الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدل التاريخ والذاكرة في الاستوغرافيا المغربية ( 3)

مولاي عبد الحكيم الزاوي

2016 / 10 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


.
"في الذاكرة والتاريخ: فصل الالتباس"
يحيل مفهوم الذاكرة إلى آليات تمتل الماضي واستحضاره، هذا التمثل الاسترجاعي لنسق الذهنيات والتصورات الرمزية يستدعي حفرا شاملا في الذاكرة البشرية، كإنتاج اجتماعي وسياسي وثقافي، وتفاعلا لعدة مباحث إنسانية من تاريخ، فلسفة، علم نفس، سوسيولوجيا، انتربولوجيا، علوم سياسية، لسانيات، سيميولوجيا...فالذاكرة بتوصيف المؤرخ الفرنسي بيير نورا تمتل " ما تبقى من الماضي في أذهان الناس، أو ما يتصورونه بخصوص هذا الماضي" فهي موروث ذهني تختزل مسيرة من الذكريات الفردية والجماعية التي تغذي التمتلات المجتمعية .
إنها مجرد صورة عن ماضي وقع استحضاره، اختزاله، تضخيمه، تقزيمه، تبريره...وفق حاجيات اللحظة وتناقضات الراهن، غالبا ما تغلب عليها صفة "القدسية" و" الرمزية" كصورة بعض الشخصيات السياسية والدينية، صورة قد تمتزج فيها الصورة بالخيال، وتقود نحو اختفاء الواقع بتعبير جون بوديار، وظهور ما "فوق الواقع."
وعليه تتميز الذاكرة بتعدد المرجعيات، بتعدد الأفراد، الجماعات، المؤسسات...بالشفهية والإنتقائية والاحتفالية، بهدف تخليد الماضي، والاحتفال بالحاضر كنسق استمراري، عبر ممارسة الحكي والتذكر، مما يجعلها لصيقة بذاتية النظرة ونفسانية الحالة.
فالشهادة أو الذاكرة سواء كانت فردية أو جماعية تبقى ذات سمات ذاتية، انفعالية، رمزية، تفتقر إلى جهاز مفاهيمي، وتعمل بكيفية إرادية او لا إرادية على تضخيم/ تقزيم الوقائع وفق حاجيات اللحظة، ورهانات السياق المجتمعي، ومن ثم تبقى مجرد "صورة عن ماض متخيل وقع استحضاره" مطبوعة بقداسة ممجدة، كما يظهر في تقديس صورة بعض الرموز السياسية، مثل محمد الخامس المهدي بن بركة، عمر بن جلون، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله ابراهيم .
بينما التاريخ من حيث هو اشتغال مفاهيمي، موضوعاتي وإشكالي في آن، يقوم على المعالجة المنهجية، على "ترتيب الماضي" بعبارة لوسيان فيفر، على عملية بناء وإعادة بناء، كتابة وإعادة كتابة، صياغة وإعادة صياغة، لهذا الماضي، انطلاقا من سلسلة عمليات منهجية متداخلة، تشتغل بالتحليل والتأويل والنقد.
هذا الترتيب أو البناء لا يتأتى إلا بجهد متعدد اللحظات، لحظة إقامة البرهان الوثائقي، لحظة التفسير والفهم، ولحظة الكتابة، مما يطرح معه استعصاءات تمثيل شيء غائب وقع سابقا، واستعصاء ممارسة مكرسة للاستذكار النشط للماضي، والتي رفعها التاريخ إلى مستوى إعادة البناء ، فتنطوي بذلك، عملية معالجة أحداث الماضي على تعقيد منهجي ومسؤولية كبيرة من الوجهة التاريخية الصرفة، فالتاريخ كما قال بول فين هو "العلم الاجتماعي الوحيد الذي لا يتحكم فيه صاحب الاختصاص وحده، لأن التاريخ هو تناول متعدد، فبالإضافة إلى التناول الجامعي، التخصص الاحترافي، هناك تناول مدرسي من حيث المقررات الدراسية، وتناول إعلامي من حيث المقالات الصحفية والأشرطة الوثائقية المعروضة بالقنوات التلفزيونية، وتناول من حيث استعمالات الماضي لدى عامة الناس".
تقترن الذاكرة التاريخية أو الشهادة بتعبير بيير نورا "بإعادة بناء المخيال وخروج المكبوت" ، فالذاكرة تحكمها الغائية، وتشتغل من منظور الواجب تحت شعار "حتى لا يتكرر هذا" وغالبا ما تخضع لتوجهات سياسية وأخلاقية، من أجل بناء التجانس والإلتحام، كما برز في فرنسا لحظة انكسار الوجدان الفرنسي سنة 1870، حينما تعبأ مؤرخون من قبيل ارنست رينان وارنست لافيس وساتوبريان لإعادة بناء مفهوم "الأمة" و"اللحمة الهوياتية" إذ يقول في هذا الصدد " ينشأ جوهر أمة ما عندما يتقاسم أفرادها أشياء كثيرة، وأيضا عندما يتمكنون من نسيان أشياء مثيرة.
بينما الكتابة التاريخية تقوم على الموضوعية والتحليل والنقد، فالقارئ ينتظر من المؤرخ فك تعقيدات الماضي سواء كان قريبا أو بعيدا، ومساءلة الماضي والسعي إلى فهمه، هذا الفهم يقوم على النقد، على الاحتمال، على النسبية، لإعادة بناء نسق التطورات والاستمراريات الزمنية وسببية الأشياء، بعيدا عن أشكال الحكم المسبقة، لقد سبق لبول ريكور أن تحدث على أن " القاضي هو الذي يحاكم ويعاقب، والمواطن هو الذي يناضل من أجل النسيان، ومن أجل انصاف الذاكرة، أما المؤرخ فمهمته تكمن في الفهم دون اتهام أو تبرئة" .
لقد تتبع المؤرخ المغربي عبد الأحد السبتي تفاعلات قضية رجل الاستخبارات المغربية السابق أحمد البخاري بخصوص قضية المهدي بن بركة، وأثار قضية العلاقة التي تربط بين التاريخ والذاكرة، ودعا المؤرخين إلى ضرورة التمييز بين صنفين من الذاكرة: الذاكرة الجماعية والذاكرة التاريخية، بين الشهادة التاريخية والكتابة التاريخية. ومع ذلك، تبقى الذاكرة أكثر وقعا من التاريخ، بالقياس على درجة تأثيرها على أوساط عامة الناس، مع ما تختزنه ذاكرة هؤلاء من أحكام مسبقة موروثة جيلا عن جيل، فالتاريخ كما قال بيير نورا " ينتج كثيرا لكنه لا يقنع إلا قليلا، ليس فقط من حيث التلقي لدى المتمدرسين، بل حتى لدى المثقفين"، كما لاحظ كيف أن خزانات بأكملها حول بطلان العنصرية لم تتمكن من التغلب على الأحكام العنصرية المسبقة.
وعلى مستوى التاريخ الحديث، تتبعت المؤرخة الفرنسية لوسيت فالنسي موضوع الذاكرة من نافدة معركة وادي المخازن في كتابها المرجعي "أساطير الذاكرة" ، ووقفت على تحليل مستويات وأنساق الذاكرة، من منظور مخلفاتها الذهنية والرمزية والانفعالية عبر ثلاثة مستويات:
1- مضمون الذكريات من زاوية الفائز والخاسر " الذاكرة المغربية/ الذاكرة البرتغالية".
2- حول وسائل إنتاج الذكرى "التخليد والنسيان".
3- حول ما ظل خارج هذه الوسائل " التمتلات والأوهام".
يعيد كتاب "أساطير الذاكرة" بناء نسق من ذاكرة معركة الملوك الثلاثة، من زاوية بنائها الذهني، كما وقع تخليده في الذهنية المغربية، وكما وقع نسيانه في الذهنية البرتغالية، من زاوية توثيق الذاكرة وتخليدها بالنسبة للكتابة المغربية، وبثرها في الكتابة البرتغالية، من حيث علاقة الذاكرة المكتوبة بالذاكرة الشفهية، من خلال نظرة الذات للذات ونظرة الذات للآخر.
لقد ولد انتقال خبر معركة وادي المخازن شفهيا حسب لوسيت فالنسي تمثلات واحساسات مختلفة: بين المغاربة والبرتغاليين، إحساس بالعظمة والازدراء، يقابله إحساس بالغبن وعسر هضم الهزيمة.
وعلى أية حال، بدأ التفكير التاريخي في موضوع "التاريخ والذاكرة" نهاية سبعينيات القرن الماضي وتحديدا 1978م، السنة التي أصدر فيها المؤرخ الفرنسي بيير نورا مبحثا نظريا يحمل عنوان " الذاكرة الجماعية" ضمن كتاب جماعي " التاريخ الجديد" تحت إشراف جاك لوغوف، غير أن محاولات التأصيل لهذا النوع من الكتابة التاريخية، يعود بنا إلى الدراسة المرجعية التي ألفها موريس هالفاكس حول "الأطر الاجتماعية للذاكرة" خلال العشرينات، من خلال التركيز على سيكولوجيا الذاكرة، ليتعزز هذا النوع من المباحث التاريخية بصدور عدة انتاجات تاريخية، فقد إهتم مثلا الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في سياق المجابهة العلنية مع مؤرخي الحوليات في فترة السبعينات بالتركيز على أهمية السرد والحكي في بناء التاريخ، من خلال مؤلفيه المرجعين " الزمن والسرد"و" الذاكرة التاريخ والنسيان".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: الكوفية الفلسطينية تتحول لرمز دولي للتضامن مع المدنيي


.. مراسلنا يكشف تفاصيل المرحلة الرابعة من تصعيد الحوثيين ضد الس




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. برز ما ورد في الصحف والمواقع العالمية بشأن الحرب الإسرائيلية




.. غارات إسرائيلية على حي الجنينة في مدينة رفح