية ذات أصل و منشأ واحد و عليه لابد من الابتعاد عن العصبية الدينية و المذهبية، مما يجعل الباب مفتوحاً على الدوام للحوار و التعايش بين الأديان. و في هذه النقطة يذكر المفكر الإسلامي حسن الترابي "إن البعد عن عصبية الدين، والتحرر من التعصب المذهبي، هو الباب المفضي إلى حوار حقيقي بين الأديان، فإذا ترك أهل الأديان التعصب كل لمذهبه وملته، وأقبل على دراسة الأديان بعقل متفتح، كان أحرى أن ينكشف له الأصل الواحد لهذه الأديان، واشتراكها في القيم الأساسية التي تدعو لها. وهذه هي دعوتنا اليوم: أن تقوم جبهة أهل الكتاب، والكتاب عندنا يطلق في القرآن ويقصد به كل كتاب جاء من عند الله" .
أما بخصوص الجوانب المعرفية الفكرية، فإنني أيضا أرى أنه لا بد من إجراء مراجعات شاملة و جذرية في المقررات و المناهج الدراسية و التربوية. و من وجهة نظري، هنا يجب إعطاء حيز أوسع لتدريس الفلسفةPhilosophy و الفنونArts. لأن الفلسفة سوف تسهم في تطوير النواحي النقدية التحليلية لعقول الأفراد، أو ما أطلق عليه الفيلسوف أفلاطونPlato ، مؤسس أول أكاديمية في التاريخ، منهج التفكير الجدلي. dialectical thinking أما تدريس الفنون فإنه سوف يساهم في ترقية الجانب الشعوري و الوجداني في شخصيات الأفراد. بالإضافة إلى ذلك، فالفن هو لغة عالمية توحد البشر على أساس الانتماء للإنسانية humanity.
و في ذات الإطار، فإن تجديد الفكر الإسلامي يُعد من الموضوعات ذات الأهمية القصوى لإحداث هذه النهضة المنشودة. في هذه النقطة يذكرنا الدكتور مصطفى محمود قائلاً: "و النظر في الدين و تطوير فهمه مطلوب ، و تاريخ الإسلام كله حركات إحياء و تطوير .. و القرآن بريء من تهمة التحجير على الناس و كل شيء في ديننا يَقبل التطوير .. ما عدا جوهر العقيدة و صُلب الشريعة .. لأن الله واحد و لن يتطور إلى اثنين أو ثلاثة .. هذا أمر مطلق .. و كذلك الشر شر و الخير خير .. لن يصبح القتل فضيلة و لا السرقة حسنة و لا الكذب حلية يتحلى بها الصالحون . و فيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر و الاجتهاد و الإضافة و التطوير. و جوهر الإسلام عقلاني منطقي يقبل الجدل و الحوار و يحض على استخدام العقل و المنطق" . و في ذات السياق، يشير المفكر الإسلامي حسن الترابي إلى نقطة في غاية الأهمية و هي حتمية ارتباط مسألة تجديد الفكر الإسلامي بموضوع الحرية الفكرية و الدينية. و يذكر الترابي مشخصاً هذا الوضع في العالم الإسلامي قائلاً: "إن المسلمين يفزعون جدًّا من الحرية، حتى الذين يدعون إلى فتح باب الاجتهاد مثلاً، وإذا جئت برأي جديد - وهو بالطبع نتيجة لازمة للحرية - قامت الدنيا كلها: من أين أتيت بهذا؟ ومن أين نقلته؟ ولم نسمع بهذا في آبائنا الأولين! فكثير من المسلمين يخافون من الحرية، ويرون أن للدين في كل فرعية دقيقة من فروع الحياة رأيًا واحدًا ننتظره من أفواه العلماء وننبش التراث حتى نقف عليه. والحرية إذا اتسعت، اتسعت الآراء وازدهرت وتكاثرت، وإن كان في الدين يقينيّات وقطعيات يجمع عليها الناس فستقوم حولها آراء واختلافات وظنّيات واسعة. والله سبحانه وتعالى ابتلانا بهذا القدر من الظنّيات، وهو الذي قدّر أن تكون واسعة بهذا المدى، ولا يمكن أن نعطِّل هذا الابتلاء بأن نردّ الدين كله إلى قوالب جامدة، فلا بد من إتاحة الحرية حتى يألفها المسلمون ولا يفزعوا من الخلاف مثلاً ويحسبوا كل خلافٍ فتنة، ولا يقدروا أن كل شيء في الدين قطعي، فإذا اتسعت أمامهم الطرق تبلّدوا واحتاروا وارتبكوا ارتباكاً واسعاً" .
و عليه، فإنني أيضا أرى أنه لابد لنا كمسلمين من أن نُعيد قراءة القران الكريم و السنة النبوية و أن نُخضع تأويلاتهما لمناهج و مفاهيم العلم الحديثة، خصوصاً العلوم الإجتماعية و الإنسانية، بحيث لا تكون تفسيراتهما و تأويلاتهما حكراً على التعاطي العلمي وفقاً لمناهج و مفاهيم علوم القرآن بمعناها التراثي التقليدي. و بالضرورة فإن هذا مفاده إجراء مراجعة شاملة و إعادة قراءة و تحليل التراث الفقهي الإسلامي في مختلف الجوانب الإجتماعية، السياسية، الإقتصادية، و التشريعية القانونية. و في هذا السياق فإنه لابد من إجراء مراجعات معرفية وفقهية جوهرية لما يُعرف بفقه "الولاء و البراء" في التراث الإسلامي. لأنه من الملاحظ أن الكثير من الرؤى الصدامية و غير المتسامحة مع الأخر المختلف،) سواء كان ذلك في إطار تحديد العلاقة بين المسلمين و غير المسلمين، أو في نطاق تحديد العلاقة بين الجماعات و الطوائف الإسلامية المختلفة(، تستند في أغلب الأحيان على بعض التفسيرات المتطرفة لمفهوم الولاء و البراء. و في ذلك يقول الأكاديمي و الداعية الإسلامي عصام بن عبد الله السناني "إن عقيدة الولاء والبراء من أخطر أبواب المعتقد ، لأنها أحد أبواب التكفير التي ولج منها الخوارج قديما ومن سار على طريقتهم ممن جاء بعدهم لتكفير المجتمعات وتدمير الممتلكات بِشُبْه واهية كعش العنكبوت [...] وقد رأيت ذلك بنفسي عيانا في بعض الشباب الذين دخل عليهم بعض التشويش من جهة عدم فهمهم لحقيقة الولاء والبراء عند أهل السنة والجماعة ، بل صرح أكثرهم -إن لم أقل كلهم- أنهم لم يكونوا على علم بكثير مما سمعوه من أحكام الولاء والبراء ، وأن موالاة الكفار أقسام، لكل منها حكم يختلف عن غيره" .
أخيراً، بعد إجراء كل التغيرات الإجتماعية التربوية بالإضافة إلى المعرفية الفكرية المشار إليها أعلاه، يظل هناك تحدي أساسي أخير و هو ضرورة أن يمارس الأفراد نقداً ذاتياً لكل القيم الثقافية و الإجتماعية التي نشأوا عليها، خصوصاً تلك المتعلقة بالروايات و القصص الرئيسية التي على أساسها تشكلت رؤيتهم لأنفسهم و للأخر المختلف. إن مسألة حتمية ضرورة ممارسة النقد الذاتي ترتكز بشكل أساسي على الرؤية التحليلية التي قدمتها الأكاديمية و الفيلسوفة الأمريكية المعاصرة جوديث بوتلر Judith Butler لمفهوم الحقيقة الإجتماعية social reality. حيث ترى بوتلر أن الحقيقة الإجتماعية ليست معطى موضوعي، و لكنها تصور إجتماعي ذاتي أو "وهم" يتم خلقه في ذهنية الأفراد من خلال اللغة، الثقافة، و علامات التفاعل الإجتماعي الرمزي . و عليه تكون الولادة الحقيقية للفرد في اللحظة التي يقوم فيها بإخضاع موروثه الثقافي و الإجتماعي الذي تربى عليه للتمحيص و الاختبار و ذلك من خلال مواجهته لذاته بكل أمانة و تجرد لمعرفة إلى أي مدى تمكنه موروثاته الثقافية و الإجتماعية التي نشأ عليها من تقبل و احترام الأخر المختلف عنه، أياً كان نوع هذا الإختلاف ديني، عرقي، اثني، أو كان خلافاً قائماً على أساس الانتماء الوطني، المستوى التعليمي، التوجه الفكري، الحزب السياسي، أو على أساس أي مرجعية أخرى من مرجعيات الانتماء البشري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حتة من الجنة شلالات ونوافير وورد اجمل كادرات تصوير في معرض


.. 180-Al-Baqarah




.. 183-Al-Baqarah


.. 184-Al-Baqarah




.. 186-Al-Baqarah