الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إرادة الخلود بلسان عربي مبين

محمد سرتي

2016 / 11 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"ألا لا يجهلن أحد علينا. فنجهل فوق جهل الجاهلينا"
طبعاً لا يمكن فهم "الجهل" في معلقة عمرو بن كلثوم بمعناه الدارج الآن: أي الجهل الأكاديمي الذي هو ضد العلم. ولكنه كان يعبر حينها عن حالة ثقافية أوضحها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في توبيخه لأبي ذر الغفاري: "إنك امرؤ فيك جاهلية" حين نعت أبو ذر بلال بن رباح بابن السوداء: إنها ثقافة ما قبل الإنسان العاقل حين كان أسلافنا يعيشون في قطعان متناحرة على أساس عرقي، قومي، قبائلي... العلاقة بينهم محض مادية، غرائزية، تقوم على أساس المصالح، والمصالح فقط لا غير. سماتها التعصب الأعمى، الحقد الأعمى ضد الآخر المختلف، مهما كان الاختلاف ضئيلاً. فبمجرد ما يرى الحيوان حيواناً آخر ينتمي لقطيع غير قطيعه؛ تستثار لديه مباشرة دوافع القلق الوجودي، الخوف من الفناء، الذي يتمظهر سلوكياً في تلك الحالة العدائية، كردة فعل دفاعية تلقائية.
ولكن؛ من الأساس: لماذا الخوف من الفناء؟!
أليس الموت أمراً طبيعياً يحدث أمامنا باستمرار؟ لدرجة كان من المفترض معها أن نشعر بالتبلد تجاهه؟! لماذا لا نتعامل معه كأي أمر طبيعي من أمور الحياة الشاقة، كمشقة السفر ومشقة العمل ومشقة الحمل والولادة وتربية الأطفال.....؟!
لماذا كل هذا الحقد على الموت؟ وكل هذه الحيرة التي تصيبنا تجاهه! وكأنه ليس من المفترض أن نموت! كأنه ليس من العدل أن نموت؟!
هل حقاً نحن خالدون؟! أم إننا فقط نشعر كذلك! لدرجة أننا نرى في الموت مسألة تخالف قوانين الطبيعة! تخالف ناموس الوجود! تخالف الفطرة السليمة!... هل حقاً تخالف شعورنا الفطري الأصيل بأننا خالدون؟!
إذاً فالخوف من الموت هو ليس في الحقيقة قلق من الفناء. ولكنه قلق من المجهول! قلق ظهر مع بداية ظهور الإنسان العاقل، ظهر مع طقوس الدفن النياندرثالية الذي تزامن مع النظرة المختلفة تجاه الطبيعة، مع الطريقة المختلفة التي بدأ الإنسان الأول يتعامل من خلالها مع محيطه الطبيعي، ليس ككائن مستهلك فحسب، وإنما كمطور ومهندس لها: يعيد صياغتها وبرمجتها وتحسينها باستمرار باتجاه الكمال.
هكذا ظهر الدين إذاً: عبر التناقض بين الخلود والفناء. التناقض بين شعورنا الفطري بخلود الحياة، واصطدام هذا الشعور مع واقع الفناء. فوظيفية الدين في حياتنا إزالة هذا القلق عبر إزالة الغموض حول مصيرنا بعد الموت.
من اللفتات الرائعة للسيد القائد حسين بدرالدين الحوثي قدس سره إشارته المهمة إلى أن الخطاب القرآني عندما يتناول البديهيات اللاشعورية، كمسألة وجود الله، يتناولها كبديهيات لا تحتاج في إثباتها لمقدمات منطقية. وكأن السيد حسين يشير إلى البعد السيميائي للخطاب القرآني الذي يتعامل مباشرة مع البنى اللاشعورية، أو يخاطب اللاشعور قبل الشعور، لذلك لا يحتاج لمقدمات كلامية سفسطائية في إثبات ما هو مثبت بالضرورة في بنيويات الفطرة.
هذا الكلام أيضاً ينطبق على قضية "خلود النفس" التي لم يتعرض القرآن لمحاولة إثباتها منطقياً على الإطلاق. رغم كونه تعرض، في سياق الحديث عنها، لإثبات "النشأة الآخرة" أو "النشور". (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق. ثم الله ينشيء النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير) (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه: قال من يحي العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) (وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً! قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم. فسيقولون من يعيدنا؟ قل الذي فطركم أول مرة)
إذاً فحالة الغيبوبة المادية التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي كانت تحول بينه وبين إدراك أكثر المدركات الفطرية وضوحاً. تماماً كالحيوان في عدم إدراكه لحقيقة الدوافع اللاشعورية التي تقوده وتوجهه وتتحكم في سلوكياته، فهو لا يملك القدرة المنطقية على مجرد مساءلة تلك الدوافع عن منشأها الميتافيزيقي. هنا جاء الخطاب القرآني لا ليثبت له وجود تلك الدوافع؛ ولكن فقط ليدفعه إلى مساءلتها:-
إذا كنت تشعر بأن الفناء غير منطقي؛ إذاً فالوجود أيضاً يجب ألا يكون منطقياً. وإذا كنت تشعر أن الوجود منطقي؛ إذاً الفناء يجب أيضاً أن يكون منطقياً.
إذا كنت تشعر أن موتك أمر غير منطقي؛ إذاً لماذا لا تشعر بنفس الشعور تجاه ولادتك؟!
إذا بدت الأمور لك غير منطقية، إذا بدا لك أن كل ما يدور حولك غير منطقي، فأنت إذاً تشعر بأن ثمة منطق وراء الوجود، ثمة منطق يجب أن يكون وراء الوجود.
أليس الفناء جزء من الوجود! هل ثمة منطق وراء الفناء أيضاً؟! وأي منطق قد يحمله إليك الفناء وأنت غير موجود في الفناء! ولكن هل أنت حقاً غير موجود في الفناء؟! هل تشعر حقاً بذلك؟ أم بالعكس؟!
*******************
أليس من الملفت هذا التركيز الشديد من قبل الخطاب القرآني على قضية الخلود، بشقيها: خلود النفس، والنشأة الأخرى؟! وإهماله، في نفس الوقت، لقضايا أخرى تعتبر، عبر الأزمان، من أخطر القضايا التي تدور حولها مسألة الإيمان بالله، وعلى رأسها، وأهمها على الإطلاق، قضية وجود الشر في هذا العالم؟!
هل سقطت هذه القضية من القرآن، سهواً أو عمداً، أثناء جمعه في عهد أبي بكر؟ أم أحرقت ضمن النسخ التي أحرقها عثمان؟
وهل كان الله سيترك أبا بكر وعثمان يعبثون في هذا الدين دون إذنه؟!
هل قتل يزيد الحسين دون إذن الله؟ هل عبث بنو أمية وبنو العباس في كل هذه الأحاديث والتفاسير والفقه والتاريخ دون إذن الله؟
مسألة من عظم وطئها على العقول أخرجت كماً هائلاً من الفلسفات حول خلق أفعال العباد، الجبر والإرجاء، القدرية والاعتزال، حرية الإرادة والاختيار، الوعد والوعيد..... حول العدالة الإلهية من الأساس!
لقد نسخ الكثير من القرآن، وأنسي الكثير منه، ورتبت أجزاؤه وجزيئاته بطريقة غير توقيفية. رغم ذلك نستطيع أن نفهم من هذه النسخة الدارجة الآن من القرآن إرادة الله! إذاً فهل نستطيع الزعم بعد ذلك أن كل هذا النسخ والتغيير قد تم دون إذن الله؟ دون إرادته؟!
إن مشكلة تصنيفنا للأشياء إلى خير وشر هي إحدى إفرازات غيبوبتنا المادية، هي إحدى منتجات الانقطاع الوجودي الذي يعانيه وعينا المادي عن حقبة الفناء، هي إحدى مخرجات فقدان الذاكرة اللاشعورية المتعلقة بمراحل وجودنا اللامادي. فكان يكفي القرآن أن يعيد لنا هذه الذاكرة لنستفيق من غيبوبتنا المادية. عندها لن يكون للسؤال: "لماذا يوجد الشر في هذا العالم" أي معنى.
(وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً! قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم. فسيقولون من يعيدنا! قل الذي فطركم أول مرة. فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سي إن إن تكشف عن فظائع مروعة بحق فلسطينيين في سجن إسرائيلي غ


.. نائب فرنسي: -الإخوان- قامت بتمويل الدعاية ضدنا في أفريقيا




.. اتهامات بالإلحاد والفوضى.. ما قصة مؤسسة -تكوين-؟


.. مقيدون باستمرار ويرتدون حفاضات.. تحقيق لـCNN يكشف ما يجري لف




.. تعمير-لقاء مع القس تادرس رياض مفوض قداسة البابا على كاتدرائي