الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على خطى يسوع 2- موعظة على الجبل

طوني سماحة

2016 / 12 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هناك على سفح الجبل وقفت. جموع تسير آتية من أماكن قريبة وبعيدة. شيوخ وشباب، رجال ونساء، أطفال وكبار. يقال أنّهم أتوا ليستمعوا ليسوع الناصري. منذ بعض الوقت والناس تلغط بشأنه. منهم من يقول أنّه نبي والبعض ذهب بعيدا للقول أنّه المسيح المنتظر. نظرت الى الناس. جلّهم جياع. البعض يحملون مرضاهم لأن ثمة من يقول أنّ يسوع يشفي المرضى مجانا. كثيرون منّا محبطون. الرومان يحتلون أرضنا وقد أتوا إلينا بأفكار وعادات وعبادات غريبة عن أمتّنا. ازددت شغفا للقاء يسوع. أتراه المسيّا المنتظر؟ أيكون محرّر إسرائيل من العبودية والظلم والشقاء؟ ماذا تراه يقول اليوم للجميع. أيقف على قمة الجبل ويلهب المشاعر بالدعوة للثورة على المحتل؟ أيقيم ملك داوود وسليمان؟

سرت مع الجموع. كان كتفي ما زال يؤلمني. صادفني الأمس جندي روماني. كان متوجها الى أورشليم. ينص القانون أنه يحق للجندي أن يأمر المواطن بحمل أمتعته، لدى سفره، لمدة ميل، وهكذا كان. نظرت الى الجندي شزرا. وددت لو أستطيع قتله. فها هو يقتل أبناء أمتي الثوار ويطلب مني اليوم مساعدته. رد على نظرتي إليه بنظرة كادت تقدح شررا. حملت أمتعته مرغما واحتفظ هو بسيفه، فيما يده على المقبض. سرت في حرّ النهار. لذعتني الشمس وأنهكني ثقل الحمل. تعثرت مرارا، لكن هذا المجرم لم يأبه بي. في نهاية المطاف، قابلنا يهودي آخر. كان الرجل مسنّا، لكن الجندي لم يأبه بسنّه أو شيبه. أمرني بإلقاء الحمل أرضا، ثم طلب من المسن حمل أمتعته. كدت أموت غيظا وأنا أرى هذا الرجل العجوز يئن ويتعثر فيما ذاك الخنزير يسير غير آبه به. شتمنا الجندي قبل أن يكمل مسيره الى جانب العجوز.

ما زالت الجموع تتوافد. وصلنا الى أعلى الجبل. هناك كان يسوع جالسا. لم يكن يشبه قادة الأمّة في شيء. نظرت حولي علّي أجد الحراس حوله، لكن لم أجد سوى بعض الرجال العزل يسهّلون جلوس الناس على الأرض. لم يكن هناك سيوف تلمع في الهواء ولا حتى أناشيد ثورية. لم يبد لي هذا الرجل برقته مثالا لثائر مقاتل. التحف الناس الأرض وجلس يسوع، فصار صمت رهيب. فتح يسوع فاه وقال "طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السماوات. طوبى للحزانى لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش الى البر لأنهم يشبعون. طوبى للرحماء لأنهم يرحمون. طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام لأنهم ابناء الله يدعون. طوبى للمطرودين من اجل البر لان لهم ملكوت السماوات. طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلى كاذبين. افرحوا وتهللوا لان اجركم عظيم في السماوات فانهم هكذا طردوا الانبياء الذين قبلكم."

صدمني كلام ذاك الذي كانت الجموع تدعوه المعلّم. استوقفتني عبارة "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون". شعرت بالغضب الشديد. أأتيت هنا لأسمع هذا الكلام؟ أيعيد السلام ملك داوود وسليمان الزائل؟ أيكسر السلام سيف الرومان المسلط على رؤوسنا؟ أيطرد السلام المحتل؟ جلست أعيد حساباتي. أيكون الرومان قد اشتروا يسوع هذا ليشتتوا ثورة الأمّة أم أن الناس خدعوا به فظنوه محررا بينما هو ليس سوى بمشرد لا يتقن سوى حبك الكلام؟ هممت بمغادرة المكان عندما رأيت يسوع يرمقني قائلا "أنتم ملح الارض ولكن ان فسد الملح فبماذا يملح؟ لا يصلح بعد لشيء الا لان يطرح خارجا ويداس من الناس. أنتم نور العالم. لا يمكن ان تخفى مدينة موضوعة على جبل ولا يوقدون سراجا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا اعمالكم الحسنة ويمجدوا اباكم الذي في السماوات."

أردت أن أصرخ "كفى! كفى خداعا. كفى رياء". لكن الكلمات اختنقت في حنجرتي. غلبتني كلمات يسوع. أسكتتني. من الواضح أن هذا الرجل لم يكن ثائرا عسكريا، لكنه لا شك يقول كلمات تستحق الوقوف عندها. بل، لربما كان ثائرا من نوع آخر. كانت عباراته مثل "طوبى للمساكين بالروح" تخترق القلوب المكسورة وتعطيهم وعدا بملكوت السماوات. كان الحزانى يستمعون اليه ويتعزون. كان الكثير من الحضور مهمشين اجتماعيا وفكريا، حتى أن بعضهم كانوا عشارين وزناة، ومع ذلك كان يسوع يطلق عليهم صفة ملح الأرض ونور العالم.

أكمل يسوع "قد سمعتم انه قيل للقدماء: لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم. واما انا فأقول لكم: ان كل من يغضب على اخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ومن قال لأخيه: رقا يكون مستوجب المجمع ومن قال: يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم. فان قدمت قربانك الى المذبح وهناك تذكرت ان لأخيك شيئا عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب اولا اصطلح مع اخيك وحينئذ تعال وقدم قربانك. كن مراضيا لخصمك سريعا ما دمت معه في الطريق لئلا يسلمك الخصم الى القاضي ويسلمك القاضي الى الشرطي فتلقى في السجن. الحق اقول لك: لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الاخير!" أعادتني عبارة يسوع "لا تقتل" بالذاكرة للجندي الروماني. كان ظهري ما زال يؤلمني. كانت نظرات الجندي الحاقد ما زالت تحفر نارا في أعماقي. كنت أتمنى لو بإمكاني القبض عليه للحظة وإشباعه ضربا ولكما وركلا. كنت أتمنى أن أشفي غليلي بشتمه ونعته بأبشع الأوصاف. كنت أود لو أستطيع حمل السيف لطرد كل محتل من أرضي. لكن يسوع صدمني. هو لم ينه فقط عن القتل، بل رفع السقف بالقول أن من نعت آخر بالحمق أو من غضب باطلا على أخيه يكون قاتلا، مستوجب القضاء. نظرت حولي. عدت بالذاكرة الى طفولتي. كان أبي شديد الغضب كثير الإهانة لنا. كان يضرب والدتي طول الوقت ويكيل لها ولنا الشتائم. كان ينعتنا بالغباء. وأنا؟ نعم أنا! أنا أهين زوجتي، أضرب أولادي، أسيئ معاملة جيراني وأقربائي. كثيرون هم الذين يكرهونني. أبنائي يخافون مني وزوجتي تتحاشاني. جيراني يفضلون عدم التعامل معي. وددت في تلك اللحظة لو أني أستطيع العودة لمنزلي، ليس لأن خطاب يسوع لم يكن يثير اهتمامي، إنما لأعانق زوجتي وأحضن أطفالي وأصافح جيراني. أنا... أنا بمقاييس هذا الرجل قاتل، قاتل، قاتل.

"قد سمعتم انه قيل للقدماء"، أكمل يسوع، "لا تزن." نظرت الى الأرض. فأنا ألاحق امرأة سرا، لكنها كانت ما زالت توصد الأبواب بوجهي. على الأقل أنا لم أزن بعد. لكن نظر يسوع إلي وكأنه يقصدني مباشرة وهو يقول "واما انا فاقول لكم: ان كل من ينظر الى امراة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. فان كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها والقها عنك لانه خير لك ان يهلك احد اعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وان كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها والقها عنك لانه خير لك ان يهلك احد اعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وقيل: من طلق امراته فليعطها كتاب طلاق واما انا فاقول لكم: ان من طلق امراته الا لعلة الزنى يجعلها تزني ومن يتزوج مطلقة فانه يزني." مرة أخرى، أصابني يسوع في الصميم. من هو هذا الرجل؟ ومن أين أتى بتعاليمه؟ وماذا يريد من أمتنا؟ لقد أتيت لأسمع منه كلاما عن الحرية، حرية الأرض، لكنه يتكلم عن حرية الروح. كان الناس يتناقلون عنه قوله "إن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحرارا". لكن كان يبدو لي أن هذه الحرية تختلف كل الشيء عن الحرية التي كنا نحلم بها.

كان كلام يسوع ثقيلا عليّ. لم أستطع احتماله. كنت أود الذهاب، لكنني لم أرد لفت الأنظار الي وانا اهم بالوقوف. وأكمل يسوع "سمعتم انه قيل: عين بعين وسن بسن. واما انا فاقول لكم: لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الاخر ايضا. ومن اراد ان يخاصمك وياخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا. ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين. من سالك فاعطه ومن اراد ان يقترض منك فلا ترده." استوقفتني هذه العبارة "ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين". لا شك أن ذلك قمة الجنون والخنوع. فيسوع هذا يريدنا ان نحمل أمتعة الروماني ليس ميلا بل اثنين. هو يريدني أن أحب الروماني الذي يظلمنا ويقتلنا. عندها لم أستطع الجلوس، بل نهضت وخرجت فيما يسوع يقول "سمعتم انه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. واما انا فاقول لكم: احبوا اعداءكم. باركوا لاعنيكم. احسنوا الى مبغضيكم وصلوا لاجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم لكي تكونوا ابناء ابيكم الذي في السماوات فانه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين. لانه ان احببتم الذين يحبونكم فاي اجر لكم؟ اليس العشارون ايضا يفعلون ذلك؟ وان سلمتم على اخوتكم فقط فاي فضل تصنعون؟ اليس العشارون ايضا يفعلون هكذا؟ فكونوا انتم كاملين كما ان اباكم الذي في السماوات هو كامل." (يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قصص لطيفة
صبيغ إبن هيباتيا ( 2016 / 12 / 10 - 18:02 )
جميلة هذه القصص ومسلية، أتساءل كم أمضى الكاتب من وقت وهو يكتب مقاله، أراه أيضا مقتنعا بما يكتب وربما ظن نفسه مصلحا وتنويريا يحمل لنا أسس الرقي بقصصه اللطيفة هذه، ونتساءل لماذا نحن متخلفون! ههه


2 - صبيع ابي هيباتيا
طوني سماحة ( 2016 / 12 / 11 - 01:20 )
صدقني ولا انا اعرف سبب تخلفكم (مع اني لا ادري من انتم)،. مع ذلك اعتذر ان كان المقال سبب لك اضطرابا وأوكد ان المراد لم يكن استفزازيا البتة. على كل حال أهلا بك.


3 - مبدع كالعادة
nasha ( 2016 / 12 / 11 - 01:45 )
لا خلاص للبشرية من الحروب والمشاكل إلا باتباع هذه الفلسفة العظيمة.
التعليق الاول: كما يقول المثل (ما لقيو في الورد عيب قالو يا احمر الخدين )
يعتقد بعض الناس انهم فقط العاقلون والعلميون والمنورون ومن شدة الغرور والمكابرة يتحولون بكل جهل إلى متعصبين اقصائيين ويعتقدون أن فكرهم ومعتقدهم ظهر للتو وهو الدواء الشافي ولا يدرون أن فكرهم قديم قدم الجنس البشري حاله كحال أي معتقد آخر ديني أو غير ديني .
تحياتي


4 - موعظة على الجبل الخالدة
شاكر شكور ( 2016 / 12 / 11 - 02:43 )
معظم شرائع حقوق الإنسان االدولية التي اقرتها اللجنة الدولية لحقوق الإنسان مستمدة من فحوى او معاني الموعظة على الجبل لأن اغلب اعضاء تلك اللجنة الدولية كانوا ممن يؤمنون بالإنجيل ، وطبيعي البلدان التي لا تعترف بشرائع حقوق الإنسان تبقى دول متخلفة ، بعض الأديان شوهت صورة الله ومن ثمارهم تعرفونهم لذلك يقوم البعض بخلط الأوراق بوضع جمع الأديان في سلة واحدة لتبرير اليأس الذي يعيشون فيه ، تحياتي استاذ سماحة ونهنئكم بقرب حلول عيد الميلاد المجيد والسنة الميلادية الجديدة وكل عام وأنتم بخير


5 - رد
صبيغ إبن هيباتيا ( 2016 / 12 / 11 - 10:33 )
الكاتب: أهم أسباب تخلفنا هي الخرافات التي تسوقون لها والتي يسميها الأخ في الإنسانية موش فلسفة وبس بل وعظيمة هههه

تعليق 3: الإصطوانة التي تسمعها لا تصلح معنا، عليك تبديلها بأخرى خصوصا أنها مليئة أكاذيب وكلام لا يقوله إلا السذج المغفلين: نصحتك وإنت حر


6 - ومن انت ل تنصحني؟
nasha ( 2016 / 12 / 11 - 14:15 )
شئت أم ابيت فلسفة المسيح (فيلسوف البشرية الاعظم ) هو من علم البشرية الإنسانية والتضحية والفداء.
انت ملحد من خلفية اسلامية واضح من كلامك انت محبط من الدين ولكن هذا لا يعني أن كل الأديان آديان إرهابية عنصرية .
أما الإلحاد الذي تتبجح به فليس اختراع جديد أرجوك لا تبيع علينا اسطوانة التنوير والعلم والعقل لمجرد انك تعتقد أنها ملكك.
طريقة كلامك واستهزائك تدل على عنصرية لا تقل خطورة عن العنصرية الإرهابية الإسلامية .


7 - كِيف
صبيغ إبن هيباتيا ( 2016 / 12 / 11 - 14:46 )
كَيف لي أن أنصحك؟ نحن إخوة في الإنسانية عزيزي ننصح بعضنا، مثلا أنت تنصحني وتقول (المسيح فيلسوف البشرية الاعظم) وأنا أنصحك قائلا: دعك من هذه الإصطوانة وهكذا ههه

سنلتقي فإلى لقاء


8 - رد
طوني سماحة ( 2016 / 12 / 11 - 15:54 )
أستاذ صبيغ بن هيباياتا، لا رغبة لي في الدخول في نقاشات تحمل الطابع الشخصي و تحقر من الآخر. إن كان لديك دليل على خرافة المسيح، تفضل وقدم الدليل مثلا بالقول ان المؤرخ الفلاني قال... أما إن كان لديك اعتراض على أخلاقيات المسيح وتعاليمه، أرجو منك تحديد النقاط مثل ان تقول -التعليم الفلاني يمس بالقيم الانسانية-. أما التصويب على الاشخاص بعيدا عن التصويب على الفكر فهو دليل عدم وجود حجة اضافة الى الكراهية والعنصرية، امور لا اريد إفساح مكان لها على صفحتي. شكرا لك على تفاعلك مع المقال

الأخوة الاحباء شاكر وناشا، مرحبا بكما ، شكرا لتفاعلكما وفيض من البركات مع ذكرى ولادة المخلص


9 - تكلم بمنطق يا ابو العقل والعلوم
nasha ( 2016 / 12 / 11 - 23:46 )
اذا كنت ملحد مادي حقيقي من اين لك ادعاء الاخوة والانسانية ؟
الملحد يؤمن بالمادة الصماء وحركتها العمياء والمفروض لا يعنيه التعاطف الانساني ولا العلاقات الانسانية.
انت تناقض نفسك يا اخ ، من جهة انت مادي لاتؤمن الاّ بالعلاقات المادية البحتة ومن جهة ثانية تدعي الاخوة الانسانية.
ممكن تشرح للقارئ على اية نظرية علمية مادية عقلانية استندت بعاطفتك الانسانية واخوتك ؟
هل هو مجرد ترتيب كلام وتبجح بالالحاد على الفاضي؟ ام ماذا؟
وعلى رأيك ههه.

اخر الافلام

.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها


.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال


.. تعمير- هل العمارة الإسلامية تصميم محدد أم مفهوم؟ .. المعماري




.. تعمير- معماري/ عصام صفي الدين يوضح متى ظهر وازدهر فن العمارة