الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول معرفتنا بالتاريخ

أحمد جعفر

2016 / 9 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حول معرفتنا بالتاريخ . (المسألة أكبر من الصدق والكذب)

إن تبرير وتحقيق معرفتنا بالتاريخ اكبر بكثير من قضية الصدق والكذب أو قضية الثقة عموما.حتى عندما نعاير نقولات اصدقائنا حول ما دار في غيابنا وما لم نشهده ، تكون المسألة ليست في تحريهم الدقة والحقيقة وأن يصدقوا معنا في ما دار ! والشواهد في ذلك كثيرة جدا ، مثلا عندما نستمع لسرد اثنين من أصدقائنا حول سهرة سمر دارت بينهم في الماضي ، من الممكن أن نجد لدينا روايتين مختلفتين ، بل تكاد متضاربتين ! لماذا ؟

إن التاريخ الذي تكون مادته الاولية هي الرواية ،بطريقة السرد، تكون فيه العملية التفضيلية الذاتية طاغية ! لأن الذي يسرد ، يقوم بتفضيل مضاعف ! أولا في (ما يدركه بحواسه وادراكه) ، ومن (ثم في ما ينقله ويحيكه) ! مثلا عندما ينقل لي أصدقائي ما دار حول خلاف بين إثنين، ينقل كل واحد منهم ما فهمه وظنه قد حدث! مثلا ينقل أن أحد المتخاصمين قد غضب كثيرا من كلام محدد ، وأنه حاول أن يقطع النقاش وأنه كان يرمي لهدف محدد ! قد ينقل الآخر أن ذات الشخص في الحقيقة لم يغضب كثيرا ، وإنما كان يوهم الناس أنه غضب ، وأنه لم يكن يناقش بجدية ، بل كان ساخرا في الأساس لأنه كان مخمورا مثلا ! لقد شكل الإدراك نفسه (تفضيل أولي) في سرد الروايتين ، من ثم شكل اختيارهم لسرد حقائق محددة (تفضيل ثاني) !

حتى التاريخ الذي تكون مادته الاولية الوثائق المكتوبة، هو ليس تاريخا موضوعيا يماثل ما حدث حقيقة ! هو كذلك سرد تفضيلي اختياري كما السرد الشفاهي ! مثلا هناك قصة سياسة جوستاف ستريسمان ، وزير الخارجية الألماني في جمهورية فايمار (المانيا حديثا) الذي توفي عام 1929 والذي كتب تاريخه صديقه الوفي بيرنارد بعد أن ترك أكثر من 300 صندوق ملئ بالوثائق الرسمية وشبه الرسمية والخاصة لعمله طيلة الستة سنوات كوزير خارجية . عندما كتب بيرنارد كتابه حول سياسة ستريسمان ، كتب من خلال الوثائق نفسها، والتي أظهرت اهتمام كبير من ستريسمان بالسياسة الاوروبية والغربية عموما واهماله لسياسته مع الاتحاد السوفيتي ! عندما وقعت الوثائق في ايدي البريطانيين والامريكيين عام 1945 ،صار ما فعله برنارد ظاهرا للجميع !! لقد قام بيرنارد بعملية كتابة اختيارية ، ولكنها اختيارية لما يظنه برنارد مهما حول نجاحات ستريسمان كسياسي بارع في وقت كانت السياسة الغربية مهمة لاعتبارات مصالح أكثر من تلك مع الاتحاد السوفيتي! ولكن من بدأ هذه العملية الذاتية والاختيارية ؟ إنه ستريسمان نفسه ، لأنه هو من قام بعكس ما كان يظنه الواقع في وثائقه التي تركها ! ما قام به برنارد ومن قبله ستريسمان ليس كذبا او شيئا مستنكرا ! هو أمر طبيعي لخاصية التأريخ نفسها ! هي (العملية التفصيلية الاختيارية) !

المؤرخ عندما يسرد تاريخ وحقائق تاريخية ( historical facts ) ، فهو يعتبر أن هذه هي الحقائق المهمة وما دونها عوابر تاريخية ( historical farts ) لا أختار أن أحكيها لأنها غير مهمة لاعتبارات هي ذاتية في الحقيقة . ولذلك فالتاريخ هو ما يختار المؤرخ أن يسرده (وقبل ذلك ما يدركه) وهو ما يعتبره المؤرخ حقائق تاريخ تستحق أن تسجل، وفي ذات الوقت هو ما يختاره أن ﻻ يحكيه وﻻ يسرده وأن ﻻ يسجله بحكم أنها ﻻ تستحق التدوين فهي غير ذات شأو !

إذن عملية التاريخ هي عملية إختيارية تفضيلية ذاتية وليست موضوعية فالمؤرخ ينقل ويسجل ما يراه هو مفيداً ومهما وأساسيا، وليس بالضرورة أن يكون محقا فقد نختلف تماماً حول ما يستحق أن يسمى "حقائق تاريخية"، وحول ما يستحق أن يطوى في دفتر النسيان. كما يقول إدوارد كارر ، ما الذي يجعل معركة محددة مهمة ليكتب عنها المؤرخون هذا الكم الكبير من الروايات؟ إنه اعتبار المؤرخ الذاتي. ما يهمنا في التاريخ كما يقول كارر ليس أن معركة هاستينج كانت في 1066 مثلاً بدلاً من 1067 أو 1068، برغم أن الدقة مهمة، أو أنها كانت في هاستينج وليس إيستبيرج أو برايتون، وإنما أن تكون معركة هاستينج مهمة أساساً ليذكرها التاريخ. ! كما تقول المقولة أن "الحقيقة مثل وعاء أو أنبوب فارغ، ﻻ تأخذ شكلها إﻻ عندما ننفخ فيها" ! .

إن المعرفة بالتاريخ ليست معرفة عن الماضي، بل هي معرفة عن الحاضر الذي يتشكل في الرواية عن الماضي ! المؤرخ لا يمكنه أن يكون مرآة شفافة تنقل الماضي، لأنه يدرك ، وهذا هو المرشِّح filter الأول، من ثم يسرد، وذاك هو الثاني !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معركة رفح.. إسرائيل تتحدث عن خيارات بديلة لهزيمة حماس | #غرف


.. العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران.. عقبات -لوجستية- و-سياس




.. قصص ومعاناة يرويها أهالي منطقتي خزاعة وعبسان الكبيرة بسبب تو


.. شهداء غزة من الأطفال يفوقون نظراءهم الذين قضوا في حروب العال




.. نتنياهو: قمت بكل ما في وسعي لإضعاف قوة حماس العسكرية وقضينا