الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأزق الراهن

هيثم بن محمد شطورو

2016 / 11 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تـتـقـاطـر الحالات البشرية في جوهرها متـشابهة عبر التاريخ الإنساني. من الغرور الاعتـقاد أننا نمثل حالة غـريـبة و منـفصلة عن التاريخ الإنساني في جوهره المتـنامي ببطئ عبر القرون. ما من حجة دامغة تدفع إلى اعتماد السذاجة البرغسونية في تـشبيه التاريخ الإنساني بتطور من الطفولة الخرافية إلى الشباب الرومنسي الثوري إلى الرشد العقلاني إلى الشيخوخة الحكيمة، و إن كان من شيخوخة فأوربا الآن ليس من حيث ارتـفاع عدد الشيوخ فيها و إنما شيخوختها الحضارية.. بوجه من الوجوه يكون تعبير "فوكوياما" بـ"نهاية التاريخ" هو نهاية التاريخ الأوربي من حيث هو حضارة صناعية حديثة. نهاية التاريخ هي كذلك إعلان نهاية الحداثة و الكلام عن مابعد الحداثة. ما بعد الحداثة بما هي تعبير عن تفكيك الحداثة و فوضى في الرؤى.. التفكيك يترادف مع الانحلال و هي دلالات لغوية تحيل إلى الموت..
و لعل ما بلغته الرأسمالية في انـتـقالها من الاقـتصاد الواقعي الإنتاجي إلى الاقتصاد المالي أو ما يسمى بالرأسمالية المالية التي تكون حلبتها الرئيسية أسواق تبادل الأسهم من بيع و شراء و مضاربة و هو ما يسمى تحديدا البورصات المالية هو آخر نتاجات الرأسمالية و الوجه المادي المتعين من الحضارة الأوربية الحديثة.. و برغم انفصال الواقع عن مبشريه الليبراليـين فإن الرأسمالية بقدر لبرلتها بقدر استحواذها على تراث و ثورات فكرية و تاريخية و اجتماعية أصيبت بالصدمة نتاج المآل الرأسمالي المتوحش الذي أفقر الإنسانية من إنسانيتها..
و في نهاية المطاف أي ما نعيشه الآن عالميا، ماذا يعني الاقـتصاد الافتراضي و الاقـتراضي و الرأسمالية المالية غير كونه تآكل للخلايا غير المتجددة و المتضخمة؟ أي السرطان و الورم.. لأجل ذلك السرطان هو مرض العصر و هو تعبير مباشر عن سرطان الرأسمالية. و انك تجد ما يسمى "الكارثية" في الأدبيات الفلسفية الحالية (هابرماس) و التـنظير للتواصلية العابرة للغات و الألوان و اختلاف الثـقافات كمخرج من اللحظة الكارثية، تعبر عن هذا الورم كتعاكس علاجي.. إنها الخشية من التدمير الذاتي و تدمير ما تم انجازه منذ ما سمي بعصر النهضة الأوربية إلى اليوم..
***
في سنة 1991 حين تم الإعلان رسميا عن سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت النـقاشات محمومة و ساخنة جدا في أوساط اليسار المصدوم. لكن برزت نزعة تـفاؤلية (منطلقة من إيمان بالدور الحضاري العربي عبر التاريخ يمكن أن يستأنف نفسه أو يبعث نفسه من جديد) لم تكن مجانبة للصواب حين رأت في سقوط القلعة الشيوعية الرهيبة سقوطا موازيا للإمبراطورية الأمريكية. فهذا السقوط السريع المذهل للمعسكر الشيوعي هو لحظة غير مسبوقة في انفلات التحدي.. ارتخاء وتر القوس و بالتالي عـدم استعمالية القوس برمته..
قبل ذلك تم تـشبـيه الحرب الباردة بعمودين متوازيـين واقـفين نهايتهما احدهما مستـند على الآخر. سقط احدهما و بالتالي سقوط الآخر..
جنرالات و ضباط حلف "الناتو" حين تم تـفكيك حلف "وارسو" وجدوا أنفـسهم فجأة في حالة بطالة عملية. يلتحقون بمراكز عملهم ليسجلوا حضورهم فقط ليتسكعوا بعدها في الشوارع. حين ورد هذا الخبر حينها في بعض الجرائد العالمية ربما لا يدلل على كونه خبرا صحفيا ذو مصداقية بقدر ما مثل سخرية الأرجح أن يكون مصدرها يساريا. لا تخفى أبدا النـزعة التهكمية التي تعبر عن المرارة بقدر ما تعبر عن تكشف عبثية الأقـدار و ارتباط المتـناقضات بعضها ببعض.
وجد حلف "الناتو" نفسه في مأزق وجود و هو لا يزال إلى اليوم. من سخرية الأقـدار، أن تجهيـزاته المتطورة و طرق عمله شبه الخيالية و جميع تدريباته انبنت على ما أطلق على تسميته الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ريغن" بـ"حرب النجوم"، أي الحرب ضد الاتحاد السوفياتي ذو الترسانة العسكرية المشابهة.. و لكنه وجد نفـسه يتم إقحامه في حرب ضد دولة من العالم الثالث، أي العراق الذي لا يمتلك و لو قمرا صناعيا واحدا و لا يملك دفاعات جوية متطورة و لا أسطول ضخم من طائرات مقاتلة متطورة و لا حتى بارجة بحرية واحدة.. جل ما قام به حلف "الناتو" هو إفراغ شحنـته من القنابل دون تهديد يذكر أو ادني مقارعة جديرة بالاحترام بالنسبة لحرب الفرسان.. كانت نزهة قـتل فـظيع و لعبة استعراض للقوة ضد لا عـدو فعلي بمنطق المواجهة العسكرية..مثلت إجازة عن التسكع في الشوارع..
***
" لم يكن توازن الرعب أبدا غير المنحدر المذهل لنظام ردع تسلل من الداخل إلى جميع ثنايا الحياة. لا يؤدي التوتر النووي لغير ترسيخ نظام الردع المبتـذل الذي هو في صلب الإعلام و في صلب العنف العبثي الذي يسود في كل مكان من العالم، و في صلب الجهاز الصدفوي لكل الخيارات المعروضة..
الردع ليس استراتيجية، بل يُتداول و يُتبادل بين أوائل مستحوذي النووي، تماما كتداول الرساميل العالمية للمضاربة المالية التي يكفي دفقها للتحكم بجميع التبادلات العالمية. و هكذا فان عملية التدمير (بدون مرجعية تدمير واقعية، كما هي الرساميل العائمة من دون مرجعية إنتاج واقعية) التي تتداول في المدار النووي تكفي للتحكم بكل العنف و النزاعات المحتملة على الأرض"
(جان بودريار ـ كتابه المصطنع و الاصطناع ـ فيلسوف و عالم اجتماع فرنسي)
تحت قبة الردع النووي، نشبت حروب عديدة في العالم الثالث أدرجت ضمن سياقات الهيمنة و رفض الهيمنة الرأسمالية و لكنها جميعها مثلت تجديدا للرأسمالية.
الرأسمالية تجدد نفسها عبر شبكات رهيبة من الخدع المذهلة. الرأسمالية شبكة و ليست نظاما بما أن الفوضى (المضادة للنظام) تدرج ضمن آليات عمل هذه الشبكة. الرأسمالية تجدد نفسها من خلال اصطناع متـنـفـساتها في حق الإضراب عن العمل مثلا، و الذي كان فيما مضى سلاحا فعلا عند الطبقة العاملة في مواجهة الرأسمالي. كذلك مثلا فضيحة مثل فضيحة "إيران غيت" أو فضيحة صفقات الأسلحة إلى إيران "الخميني" و هي المخالفة لقرار مجلس الأمن باعتبار إيران دولة معتدية على العراق. كانت كذلك حرب أفغانستان ضد التواجد السوفياتي. كانت الحروب في إفريقيا و الصراع الذي لا يزال متواصلا بين الهند و باكستان..
ذلك و غيره مثل تحويل الثـقافة إلى سوق و تحويل الحرية إلى إيديولوجية للهيمنة على العالم و تحويل ثورة 1968 في فرنسا إلى ضرب السلطة السياسية و تحويلها إلى ممثل للسلطة، مثلما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية بعد اغتيال الرئيس الأمريكي كيندي، و الحرية الجنسية إلى صناعة أفلام "البورنو" و تحويل التواصلية الحميمية للجنس و ما مثلته دعوات الإباحية من رغبة في العودة إلى الطبيعة في شكل مناقض للرأسمالية الصناعية التي شيئت الإنسان، فإذ بتلك الشبكة الرهيبة من الخداع تمضي قدما بالإباحية على مستوى الصورة و لكن في أشكال شبه آلية تغرق التصورات الذهنية في ابتذال الجنس و بالتالي تحويله إلى أداة للإيغال في الاصطناع بدل أن كان مطلبا للعودة إلى الطبيعة..
الرأسمالية هي الشبكات المعقدة الشيطانية في ابتـذال الإنسان و الطبيعة. و لكن تختلط الأوراق فالآلية الرأسمالية التـقـليدية تـشتغل في الصين في ظل نظام الحزب الشيوعي الواحد. روسيا كذلك تعود بسرعة على يد "بوتين" إلى نفس موقع الاتحاد السوفياتي السابق من حيث التهديد. أزمة الرأسمالية العالمية في 2008 و التي تـفـترض وجوبا سيطرة الدولة على الدورة الاقـتصادية و لكن الحلول كانت وقـتية و بالتالي تأجيل الانهيار الكامل و ليس عملية قيصرية ضرورية. التـناقضات الطبقية الصارخة و بين الشمال و الجنوب مما خلق أزمة الهجرة غير الشرعية و تـنامي حركات اليسار و اليمين المتطرف....
و في قلب المشهد العالمي المأزوم انطلقت الثورة من تونس.. ثورة ضد الاستبداد و في النهاية ضد الشبكة الرأسمالية برمتها.. إنها ليست ثورة الياسمين و إنها ليست بربيع.. أي ربيع هذا فنحن لم نأتي بجحافل أجدادنا و عمقـنا الحضاري لنـزين الحدائق الخلفية للرأسمالية القذرة.. إنها ثورة حمراء نارية و إنها ثـقـب اسود سيبتلع العالم الحالي برمته لتجد الإنسانية نـفـسها في عالم جديد..
لذلك فانه يجدر بنا أن نفكر بعمق و ثـقة و ليس أن نفوت هذه الفرصة التاريخية.. من أهم متطلبات هذا التـفكير هو تحديد الزمان و المكان لما نحن عليه من مخاض روحي تاريخي.. إننا الآن قد خرجنا من منطق اللحاق بركب الغرب.. الغرب الرأسمالي يعيش مأزق النهاية.. إننا كذلك مدعوون للقراءة الشاملة انطلاقا من عودة الإنساني الالاهي الاخلاقي أي إرجاع معطيات القيمة في ذاتها للكائن الإنساني ليس كتـشيـيئ له في ماديته على مختلف المستويات و إنما في استـنهاض إنسانيته و تـثوير الاهه الذي في العمق.. أي أننا قد نستلهم من الأنوار الأوربية و الليبرالية الأوربية التي أضاعتها الرأسمالية و بالاشتراكية الأوربية التي تـشكلت في مقاسات مادوية ألغت الانساني الروح فأفصحت عن قصورها..
ان هذه الثورة تـنبئ بالوقوف عند ذات لحظة البدء للمسيح الذي فدى بنفسه لأجل خلاص الإنسانية، و عند لحظة البدء للرسول محمد الذي دعا إلى الاه الرحمة الواحد الأحد الأقرب إلينا من حبل الوريد.. إن هذه الثورة جاءت لإرجاع العرب إلى صناعة التاريخ. جاءت لتعيد الإنسان إلى الطبيعة و تؤالفه مع منطقها و جاءت في نفس الوقت لتؤلف بين القلوب في اتجاه الاه الرحمة.. الرحمة للإنسان هي أن يعيش إنسانيته.. أن يعيش إنسانيته يعني أن يبني عالم المساواة و الحرية..
فلزاما علينا أن نحب بعضنا بعضا بما فيه خيرنا جميعا و عزتـنا و اقـتدارنا على تخليص الإنسانية من استلابها و اغترابها عن جوهرها الإنساني الرباني..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران تشهد انتخابات رئاسية يوم الجمعة 28 يونيو والمرشحون يتق


.. الاعتداء على داعمين لفلسطين اعتصموا بمركز تجاري بالسويد




.. تقرير حالة انعدام الأمن الغذائي: 96% من سكان غزة يواجهون مست


.. مصادر العربية: إطلاق النار في محج قلعة أثناء القبض على من سا




.. -إيرباص- تُعاني بسبب الإمداد.. والرئيس التنفيذي للشركة يتوقع