الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا رفض الصحابة تدوين الحديث

سعادة أبو عراق

2016 / 11 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لماذا رفض الصحابة تدوين الحديث؟
في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وكان بذلك يَصِفُ حال العرب في ذلك الوقت، وهو في صدد تحري ظهور هلالي رمضان وشوال، وربما كان ذلك ردا على من قال بحساب دورة القمر، دون الاعتماد على الحواس والظروف التي لا تعطي الميقات الصحيح، فالرسول أراد أن يعفهم من عناء تعلم علم الفلك الذي لم يتهيؤوا له بعد، فالخلل يكون بمقدار يوم زيادة أو نقصا، وهذا لا يؤثر على نية الصيام.
حديث رسول الله هذا الذي أورده مسلم وأبو داود والنسائي، لم يكن دعوة للشفاهية، إنما المقصود هو الحسابات الفلكية، لكن الذين أخذوا قول الرسول على ظاهرة، وقر في أذهانهم أنه يثبت قاعدة أزلية، أو يمدح هذه الأمية التي يتصفون بها، لذلك وجدوا في الكتابة أمرا ليس دينيا، وليس لازما ما داموا يملكون ذاكرة حافظة، تغنيهم عن الكتابة.
ولعل ما عضد هذه الفكرة بعدم الكتابة، نهيُ رسول الله عن كتابة أحاديثه وأقواله، خشية أن يختلط ذلك بالقرآن المنزل، فصدعوا لأمر رسول الله بأن لا يكتبوا الحديث، ولكنهم ظلوا يروون الحديث شفاها مع روايتهم لآيات القرآن الكريم، إذ بقي الحديث والآيات القرآنية متجاورات في ذاكرة الحُفَّاظ، وهذا أكثر خطرا من كتابة الحديث.
على هذا الأساس من الفهم، بنيت استراتيجية الشفاهية وكراهة الكتابة، وصار يُحتجُ بها لمنع اقتناء وقراءة كتب غير القرآن، وخاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب كتابا اكتتبه من التوراة وأعجبه موافقته للقرآن، فتمعر وجه النبي حتى ذهب عمر إلى التنور والقاه فيه.
ولا ادري من ناحية أخرى أن يكون ابتعادهم عن الكتابة نوعا من المباهاة بملكة الحفظ لديهم، وقدرتهم على الاستيعاب، أو أن ملكة الحفظ هذه كانت ميزة لهم عن غيرهم، بما أهلهم أن يتبوؤوا الجلوس في مجلس العلم والفتيا، أو أن عملية تعلم الكتابة والقراءة هي عملية شاقة بالنسبة لرجال تجاوزوا مرحلة الصبا والقدرة على التعلم، بالإضافة أن أدوات الكتابة لم تكن متوفرة من ورق وأقلام وأحبار، جعل من مشروع التدوين غير ميسور، كما أن وسائل الحفظ في بيوت من السقائف والخيام لا تشكل أمكنة ضامنة لهذا المشروع.
المشكلة أن أحدا لم يفكر بمشروع يؤسَّسُ له كي يتعلم جيل جديد من الفتيان ليصبحوا مستقبلا كتبة لحضارة سوف تنشأ، ولكن المشكلة كانت في الرفض المانع للكتابة ونبذها من ناحية المبدأ، ليس بسبب الظروف المقيدة، فهذا عمر بن الخطاب( ر) عنَّ له أن يكتب السُنَّة فكتب شيئا يسيرا ثم أحجم عن ذلك وأتلفه وكتب للأمصار( من كان عنده شيء فليمحه ) وقيل أيضا لأبي سعيد الخدري: لو أكتَبتَنا الحديثَ فقال: (لا نُكتِبُكُم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم) أما ابن عباس فقال ( إنّا لا نَكتُبَ العِلمَ ولا نُكتِبَهُ ) وعلل رأيه ما نقله عنه سعيد بن جبير أنه قال( إنما ضل ما كان قبلكم بالكتب) ولم يكن هذا موقف بن عباس فقط بل رفض الكتابة أيضا الشعبي وابن شهاب والنخعي وقتادة ة غيرهم ، وأن أحدهم صاغ ذلك بمقولة ( حرف في تامورك خير من عشرة في كتبك) والتامور هو العقل أو الذهن، وانهم كانوا يأمرون بالمحو أو الغسل أو الدفن أو التخريق لكل ما كُتِب، حتى طال ذلك ما كُتِبَ من مصاحف، وأبقوا نسخة عثمان بن عفان فقط.
ولا ندري هنا, كم أضاع هؤلاء الصحابة من حقائق مدونة أتلفها ضعف الذاكرة أو أسقطها النسيان، أو أوَّلَ معناها اختلاط السمع في أذن المتلقي، فعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال : كتبت عن أبي كتابا كبيرا فقال إئتني بكتبك فأتيت بها فغسلها، أما ابن مسعود فيذكر أن تلامذته أخبروه عن بعض الصحائف فأمر تلاميذه بقوله ( أذكِّرُ بالله رجلا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلمها بدير هند لبلغتها، بهذا هلك أهل الكتاب من قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) أما علي بن أبي طالب فنقل عبدالله بن يسار عن خطبة له قوله ( أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، إنما هلك الناس انهم تتبعوا أحاديث علمائهم ونسو كتاب ريهم)
هكذا تكوّن موروثنا الديني والثقافي والعلمي، على مهاد من تسلسل الروايات الشفهية، تناقلتها ذاكرات لا ندري أأصابها خلل أم زيغ ، أم لعب بها الهوى وإرادة السلاطين والحكام، وما افتراه المفترون، ولعلنا نستطيع أن نتلمس هذا الوبال الذي ألم بأسس ثقافتنا، والذي سرى في عروقنا مسرى السموم، وها نحن الآن نكتوي بنار الخلافات التي تستند إلى مرويات لا نستطيع أن نثبت صحتها من خطئها، فكل ذي مأرب ينتقي من هذا الموروث الملتبس ما يريد، فيكفر المسلمون بعضهم بعضا ويذبحون بعضهم البعض، للظفر بحور العين، التي يكون مهرها آلاف القتلى من كفار المسلمين، وأيضا بسبب شرب بول البعير وإرضاع الكبير وتربية اللحية وارتداء الخمار.
كارثة عدم التدوين
ونستطيع أن نتفهم موقف الأوائل من رفض التدوين، بان جميع الناس من الأميين العاجزين عن العلم مما يجعل التعليم الشفاهي أكثر جدوى، من كتب لا يستطيع أحد قراءتها، أو كما علل الكثير منهم أن التدوين مقره في الكتب وليس في الذهن، فإنك لو ارد أن ترجع لموضوع معين فيتوجب عليك الذهاب إلى الكتاب لتقرأ به ، بينما لا تحتاج إلى صرف الوقت والجهد، حينما تتجول في ذاكرتك، وهذا التصور الذي برر به الأقدمون نبذ التدوين، ربما أحسوا بالجهد المبذول للبحث عن الكتاب والجلوس إلى القراءة، ففيه جهد كبير لم يعتادوا عليه، أما البحث عن المحدث أو الفقيه والجلوس إليه والاستماع له وسؤاله وإكرامه بالأعطيات فهو سهل ومريح، وربما لخوفهم أيضا من فقدان الكتاب، الذي هو فقدان للمعلومات التي به ،وهذ التخوف أقل شأنا من موت المحدث أو الإمام الذي يحمل العلم في ذاكرته، يموت علمه أيضا حين يموت, ويموت أيضا مع تلف في دماغه أو ذاكرته.
وأعتقد أيضا أنهم ما كانوا يتصورون وظيفة حضارية للكتابة، فاختراع الكتابة لم يكن عملا فضوليا ، ولكن بسبب عدم قدرة الذاكرة على استيعاب كل العلوم بشكل دقيق، أما العرب في ذلك الوقت التي لم تكن ثقافتهم تزيد عن أخبار المجتمع والقصائد الشعرية وهي في مقدرة الذاكرة العادية، والتي تستوعبها بأريحية، لذلك وجدوا في الكتابة أمرا ثانويا له مساوئه التي تفوق حسناته، وربما أيضا انهم كانوا لا ينشدون معرفة اكثر من حفظ احاديث رسول الله ليقتدوا بها، وما دروا أنهم كانوا يؤسسون لعلم الفقه،
ومهما كانت الأسباب التي دفعتهم إلى عدم الاهتمام بالتدوين أو عدم قبوله، فإن عقابيل ذلك كانت كثيرة منها :
1- كان حرق وإتلاف الصحائف والكتب _ إن كان هناك من كتب _ عملية تدمير معرفي للحياة الاجتماعية والثقافية والدينية، فنحن لا ندري هل كان فعلا في الأديرة وبعض الأماكن من كتب سريانية أو آرامية أو فارسية أو هندية أو حميرية وسبأية، وهل كان لدى العرب عقائد مستمدة من هذه الكتب، ما صلة القربى بين اللغة الحمرية والسبأية والقرشبة؟ وورقة بن نوفل هل كان داعية أم ضمن فئة تؤمن بالنصرانية أو اليهودية أم بمذهب آخر؟
2- ما عاد بالإمكان أن يتأكد أحد إن كان ابن مسعود أو أبو هريرة أو ابن عباس قد نطق بالحديث كما وصلنا من البخاري، فلو كان هؤلاء الأوائل قد كتبوا الحديث كما سمعوه من رسول الله، لأصبح التأكد من صحة الحديث سهلا، والكشف عن الخطأ أو التزوير متاحا، ويغدو الافتراء واضحا، واعتقد أن التنزيه والتقديس التي اسبغناه على المحدثين الأوائل، رفع عنهم الخطأ والانتحال، وهذا ما جعل الكذب عليهم متاحا، لكل صاحب مأرب. والصحيفة الوحيد التي نجت من الحرق هي صحيفة عمرو بن العاص، ويعتبر العلماء ما جاء بها حديثا نبويا صحيحا.
3- مات كثير منهم ولم يفض بكل ما عنده من علوم، فمقولة ( إذا أردت أن تعطي القليل فعليك أن تملك الكثير)، تنطبق تماما على المحدثين الأوائل، فلا بد أنهم كانوا يملكون الكثير أيضا، وهذا الكثير ضاع بموتهم.
4- المحدثون الأوائل الذين ذكرناهم ممن احرقوا الصحائف والكتب التي بادر إلى كتابتها بعض الناس؟ هل كانوا يخشون أن يذكر في هذه الصحف أحاديث لا يعلمونها؟ أم يريدون احتكار تدريس هذه العلوم وحدهم؟ وإحراز قصب السبق في هذا المضمار؟ وهل كان حرقها مفيدا أم مضرا؟ لقد حُرِمنا مما يسميه المؤلفون المصادر، مهما كان اختلافها وتناقضها، وعند المؤرحين لا تعتبر المصادر الشفهية مرجعا موثوقا به، كما هو علم الأنساب الذي يعتمد على مرويات كبار السن.
5- لم يقتصر حرق الصحائف وإتلافها على ما كُتِب من أحاديث، بل إلى ما هو مكتوب أيضا من تاريخ وأخبار الممالك وتنفل القبائل، والحروب، والمجتمع والحياة ما قبل الإسلام، وما بعده، مثلا خُطَبُ قس بن ساعدة الإيادي، وأساطير النضر بن الحارث الذي كان قبل البعثة وأثنائها، يؤلف الحكايات ويجلب الأخبار ويشتري الكتب، من الحيرة وبلاد فارس ليحدث الناس عن ملوك الفرس، مثل رستم والسنديد وإسفنديار ويجلس محدثا لهم، معتقدا أن الرسول يفعل مثله، وهو من تعنيه الآية ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث)، فهذه الظاهرة في التثاقف الحضاري تم قتلها مع قتل الحارث هذا وإحراق كتبه.
6- لقد كان هذا الفضاء المفتوح مجالا لأصحاب الأغراض المريبة ، فقد دخلت الإسرائيليات إلى الفقه الإسلامي من خلال أحاديث نسبت لرسول الله ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، فقد ذهب (وهب ابن منبه) وكان أبوه حاخاما ولديه معرفة بالتوراة والتلمود، يورد قصص الأنبياء على انها من حديث رسول الله، يدخل في الحديث والتفسير ما يشاء، وكان مقبولا بما افتراه عند كثير من المحدثين التابعين مثل أبي هريرة وابن عباس ومن تابعي التابعين (محمد بن سائب الكلبي، محمد بن مروان السدى، ومقاتل بن سليمان)، لأن وهب بن منبه لم يذكر من أين أخذ كلامه الذي نسبه لرسول الله,
7- أسوأ ما أنتجته هذه الظاهرة كانت الحدود والعقوبات الشنيعة المفتراة على رسول الله، والتي لم يرد بها نص قرآني مثل رجم الزاني وجلد شارب الخمر وقتل المرتد وحرق اللواطي وإسقاطه من أعلى عمارة، وغيرها؟، فهل هناك نص قرآني يتيح للنبي بان يسن مثل هذه الحدود القاسية، نيابة عن الله، فلماذا اذا أنزل القرآن، هل كان القران ناقصا وأكمله الرسول، (استغفر الله على هذه التساؤلات)، فلو كان هناك حديث مكتوب لاستطعنا إن نتبين إن قال الرسول ذلك، أم قاله وهب بن منبه، مستمدا مما جاء في التوراة.
8- رواج كتب الخرافات عن أخبار الفتن وأخبار آخر الزمان مثل كتاب الجفر لعلي بن أبي طالب وقصص المهدي المنتظر والمسيح الدجال وغيرها وغيرها مما اغرق عقول الناس قرونا بالخرافات والأساطير،
9- اعتمد مذهب التشيع على الأحاديث النبوية وليس على القرآن، فلو كانت هناك أحاديث مدونة من الرسول مباشرة، لا يجعل أحدهم يفتري على الرسول بأنه جعل الخلافة لعلي من بعده، وأن الخلفاء الراشدين اغتصبوا منه الخلافة، وهل حقا قام بتأليف كتاب نهج البلاغة،
10- ومن المعروف للجميع أن ابتداء الكتابة والتدوين كانت مع نشوء الدولة العباسية، أي خلال قرن ونصف لم يكتب كتاب واحد، أي أن الحضارة الإسلامية تأخرت قرنا ونصف القرن، وأول كتاب في حضارتنا كان كتاب كليلة ودمنة ، وأول المبادرين للكتابة هم عبد الحميد الكاتب وابن المقفع والجاحظ وابن قتيبة الدينوري، وهؤلاء لم يكونوا من الفقهاء والمحدثين، ورغم ذلك فإن الأئمة الكبار لم يقوموا بتدوين فقههم ، بل قام به تلامذتهم كأبي بكر الخلال تلميذ أحمد بن حنبل وأبو بوسف تلميذ أبي حنيفة، أي في عصر المأمون والمعتصم حيت كان التدوين رائجا والترجمة على قدم وساق والفلسفة وعلم الكلام والنحو والعلوم الطبيعية، لكن الفقهاء والأئمة كانوا إلى ذلك الوقت لا يؤمنون بالتدوين.
ملاحظة:-
النصوص المستشهد بها منقولة عن كتاب (حرق الكتب في التراث العربي) لمؤلفه ناصر الحزيمي، ومنشورات دار الجمل، والكاتب أخذها عن كتاب( جامع بيان العلم وفضله) لمؤلفه ابن عبد البرج الجزء الأول ما بين الصفحات 272-296








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحقيق لصحيفة إسرائيلية بشأن الفشل الاستخباراتي يوم السابع من


.. حريق ناجم عن سقوط صاروخ على مستوطنة شلومي بالجليل الغربي




.. قناة إسرائيلية: هناك فجوات في مفاوضات صفقة التبادل وعملية رف


.. AA + COVER.mp4




.. -يفضل انتصار حماس-..أعضاء بالكونغرس الأميركي يهاجمون الرئيس