الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفكر جورج طرابيشي في كتابه ( هرطقات )

شكيب كاظم

2016 / 10 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يواصل جورج الطرابيشي مشروعه النقدي و الفكري ، وقلة هم المفكرون الجادون العرب بسبب مثبطات ومعرقلات تواجه عملية البحث و التفكير ، ذاتية وموضوعية تقف على رأسها السلطات القامعة للعقل و التفكير ، فضلاً على المجتمع ، الذي يكاد يكون أكثر قسوة من السلطة ، بسبب تفشي روح الجهل و الجهالة ، وتراجع المجتمعات العربية ، منذ صعود الراديكاليات إلى سدة الحكم بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين ، وشيوع الرأي الواحد ، الذي لا تجوز الكتابة خارج أطره المحددة ، لذا لجأ العديد من مفكرينا إلى الهجرة و مغادرة الأوطان ، بحثاً عن فسحة حرية ، وهواء منشط للعقل و الروح ولقد كنت قريباً من كتابات الناقد والمفكر جورج الطرابيشي، منذ كتاباته الأولى ، وفي الذاكرة كتابه النقدي الجميل (شرق وغرب . رجولة وأنوثة ) الصادرة طبعته الأولى سنة 1982 ، كذلك مشروعه النقدي لمدارسة ونقد فكر المفكر المغربي محمد عابد الجابري ، ومناقشاته الثرة و الثرية لفكر المفكر المصري حسن حنفي ، ولقد أطلعت مؤخراً على كتابه الموسوم بـ (هرطقات : عن الديموقراطية و العلمانية و الحداثة و الممانعة العربية ) وهو من منشورات رابطة العقلانيين العرب ، و الصادرة طبعته الثالثة عن دار الساقي ببيروت سنة 2011 ، و أشتمل على مجموعة من الدراسات ، و المقالات الفكرية ، التي سبق وأن نشرها المفكر الطرابيشي ، وعاد اليها بعد سنوات، ليقوم بعملية غربلة نقدية ، فيسقط منها ما يسقط ويستبقي منها الذي يستبقيه، كي يدفعها إلى النشر في كتاب ، قد يبقيها مدة أطـــــــول في ذاكرة القـــــراء ، التي تـــنسى للأسف سراعاً .

الخروج عن الدروب التي كثر سالكوها

لقد اشترط الناقد جورج الطرابيشي على نفسه ، كي يدفع بهذه الدراسات إلى النشر ، ثانية في أهاب كتاب ، ان تخرج في مضمونها عن الدروب المطروقة ، التي كثر سالكوها وكثر الذين كتبوا فيها ، بل كتابة مغايرة تكاد تقترب من الهرطقة ، وقد شاع التفسير السلبي لمفردة (الهرطقة) ، التي تأتي غالباً في الدراسات اللاهوتية المسيحية مرادفة للتجديف على العقيدة المسيحية ، ومن هنا جاءت لفظة المهرطقون الفريسيون ، ومنذ سنوات بعيدات قرأت كتاباً للباحث اللبناني الدكتور جورج حنا عنوانه (هرطقات فريسية ) ، لكنها في حقيقة معنى المفردة لغوياً وثقافياً تعني المغايرة ، و التفكير خارج عقل القطيع و العوام ، وهي أقرب إلى الإبداع والابتداع، في مواجهة الإتباع و الاستكانة و إقالة العقل .

لقد أحتوى هذا الكتاب المهم على خمس عشرة دراسة فكرية ونقدية ، توزعت على مناحٍ شتى في الفكر و السياسة و الرواية و الحركات الفكرية ، وقد كنت أتمنى على المفكر الطرابيشي لو أشار إلى مكان النشر أولاً وتأريخه ، لغرض التوثيق و التدقيق ، وإذ درس حركة الترجمة في العصر العباسي الأول ، التي قادها المأمون أيام صعود مجد المعتزلة ، التي كان المأمون من معتنقيها و الداعين اليها ، و التي وأدها الخليفة المتوكل ، الذي أقصى المعتزلة المنادين بالعقل، والذين كانت مقولتهم في خلق القرآن ، التي لم يحسنوا الدفاع عنها ، سبباً مهماً في قمعهم و الإجهاز عليهم .

لقد كانت دراسته الدلالية للرواية المهمة التي كتبها نجيب محفوظ في مرحلته المتأخرة ، والصادرة عام 1983و الموسومة بـ (رحلة ابن فطومة ) وعنوان الرواية يحيل القارئ الذكي المتدبر ، إلى رحالة من أشهر الرحالين العرب إلا وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي ، المشهور بـ (ابن بطوطة ) ، و الرواية هذه (رحلة ابن فطومة) رواية فكرية فلسفية استبطانية ، ترتبط بأكثر من وشيجة بروايته المثيرة للنقاش و الجدل ، الجدل الذي ثار متأخراً ، التي نشرها نجيب محفوظ بدايةً منجمةً في جريدة (الأهرام ) القاهرية منذ أواخر عام 1959 ، وحتى بداية عام 1960 ، عنيت بها روايته (أولاد حارتنا ) حتى إذا صدرت في كتاب لاحقاً ، ثار الجدل بشأنها فمنعت ،في مصر الآداب اللبنانية ، و المعروف لدى الدارسين و القراء النابهين ، أن نجيب محفوظ روائي صاحب مشروع فكري وتنويري ، وانه لا يقف عند لون من ألوان الكتابة الروائية إذ انتقل من الصيغة التأريخية في رواياته الأولى ، ثم مر بالرومانسية و النفسية فضلاً على الواقعية ، وما عرفت – كذلك – بالتأريخية ، و الصيغة النبوئية هو الذي درس حياة المجتمع المصري ، في الستينات ، وكأنه تنبأ بالذي سيحصل . كارثة الخامس من حزيران / 1967 ، فأصدر روايته (ثرثرة فوق النيل ) للحديث عن هذا المجتمع المسطول ، الذي يعيش معزولاً عن الحياة في العوامة ، لتأتي مرحلته الانتقادية مستخدماً لغة مكثفة أشبه بالبرقية في روايتيه ( الحب تحت المطر ) و( الكرنك ).

هل يعيد التأريخ نفسه حقاً

وإذا كنت تستطيع إحالة شخوص رواية (أولاد حارتنا ) الجبلاوي ورفاعة وعرفة وقاسم وجبل في هذه الرواية الكنائية إلى واقع الحياة و الأشياء ، فان الدارس لرواية (رحلة ابن فطومة) فضلاً على القارئ النابه ، بإمكانه استكناه مرامي نجيب محفوظ ، وهو يرحل بـ (قنديل العنابي) بطل روايته هذه إلى دار المشرق التي هي كناية عن الطفولة البشرية متمثلة بقارة افريقية ،ومن ثم توجهه نحو ( دار الحيرة ) التي هي قارة آسية ، وثالثة إلى دار ( الحلبة ) ، دار الحرية بجدرانها الزرق ، التي لو رجعنا إلى ألوان شعار اللجنة الأولمبية العالمية في عالم الرياضة ، وشعارها ذي الحلقات الخمس المترابطة ، فان الحلقة الزرقاء ترمز للقارة الاوربية ، وهنا يختبر نجيب محفوظ ذكاء قارئه ، فيجعل اللون الأزرق لدار الحلبة ، دار الحرية التي هي ليست داراً تنتج حضارة دائرية ، بل حضارة طردية مندفعة إلى أمام ، وتجهل مبدأ التكرار ، ولا تقول مع كارل ماركس ان التاريخ يعيد نفسه ، بل ان فلسفة هذه القارة الزرقاء ، قارة الحرية ، في الحياة و التأريخ : ان التأريخ لا يعيد نفسه وإذ تعجبه في دار الحلبة ، الحرية ، فانه لا يحب مفارقة واقع هذه الحضارة لمثلها ولا يعجبه الانفلات الجنسي ، فيغادرها نحو (دار الأمان ) أمان المعاش ودار المساواة و الأمن ، ولكن مجتمع العدالة الشاملة ، هذا تزاوجه دولة الأخ الأكبر ، دولة رقابية لا نظير لها في أي دار زارها أبن فطومة ، فمنذ وطئتها قدماه صار له مرافق ملازم كظله! فيغادر ابن فطومة نحو (دار الغروب ) دار أرذل العمر ، ومن ثم الموت ، ولعله ، نجيب محفوظ يعني الدولة العثمانية أخريات عقودها ، التي ظلت تحيا على هامش الحياة والتأريخ ، وان مناصبة المولوية العداء ، انما جاءت بأوامر من مصطفى كمال أتاتورك بعد ان أطاح بصيغة الخلافة وألغى الحرف العربي في الكتابة التركية ، مستعيراً الحرف اللاتيني ، بوصف المولوية جماعة من المتعطلين الكسالى والمعطلين للحياة .

دراسة مفهوم الآخر

ويدرس المفكر جورج الطرابيشي رواية (أصوات) للروائي المصري سليمان فياض في ضمن روايات لقاء الشرق بالغرب ، وإذا كانت أغلب رواياتنا في هذا المجال ، تحاول الحط من شأن الآخر ، و إعلاء الذات ، فان الباحثة الدكتورة ماجدة (محمد ) حمود الأستاذة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق و المولودة فيها سنة 1954 قد درست العلاقة من وجهها الآخر ، في كتابها النقدي المهم الموسوم بـ (إشكالية الأنا و الآخر – نماذج روائية عربية )… درست العلاقة مع الآخر لا بوجهها السلبي ، الذي درج الروائيون العرب على البوح به ، منذ (عصفور من الشرق ) لتوفيق الحكيم ، بل قدمتها بوجهها الايجابي ، وليست مع الغربي فقط ، بل مع الآخر الآسيوي ، وتحديداً الخادمة السريلانكية (كوماري ) في رواية ( بعيداً إلى هنا ) للروائي الكويتي عراقي الأصل إسماعيل فهد إسماعيل ، فضلاً على اليهودي كما في رواية (اليهودي الحالي ) للروائي اليمني علي المقري ، كذلك رواية (حفلة تنكرية للموتى ) للروائية السورية المقيمة في باريس غادة السمان، مصورة حياة الغربة التي تعانيها بطلة روايتها (ماريا)، حين تعقد آصرة وحواراً مع / وبين الأنا و الآخر الغربي ، الفرنسي تحديداً ، فترتب زيارة للفرنسية (ماري روز ) إلى لبنان كاسرة بذلك نمطية النظرة إلى العربي.

فان الطرابيشي درس مفهوم الآخر ليكون تكأة لنقد الذات من خلال (سيمون ) الفرنسية زوجة المغترب المصري حامد البحيري ، الذي أرسل زوجته لزيارة القرية التي ولد فيها البحيري هذا وعاش ، وما واجهته زوجته من مواقف سلبية ولاسيما من النساء اللواتي كن يغبطنها جمالها وذكاءها وثقافتها ، فيأتمرن بها ويدهمنها في حجرتها ، ويبطحنها على سجادة الأرض ، وتخدرها (نفيسة ) القابلة بالبنج ، ثم تباشر (تطهيرها ) بالمقص من الشعر الذي بين الفخذين، وبالموس من ذلك (الشيء ) بين شعر الفخذين ، و الفجيعة التي تدوي كالصمت بين الضجيج أن (سيمون ) لم تفق من البنج : أتراها ماتت من النزف أم من هول اللحظة ؟أم ماتت بكل بساطة لأنها فقدت ذلك الشيء الذي بدا وكأنه يعطيها روحها وحيويتها وهو ما يحدد ماهيتها كـ(أخرى)؟- تراجع ص 72.ص173 .

لقد وقف الدارسون عند مصطلح (العلمانية ) هل يلفظ بفتح العين بوصفها مأخوذة من العالم أي الدنيا ، أم كسرها كونها مصدراً لكلمة (العِلمْ ) لكن الناقد المفكر جورج الطرابيشي في دراسته المهمة – وكل ما جاء في الكتاب هذا مهم وجدير بالقراءة – و الموسومة بـ (العلمانية: مسألة سياسية لا دينية ) يقدم لنا فصلاً يعود إلى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي ، يؤكد علمانية اللفظة ، وانها جائية من العالَم ، وضعه الأسقف و اللاهوتي القبطي (سايروس بن المقفع )المولود سنة 915 في كتابه (مصباح العقل ) الذي جاء للحديث عن الخلاف بين الطوائف المسيحية بشأن زواج الكاهن ، وان ذكر هذه الصيغة من غير شرح ، ليدل على شيوع اللفظ ، وانه مفهوم لدى الناس عامة ، وبودي ان انقل جزءاً من النص الطويل الذي ذكره المفكر الطرابيشي وورد على الصفحة 216 من الكتاب .

قال الأسقف سايروس ( وقد رأى المتقدمون بعد ذلك رأياً في الأساقفة . أما المصريون فرأوا ان يكون الأسقف ، بالإسكندرية خاصة ، بتولاً لم يتزوج في حال عَلمانيته ، واما النسطورية و السريان فرأوا الا يكون الأسقف البتة ممن تزوج قبل أسقفيته …).

لغة الناقد المفكر جورج الطرابيشي راقية جداً ، تثري القارئ بتصريفات رائعة للكلمة العربية ، ولكني وجدت هنة لغوية هينة ، انه لايورد معنى لفظة (النحت ) على الوجه الصحيح ، إذ يقول، وهو بصدد الحديث عن لفظة (العَلمانية ) (وهذا معناه ان تاريخ نحت الكلمة يعود إلى ابعد من القرن الرابع الهجري ، وربما إلى القرن الثاني الهجري الذي شهد تعريب الكنائس المسيحية . هذا ان لم يعد إلى تاريخ أبعد ، نظــــــــراً إلى ثبوت وجود مسيحية عربية في نجران في اليمـــــن منذ القرن الخامس الميلادي على الأقل ) ص217. اقول ان حد النحت كما ورد في المعاجم ، ولاسيما في ( المعجم الوسيط ) الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، هو أخذ الكلمة وتركيبها من كلمتين أو كلمات يقال : بَسْمَّلَ ، إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم و حوقل أو حولق ، إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله ومنها العبدلة أو العبادلة أي الذين يحملون اسم ( عبد الله ) اما لفظة العلمانية التي أوردها المفكر جورج الطرابيشي فهي تصريف للمصدر ( العَلم ) الذي هو العالم وليس نحتاً للكلمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رياح شديدة وأمواج عاتية.. الإعصار بيريل يضرب الكاريبي


.. الإسكتلنديون غاضبون بسبب تأخر تلقيهم الاستمارات للتصويت في ا




.. الدكتور خليل العناني: الخارجية الأمريكية تحاول حفظ ماء الوجه


.. وزارة الداخلية التركية تفرض إجراءات جديدة في ولايات حدودية م




.. حملة بايدن تسعى لتبديد الشكوك بتبرعات مليونية