الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلاغة المظاهر - الإنسانية الإسرائيلية

محمود سامي البربري

2016 / 10 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نحن نحتاج باستمرار وربما بصفة يومية لأن نميز ونفصل بين ما يبدو عليه الشيء، وما هو عليه في الواقع. فنحن نعرف مثلاً أن الأرض ليست ثابتة رغم أنها تبدو كذلك، ونعرف عندما نشاهد ساحراً يأتي ببعض الخدع أن ما فعله حقيقةً مغاير لما تهيأ لنا أنه قد فعله، وكلما تعلمنا جديداً يتبدّي لنا الفارق بين ما كانت الأشياء تبدو عليه بالنسبة لنا في الماضي، وما فهمناه من حقيقتها بعد ما تعلمناه.
ورسخ في أذهاننا أننا عندما نكون بصدد تبني موقف أو تكوين رأي بشأن شخص أو حدث، يجب ألا نبني حكمنا علي المظاهر، وأن نحذر من تأثيرها المضلل والمزيف للواقع. وسلمنا بكون ما يجب علينا حيال المظاهر هو إزاحتها أو تنحيتها جانباً، حتي نتمكن من الوصول إلي حقيقة الأشياء وأصلها.
وبلغت هذه المقابلة بين المظهر والواقع حداً من الانتشار جعلها احدي الثيمات الرئيسة للكثير من النصوص الأدبية عبر العصور وحتي يومنا.
لخصها "أندريه جيد" في كتابه "rules of moral conduct" بقوله : لا تعر أي انتباه للمظاهر. وعبرت عنها "فيرجينيا وولف" في سيرتها الذاتية " moments of being " عندما شبهت المظاهر بسحابات قطنية تخفي حقيقة العالم. وجسدها شكسبير في شخصيات الكثير من مسرحياته كـ"ماكبث" و " ريتشارد الثالث" و "ياجو" إحدي الشخصيات الرئيسية لمسرحية "عطيل".
حتي أصبح من الصعب، ويكاد يكون مستحيلاً أن تجد من يختلف حول ضرورة تهميش المظاهر وتجاهلها في سبيل حكم أصوب وأكثر أخلاقية علي الأشياء.
وبالرغم من ذلك، أثبت أن هذه الفكرة ربما لاتدخل حيز التطبيق في أحيان كثيرة، وأننا كثيراً ما نبني أحكامنا علي شخصيات من حولنا ( أو علي الأقل انطباعنا الأول عنهم، والذي يدوم طويلاً) علي مظهرهم1&2.وعادة ما يكون هذا بدون وعي تام منا بهذه الأحكام التي نصدرها. وأن هذا ربما لا يقتصر علي تعاملاتنا الشخصية، بل قد يمتد ليشمل أحكاماً بالإعدام قد يصدرها بعض القضاة علي متهمين، متأثرين في ذلك بشكلهم الخارجي3
ولكن حقيقة أننا علي اختلافاتنا نأتي باستنتاجات متشابهة عن الأشخاص بناء علي مظاهرهم، لا تعني أننا محقين في ذلك. قد يكون هناك شيء من الصحة في الارتباطات اللاواعية التي طورناها بين بعض الخصائص الظاهرية للأشخاص وبعض من صفاتهم الشخصية4، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة صحة استنتاجاتنا النهائية بشأنهم، كما أشار عالم النفس بجامعة برنستون "ألكسندر تودوروف".

وهناك فرق واضح بالطبع بين المظاهر المفروضة علي الشخص مبدأياً سواء بسبب المولد أو الجنس أو الحالة المادية أو حتي القيود المجتمعية، وبين ما يختار الشخص أن يظهره عن نفسه.

حيث يجب أن نعي جيداً ما يمكن أن تعنيه المظاهر، وما يمكن أن تفيده الاختيارات الظاهرية للإنسان أو المجتمع قبل أن نقرر تجاهلها أو اعتبارها في أحكامنا، فاختيارات البشر لما يريدون أن يظهروا عليه يمكن أن تخبرنا بأشياء عن هوياتهم الحقيقية، لا تخبرنا بها أفعالهم في الخفاء.

وهو ما عبرت عنه –ربما بشيء من التطرف- شخصية "فرانك أندروود" الشخصية الرئيسية في مسلسل "House Of Cards " -والتي بنيت بالمناسبة علي ثلاثية روائية تحمل نفس الاسم للكاتب البريطاني " مايكل دوبس" والذي بني شخصيته الرئيسية علي شخصية الملك ريتشارد الثالث الشكسبيرية، التي ذكرتها سابقاً- عندما قال :" نحن لسنا إلا ما نختار أن نظهره (عن أنفسنا)."
فيجب إذاً أن ندرك أهمية المظاهر وتأثيرها، وأنه في بعض الأحيان تكون المظاهر هي الأجدر بالاهتمام من الواقع الخفي.
هذه الفكرة الشائعة عن التقابل بين المظهر والواقع، هناك صورة من صورها يلخصها مثل يهودي قديم يقول: " عدونا هو شخص لم نسمع قصته بعد." والذي أصبح شعاراً لـ "جين ندسن هوفمان" الناشطة الأمريكية التي كانت تعمل -إلي حين وفاتها عام 2010 - علي تحقيق السلام في الشرق الأوسط وإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ولمشروعها الرئيس "Compassionate Listening"5 المستمر حتي اليوم، في دعوة إلي أن جميع البشر لابد لهم أن يستمعوا إلي بعضهم البعض، ويفتحوا قلوبهم إلي قصص الآخرين ومعاناتهم الإنسانية، وعندها سيتعاطف الكل مع الكل، وتنتهي جميع الصراعات والنزاعات القائمة بينهم.
وهي نفس الفكرة التي تقدمها مدونات إسرائيلية مثل؛ Humans of Tel Aviv/ Humans of Israel/ Humans of Safed / Humans of Jerusalem. والتي أسست علي غرار المدونة التصويرية الشهيرة Humans of New York التي أسسها "براندون ستانون" عام 2010 والتي تقوم علي نشر صور لمواطنين عاديين مقيمين بالمدينة، مع حكاية قصصهم وطموحاتهم وأحلامهم ومشاكلهم. ورغم أن تلك المدونات ليس بها شيء مرفوض في ذاته، إلا أن الفكرة التي تقوم عليها والتأثير الذي يفترض بها أن تحدثه هو الذي يجب أن يسترعي انتباهنا.
يقول الصحفي والمصور "إريز كاجانوفيتز" مؤسس مدونتي Humans of Tel Aviv و Humans of Israel في حوار أجراه مع وكالة الأنباء الإسرائيلية6 ISRAEL21c : "أظن أن الناس حول العالم عندما يسمعون عن تل أبيب و اسرائيل، عادة ما يفكرون في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، ولكن هناك مجتمع مدني نابض بالحياة في اسرائيل...
عندما يري الناس صفحتي يفهمون أن تل أبيب والناس الذين يعيشون بها يشبهون الناس الذين يعيشون في نيويورك، باريس أو تورنتو. يشاركونهم نفس قيمهم، همومهم وقضاياهم...
أنا أعرض "واقع" المدينة بما أصوره..."
وهكذا يصبح الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وما نشهده من انتهاك لحقوق الفلسطينيين وأراضيهم هو المظهر الخارجي الذي يجب أن نتجاوزه من أجل الوصول لفهم أعمق بواقع الدولة الإسرائيلية وحقيقتها، وحينها سنتوقف عن معاداة الإسرائيلين وكراهيتهم.
يعد هذا مثالاً علي أننا قد نحتاج أحياناً أيضاً إلي إعادة الوصل بين ما يبدو عليه الشيء، وما هو عليه في الواقع، وإعادة الاعتبار إلي المظاهر، ليس فقط لتخطي تأثيرها الذي قد لا ندركه، والذي قد يجرنا إلي الحكم بالإعدام علي برئ، ولكن لأن تخطيها في بعض الأحيان قد يجرنا إلي التصالح مع "واقع" ظالم علينا-علي الأقل- أن نرفضه.


-مصادر:
1 : http://psp.sagepub.com/content/35/12/1661.full.pdf+html
2 : http://pss.sagepub.com/content/17/7/592
3 : http://spp.sagepub.com/content/early/2016/01/04/1948550615624142.abstract
4 : http://psycnet.apa.org/journals/psp/4/1/44
5 :http://www.compassionatelistening.org
6 : http://www.israel21c.org/humans-of-israel/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاتس: تركيا رفعت العديد من القيود التجارية المفروضة على إسرا


.. واشنطن تفتح جبهة جديدة في حربها التجارية مع الصين عنوانها ا




.. إصابة مراسلنا في غزة حازم البنا وحالته مستقرة


.. فريق أمني مصري يتقصّى ملابسات حادث مقتل رجل أعمال إسرائيلي ف




.. نزوح الأهالي في رفح تحت القصف المستمر