الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف الداندي

وليد يوسف عطو

2016 / 9 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



ظهر مفهوم المثقف الداندي في كتابات محمود احمد السيد في بداية القرن العشرين , ويصفه بالشاب الذي يهوى ارتداء الملابس الحديثة ويضع ربطة عنق تشبه الفراشة . وكما تقول الباحثة فاطمة المحسن في كتابها (تمثلات الحداثة في ثافة العراق ):

(ويغرم بالبدلات الغريبة والاحذية الايطالية , ويتصرف ويمشي مثل الجنتلمان الانكليزي , ويرفض مطالعة الادب الوطني ولا يقرا سوى الروايات والقصص باللغات الاجنبية ).
هذا النمط من المثقفين يشير الى تاثير الثقافة الغربية في العراق . تقول فاطمة المحسن ان هذه الظاهرة توضحت في الثلاثينات من القرن العشرين , لكن جذورها تمتد الى ظهور ( الافندية )في بغداد في نهاية السيطرة العثمانية .والافندية هم المتعلمون الذين احتلوا وظائف حكومية وعرف بعضهم لغات اجنبية وبدا قسم منهم يميز نفسه عن الاخرين بطريقة معيشته وملابسه عن طريق لبس البدلات الغربية والطربوش التركي .

وكانوا يشعرون بالتعالي عن الاخرين . انتقد رائد علم الاجتماع في العراق الدكتور علي الوردي طبقة الافندية في مؤلفاته لكونهم يحملون نظرة غير واقعية عن الحياة في العراق .
تصف الباحثة فاطمة المحسن صفات الداندي بالقول :
( تكاد تقترب سمات المثقف الذي يصفه السيد – تقصد محمود احمد السيد – دون ان يجد تسمية مناسبة , في مايسميه بودلير (الداندي ) (The Dandy )والترجمة العربية لاتفي بكلمة واحدة كي يستكمل المعنى .فالداندي ليس المتانق او المتشاوف والمترفع فقط , فهو نتاج الحداثة في الحياة والسلوك , فالوعي بالحداثة كحالة معاشة تفرض احساسا بالتفوق والانفصال عن الاخرين وتمييز النفس بمظهر يلفت الانظار ويشيع بين الناس قدرا من الدهشة والعجب ).

الداندية ظاهرة موجودة في كل مراحل التاريخ . تكتب فاطمة المحسن في نهاية بحثها عن الداندية بالقول :
(يختفي المثقف الداندي في فترات الاحتدام السياسي ,الحروب والانقلابات وهيمنة العنف ,فوجوده دائما يؤشر الى حياة ثقافية مستقرة, او على وشك الاستقرار,ولعل موت حسين مردان وهجر الفنانين العراقيين لممارسات الحياة المترفة والمفرطة في تانقها وطقوسها الجميلة كانت ايذانا بتراجع العراق تدريجيا نحو حالة الانكفاءالثقافي ) .

يمثل الشاعر العراقي حسين مردان نموذجا متميزا للمثقف الداندي المحلي في العراق والذي قام بدور الصعلوك والمتشرد في عالم الثقافة .كان حسين مردان يطلق على نفسه تسمية بودلير العراق . ومثلما دفع بودلير ثمن مجونه وحوكم على لغته , احيل بودلير العراق الى المحاكمة اثر نشره ديوانا اباحيا .ورغم ان التهمة لم تصاحبها عقوبة جدية, الا انها اعطت للديوان شهرة تفوق قيمة قصائده .

يقول الشاعر حسين مردان عن نفسه في تردده على منطقة الميدان حيث بائعات الجسد :
(وكانت طريقتي في معاشرة بنات الليل لاتتعدى التعارف الجسدي ولمرة واحدة فقط .. ولقد التقيت بعدد هائل منهن !!مائة..خمسمائة .. الفا!اظن ان الرقم الحقيقي يتجاوز ذلك . ومنذ ذلك اليوم اصبت بذلك الداء الوبيل .. داء الملل والهرب من اي جسم جميل اقوم بخدشه ) .

يخترع حسن مردان مكان خارج انظمة الضبط الاجتماعي . فهو (فارس ليل )يحيط به المثقفون وبنات الهوى , ويمارس عليهن وعليهم سطوته . ورغم كل شيء كان الملل يجعله قادرا على انتاج المعنى الجديد والمعنى الثقافي الذي يتشكل في وعيه كشاعر رومانسي , وهذه احدى سمات الثقافة.

كان حسين مردان يلقى الاعجاب في اوساط المثقفين وانتخب في اول لجنة لاتحاد الادباء عام 1959. يحكي قصة انتسابه الى اليسار حيث شارك في تظاهرة في بداية الاربعينات واعتقل بعدها قبل ان يرحل من ديالى الى بغداد :
(كان معظم اهالي مدينتي يعتقدون بانني نصف مخبول .فقد كان شعري الطويل الذي يشبه شعور الهيبيين اليوم محل نقمة وسخرية من قبل الكبار والصغارعلى السواء .ولست ادري ما الذي جعل بعضهم يطلب الي ان القي كلمة في المتظاهرين . ربما لانه لم يكن بين الجموع من يوحي منظره بقدرته على القاءخطاب مناسب.ولكن خيل الي في تلك اللحظات المنعشة بالنسبة لاعصابي الباردة , انهم يريدون تجربة هذا المجنون الذي يدعي العبقرية .وقد برهنت على جنوني فعلا , فمضيت ازرع الفضاء بجمل نارية لاينطق بها الا من كان يحلم بشرف التفاف الحبل حول عنقه ).

كان حسين مردان يملك كاريزما نادرة تركت تاثيرها على الكثير من اصدقائه حتى بعد وفاته بسنوات . فبقي بلند الحيدري ورشدي العامل وفوزي كريم يكتبون ويرددون في مجالسهم حكايات حسين مردان , وهي حكايات الثقافة العراقية بتفصيلاتها اليومية .
استطاع حسين مردان ان يحظى بالتكريم خلال عهد البعث الثاني عن طريق تعيينه بوظائف مرموقة في الاذاعة والتلفزيون .وقد زاد عدد المعجبين بكتاباته من خلال عموده الصحفي الاسبوعي .

حسين مردان يمثل الداندي العراقي المحلي , حيث يكون بمقدوره تقليد شخصية الفتوة في الحارة البغدادية والمتعالي على ذلك المكان , حيث تتجاوز احلامه حدود العراق .

خاتمة المقال :

في زمن العراق الردي اختفت ظاهرةالداندي العراقي حيث كل الناس يعيشون حياتهم بالبحث عن لقمة الخبز والبحث عن عمل ودفع ايجار المسكن وايجار مولدة الكهرباء والخوف من التفجيرات والمفخخات . من جراء عصر العولمة انتقل المثقف من الكتابة الورقية الى الكتابةالالكترونية والبحث عن هوية جديدة .

مقالات ذات صلة:

مقالتنا (ظاهرة حسون الامريكي والميني جوب واغتراب والمنشورة على الرابط التالي :

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=530828








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقالات ممتعة
د.قاسم الجلبي ( 2016 / 9 / 11 - 16:32 )
هذه المقالات تجعلنا ان نرحل الى الماضي الجميل رغم مرارته من قسوة الحياة ومطاردة البوليس السري ايام العهد الملكي و ولكن اخي السيد وليد مقالاتك هذه حسون الامريكي والميني جوب والداديه لهذا اليوم تجعلني اشعر ببعض الآرتياح والابتعاد عن مواضيع الساعة السياسيةمنها والتفجيرات الآخيرة التي تطال ببغداد الحبيبه, ارجوا ان ترشدنا على الحصول عل كتاب السيدة الباحثه فاطمة المحسن للاسترشاد بابحاثها والقراءة بالمزيد عن ايام بغداد في الثلاثينات والآستمتاع بهذه المناخات الثقافية التي لم نعيشها, مع التقدير


2 - ثقافة الاخصاء والعنف والدموية واذلال الانسان!
طلال الربيعي ( 2016 / 9 / 11 - 17:43 )
الزميل العزيز وليد يوسف عطو!
شكرا على مقالك, واود ان اعقب على ما تذكره بخصوص شاعر الاحتجاج والتمرد, حسين مردان, حيث اختارته الجماهير لالقاء خطبة, والذي كان سببه حسب تعبيره هو: -انهم يريدون تجربة هذا المجنون الذي يدعي العبقرية .وقد برهنت على جنوني فعلا , فمضيت ازرع الفضاء بجمل نارية لاينطق بها الا من كان يحلم بشرف التفاف الحبل حول عنقه-.
وتحدي مردان هذا ليس من دليل لجنونه بشئ, بل هو عين العقل. فقد كان هو النقيض الحي لثقافة القطيع, ثقافة الاستسلام والخنوع, التي بلغت اوجها لاحقا لتصبح هي الطاغية قاطبة عبر العقود, حيث استفحلت في عهد البعث ومن ثم ما بعد الاحتلال. فالخنوع والاستكانة والخوف والجزع هي سمات ثقافتنا الحالية التي ابتلعت االيسار كما اليمين. وهذه -اللاثقافة- هي التي مهدت لتعزيز او تأسيس احزاب وحركات ارهابية وقمعية ودموية وفاشية كحزب البعث وداعش وارباب المحتل بكل اشكالهم والوانهم المقرفة وبعدائهم للثقافة والحياة على حد سواء.
يتبع


3 - ثقافة الاخصاء والعنف والدموية واذلال الانسان!
طلال الربيعي ( 2016 / 9 / 11 - 17:48 )
وللاسف الشديد, فان ماكنة الدولة وآلياتها الجهنمية لم يستطع حتى مردان النجاة من حبل مشنقتها ولم يستطع مقاومة الاغراءات, فلم يتمكن من الحفاظ على -جنونه- فتعقْل, واصبح موظفا مرموقا في الدولة واحد الذين ينطبق عليهم عنوان رواية دستويفسكي -مذلون مهانون- وهو عنوان اكثر صلاحية لان يصف من يروجون الآن للاستكانة والخنوع والعبودية باسم العقلانية والحذافة والكياسة والنضوج السياسي وفهم (هادئ وموضوعي!) لواقع الحال
والحفاظ على عمليتهم السياسية النتنة, وكلها بالطبع مفردات تهدف الى اخصاء الناس وقتل شعلة الامل وروح التحدي فيهم. ان ثقافتهم هي ثقافة الاخصاء والعنف والدموية واذلال الانسان.
مع وافر تحياتي


4 - الدكتور قاسم الجلبي المحترم
وليد يوسف عطو ( 2016 / 9 / 12 - 12:48 )
شكرا على اعجابكم بمقالتي..

زمن حسون الامريكي والميني جوب هو زمن الاسترخاء والرومانسيةوالاعتدال في الحياة العراقية لذا اعود اليها بين فترة واخرى.

كتاب فاطمة المحسن - تمثلات الحداثة في ثقافة العراق - متوفر في مكتبة دار الجمل في مدخل شارع.المتنبي يوم الجمعة ...

اما مكتبتهم الدائمة فتقع في باب المعظم ..

ختاما تقبل مني وافر محبتي وتقديري وامتناني..


5 - الدكتور طلال الربيعي المحترم
وليد يوسف عطو ( 2016 / 9 / 12 - 13:00 )
اسعدني حضوركم وتعليقكم الثمين على مقالتي ..

هنالك شعرة بين الجنون والعبقرية ..

اتفق معكم كان حسين مردان نقيضا لثقافة القطيع والخنوع ..

تتبع الدولة اساليب الترغيب والترهيب وحسين مردان في الاخير قبل بالمنصب وبالراتب والامتيازات لسد متطلباته الكثيرة..

اساليب البعث النفسية والقمعية تمت استعارتها من الانظمة الشمولية السابقة وفي فيديو على قناة الجزيرةمع حامد الجبوري يصف طرق استيراد اجهزة التعذيب والتحقيق من الاتحاد السوفييتي والمانيا الديمقراطية وغيرها ..

ختاما اتمنى لكم مزيدا من الابداع في بحوثكم ومقالاتكم ..

تقبل مني وافر التقدير والاحترام والمحبة.. ..




6 - الغالي ابي الخلود
Waleed Mahdi ( 2020 / 4 / 11 - 16:56 )
مقال رائع

لكن الداندية رجعت، وبصدى عولمي يمثل كل ما هو غربي، من الجوارب القصيرة، والملابس الضيقة والتسريحات الغريبة، بل حتى الميوعة والمثلية

اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-