الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (خاتمة)

ناصر بن رجب

2016 / 12 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (خاتمة)
بعض الأفكار حول تاريخ القرآن

تأليف:
غيليوم دي*

ترجمة وإعداد:
ناصر بن رجب



نشأة القرآن: أنموذج جديد
من المهمّ الآن، وعلى ضوء التحاليل السّابقة، أن نرسم ملامح قالب لنشأة النّص القرآني وقَوْنَنَته يكون أكثر مصداقيّة، ويُعيد لطبيعة النّصوص التي درسناها حقّها. سأقدِّم سلسلة من الفرضيّات تكون في آن واحد حصيلة للتحاليل السّابقة وطرحا لبعض مسالك للبحث. يجب علينا القيام بعدّة دراسات لدقائق الأمور لكي يتسنّى لنا تأكيد هذه الفرضيّات ولتطويرها أو تعديلها.

1) مهما كانت الحِيَل الأدبيّة أو التأويليّة التي استعملها المأثور الإسلامي ومهما تنوّعت أشكالها لترسيخ فكرة وجود كتاب يخْتَصّ بوِحدة عميقة، فإنّ القرآن هو عبارة عن مُدوّنة أكثر منه كتابا، أي أنّه عبارة عن تجميع نصوص أو أجزاء غير متجانِسة (تنتمي لأنماط أدبيّة مختلفة) والتي لم تكن مرصودة مبدئيًّا لكي توضَع في مُصحَف، كما أنّ معناها الأوّل ووظيفتها الأصليّة يمكن أن يكونا قد تغيّرا وحتّى وقع إخفاؤهما، من خلال الجمع نفسه، الذي جعل من هذه النّصوص جزءا من مدوّنة مُغْلَقة، محدّدة المعالم ومُعْتَبَرة ككتاب قانوني. هذه النّصوص المُختلِفة، على المستوى الأدبيّ، تجد نفسها، من حيث الشّكل، معروضة بنفس الطريقة. ولهذا لا يجب علينا أن نَخْلِط بين محتوى النّص القانوني وبين أقدم بِنْيَة للآية أو السّورة.

2) إذا كانت أقدم كتابات قرآنيّة يعود تأريخها إلى زمن النّبيّ، فلا ينبغي لنا مع ذلك، لكي نفهم تاريخ القرآن، أن نقتَصِر على منطقة الحجاز في الثّلث الأوّل من القرن السّابع ميلادي. لقد تمّ بالفعل حدوث نشاط تحريري وتأليفي بعد وفاة محمّد. فمُحرِّرو القرآن هم مُؤَلِّفوه (ولم يكونوا مجرّد نُسَّاخ وجامعون)، وهم بذلك من استطاع إعادة توضيبه وإعادة تأويله وإعادة كتابة النّصوص التي كانت موجودة من قبل، وحتّى إضافة آيات جديدة حسب منظورهم الخاصّ بهم الذي كان متأثِّرا بالخصوص بالصّراعات السيّاسيّة والدينيّة ويسوده انشغال بتحديد هُويّة مَذهبيّة(155). بعبارة أخرى، إنّ طبعة نقديّة للرّسم القرآني من شأنها قبل كلّ شيء أن تعكِس إيديولوجيا أولئك الذين ألّفوا المصحف. يمكنا بالتّأكيد أن تعكس دعوة محمّد وما بشّر به، ولكن فقط بطريقة غير مباشرة وليس بالضّرورة باستمرار. وعليه فإنّ القرآن هو نصّ غير مُتجانس(156) ومُركَّب ويجب فهمه حسب تعاقبيّة زمانيّة مُتَّسِعة أكثر من الفرز الكرونولوجي بين السّور المكيّة والمدنيّة.

3) يتكوّن القرآن، بحكم كونه نصّا غير متجانس، من "كُتَلٍ" استطاع المحرّرون أن يشكِّلوا بواسطتها النّص النهائي(157). ولكي أتحدّثَ عن هذه الكُتل سأستعمِل العبارة "مادّة نصّية"، أو بالأحرى "مُمْتَلَك نصّي" وهي العبارة الألمانيّة (Textgut) التي استعملها بكلّ صواب كارل فريدريش بوهلمان في كامل بحثه المُعمَّق(158). عندما نصف كتابة مّا (مهما كانت أبعادها) بممْتلَك نصّي فإنّ المقصود هو التأكيد على حقيقة أنّ الأمر يتعلّق بامتلاك شيء ذي قيمة، شيء جدير بأن نُحافظ عليه يكون من طبيعة نصّية(159).

إنّ مفهوم "ممْتلَك نصّي" يُشدِّد على أهمّية الدّور الذي يلعبه نصّ داخل جماعة بشريّة، وعلى القيمة التي تمنحها إيّاه، وكذلك طريقتها في أخذه بعين الاعتبار، وكيفيّة فهمها واستعمالها له. وهذا يثير أيضا الطريقة التي يمكن لنصّ أن يتطوّر من خلالها وذلك سواء على مستوى مضمونه ومعناه الذي يمتلكه قرّاؤه/سامعوه، أو على مستوى وظيفته. أخيرا، يُعيد هذا إلى الأذهان أنّ النصوص، باعتبارها مُمتَلَكات، فهي تَرُوج وتتداولها الأيدي، ولاعتبارات شتّى تُقْبَل أو تُرْفَض، تَشتهِر وتَنْجح أم لا.

الحديث عن "ممتلك نصّي" يسمح بأن لا نبُتَّ مُسبقًا في مسألة الهويّة الدينيّة: فنفس الممتلك النصّي يمكن أن تستعمِله جماعات مُختلفة، أو جماعات لا تعتبر نفسها مُختَلفة ولكنّ مُلاحِظين من الخارج (مثل من كتبوا في الهرطقات) يرونها كذلك. فهو إذن بصفة خاصّة مفهوم عَمَلي في سياقَ "مرحلة انتقالية" وسياق "تعدُّدية مذهبيّة". من ناحية أخرى، فهو يضع مسألة المؤلِّف في إطار ثانوي، الشيء الذي يمكن أن يُجنِّبنا الوقوع في عدّة أخطاء تأريخيّة. وهكذا فإنّ "الممتلكات النصّية" للمؤمِنين التي سيقع جمعها في القرآن يمكن أن تكون أقوالَ محمّد، كما يمكنها أن تكون أيضا نصوصًا ما قبل إسلاميّة، أو نصوصا أُنْتِجت بعد النّبي. كلّ هذه النصوص سوف يقع بالنّهاية ربطها بشخصيّة محمّد.

إنّ استخدام "ممتلكات نصّية" في التحليل يُجنّبنا أيضا أن نُسقِط على النّصوص نظرة "ما بعد قرآنيّة" قد ترى تلقائيّا أنّ النصوص التي يتعلّق بها الأمر تمثّل جزءً من النّص القانوني(160) – وهذا ما لا يمكن بكلّ تأكيد ان تمثِّله في الأصل. الممتلكات النصّية هي نصوص ذات سلطة مرجعيّة (تتمتّع بسلطة وذات نفوذ)، ولكن ليست مع ذلك نصوصا "قانونيّة" [صارت مقدّسة]. وما إن يقع الحديث عن نصوص مرجعيّة تبرز عدّة أسئلة جديدة – مثلا: سلطة مرجعيّة عند مَنْ؟ سلطة النّصوص هذه، هل هي على مستوى متساوي بين مجموع المؤمنين؟ أم هي في جزء منها مرتبطة ببعض الأوساط، مثل وسط الكَتَبَة على سبيل المثال؟ وهكذا فإنّ بعض الممتلكات النصّية كان بإمكانها أن تُحْرز على أهمّية خاصّة عند بعض فئات من المؤمنين وليس عند فئات أخرى. هذه التساؤلات من شأنها أن تدفع إلى إعادة النّظر في رؤية أحاديّة مفرطة (اجتماعيًّا وجغرافيًّا) لما كانت عليه أولى جماعات المؤمنين.

4) الممتلكات النصّية لها عدّة أنواع مختلفة؛ وهي إذن تُستَخْدم حسب طُرق متنوّعة. فالنّص التشريعي لا يُستَعمَل في نفس السّياقات ولا يتمّ تناقله بنفس الطريقة، ولا بواسطة نفس قنوات التواصل، مثلما هو الحال مع خُطبة دينيّة، أو نشيد ديني، أو نبوءة أو صلاة. ومن جهة أخرى، بعض النّصوص يمكن أن تكون معروفة لدى أغلبيّة المؤمنين في حين أنّ نصوصا أخرى لا تكون معروفة إلاّ من طرف بعض الأشخاص.

5) الممتلكات النصّية للمؤمنين ليست فقط تلك النصوص التي سنجدها في القرآن. بعض الأقوال النبويّة وقع الاحتفاظ بها في القرآن، غير أنّ بعضها الآخر لم يقع نقله إلاّ عبر المجموعات الحديثيّة. هناك ممتلكات نصّية لم يقع إدراجها في القرآن وأخرى وقع إهمالها في حين أنّها كانت مرتبطة مباشرة بممتلكات نصّية تمّ دمجها هي في القرآن. لننظُر في الآيات البيبليّة في القرآن، أي كل المقاطع التي تتحدّث عن شخصيّات من الدّيانتين اليهوديّة والمسيحيّة. فالقرآن هو نصّ إيحائي في إشاراته البيبليّة إلى درجة أنّه لا يمكن فهمه إلاّ من طرف أنس يعرفون مُسْبَقا القصص التي يُشير إليها. وهو في هذا ينتسِب، على الأقل جزئيّا، إلى النمط الأدبي الوعظي: فهو غالبا صياغة جديدة للقصص البيبليّة تشرح المعنى والعِبرة لهذه القصص(161). غير أنّه يجب أن نتذكّر هنا الممارسات الدينيّة أواخر العصور القديمة، وبالخصوص حقيقة أنّ الكنائس المسيحيّة كانت قد اعتمدت التقليد اليهودي لقراءة عموميّة للكتابات الدينيّة على غرار "كتاب الفصول" [قِرْيَانَا]. فالكتاب الديني لم يكن يُقرَأ كلّه أمام المؤمنين. فالقراءات كانت ترتكز على قراءة "قريانات" (من السّريانيّة "قريانا" "قراءة فصول من كتاب ديني في أوقات الصّلاة"، ومنها اللّفظ العربي "قرآن")، كانت تحتوي على مقاطع مختارة من نصّ ديني كانت تُقرأ في الجماعة حسب المناسبات. ومن ناحية أخرى تجدر الإشارة إلى أنّ المسيحيّين العرب قبل الإسلام كانت الازدواجية اللّغويّة سائدة بينهم (فالإغريقيّة والآراميّة/السريانيّة كانت تُستخدم في اللّيتورجيا في حين كانت اللّغة العربيّة تُستعمَل في الحياة اليوميّة بالرّغم من أنّ الآراميّة كانت قد لعِبت أيضا دور لُغة التّواصل المشتركة.

في الأصل، بعض الممتلكات النصّية التي ستُصبِح آيات القرآن البيبليّة يُحتَمَل أنّها كانت إذن شروحا وتفسيرات لدروس مكتوبة كانت موجودة داخل قِرْيانة، وهذه القِرْيانة(162) ليست القرآن ولكن ما يقوم القرآن أحيانا بالإشارة إليها. وهذا ما يفسّر لماذا يبدو القرآن غالبا نصّا مُبْهَما: فنحن نجد فيه شروحا قصيرة، وإيحاءات لقصص مختلفة دون أن يقع تقديم نصّ القصّة نفسه(163). وكأنّ القرآن كان عبارة على مجموعة من هوامش أسفل الصّفحة، من توجيهات المؤلِّف، وإرشادات للإخراج وإدارة الممثِّلين كانت قد جُمِعت ورُتِّبت حسب معايير مختلفة (نذكر من بينها معايير أسلوبيّة مثل القافيّة، ومعايير أقلّ شكليّة كخطاب "المُؤَلِّفين" اللاّهوتي أو السياسي)، ولكن كلّ هذا دون أن نرى تحت أعيُنِنا نصّ "المسرحيّة" (ولا حتّى امكانيّة أن نُتابِع الترتيب الذي بُنيت عليه) الذي تشرحه هذه الهوامش والتوجيهات.

هذه الدّروس الكتابيّة التي يشرحها القرآن ضمنيًّا كانت بالضرورة معروفة لدى المؤمنين وكانت تشكّل جزءً من ممتلكاتهم النصّية. فالنّصوص التي ستصبِح آيات القرآن البيبليّة لم تكن إذن، في البداية، وحيًا مرصودا ليحلّ محلّ وُحِيٍّ (جمع "وحي") سابقة ويَنْسخَها: وهذه الآيات كانت قد اعتُبِرت كوحي (من مصدر نبوي)، أو كمجرّد تفسير (في إطار خطبة وعظيّة)، ولكنّ المؤمنين كانوا، في كلّ الحالات، على وعي بأنّ هذه النّصوص كانت مرصودة لشرح وتفسير الُحِيّ السّابقة.

6) إنّ القرآن، على عدّة أصعدة، هو نصّ تكراري. مثلا بخصوص المقاطع البيبليّة: ليس من النّادر أن نجد نفس القصّة تتكرّر في عدّة أماكن من سور المصحف(164). كيف يمكن تفسير هذه الظّاهرة؟

لقد اقتُرِحت عدّة فرضيّات(165). الأولى تقترح أنّنا نمتلك بباسطة آثارا ونَسْخًا لمختلف روايات شفويّة لنفس القصّة "سُرِدت في فترات متقاربة فيما يشبه التسجيلات المختلفة لخطاب انتخابي لرجل سياسة يقع بثّها عدّة مرّات خلال بضعة أيّام أو أسابيع"(166). الثّانية تعتبر أنّ الأمر يتعلّق بمأثورات مُستقلَّة عن بعضها البعض، ربّما تكون من جهات مختلفة، وقع اقحامها، كما هي تقريبا، في المصحف القرآني(167). هناك احتمال ثالث: ألا وهو احتمال حدوث مراجعات وتنقيحات متعاقبة لنفس القصّة. وبعبارة أخرى، هناك النُّسخة الأوّليّة للقصّة التي هي الملك النّصي الذي استُعيد واستُعمِل من جديد وقعت مراجعته أو تكييفه مع سِيَاقٍ/مناصّ [تعاقب نصّي] ليس هو نفس سياق القراءات الشفويّة الموجودة في زمن النّبيّ، ولكن في سياق يكون قد حدث أيضا في وقت متأخِّر طيلة العشريّات التي تفصل بين وفاة محمّد وتأليف المصحف القرآني(168).

إنّ الممتلكات النصّية تتجدَّد قراءتها باستمرار، ويُعاد تأويلها وكِتابتها ومراجعتها، أو يقع إدماجها في سياقات أخرى؛ بعضها يقع التخلّي عنه في حين يقع تأليف نصوص أخرى. هذه الممتلكات النصّية الجديدة (سواء تعلّق الأمر بقطع نُقِّحت أو أُلِّفت) تطمح إلى الحصول على نفس سلطة المأثورات والنّصوص التي انبثقت منها. تنحدر هذه السّلطة من العلاقة التي يُفترض أنّها تعقِدها مع شّخصيّة المُؤسِّس النموذجيّة وتجربته التي تمثّل القُدوة الحسنة(169). فبما أنّ الممتلكات النصّة القديمة سيقع ربطها بشخصيّة محمّد النبويّة فإنّ الممتلكات النصّية الجديدة ستلقى هي أيضا نفس المصير. وهكذا كان الرّابط بين "النّبي" وبين "كتاب الله" في زمن يوحنّا الدمشقي رابطا راسِخًا في المٍخْيال المُسلِم. هنا يلعب القصّاصون في تكوين (وحتّى خلق) الذّاكرة دورا حاسِمًا، كما يُسهِّل غموضُ ألفاظ مثل "قرآن"، "سورة" أو "جمْع" العديد من أشكال الإسقاط والإستذكار(171).

7) إنّ إعادة بناء مختلف مراحل "القرآن" قبل القرآن هي بالضّرورة عمليّة تجريديّة بحتة (خصوصا بالنّسبة لأقدم مرحلة من هذه المراحل)، ولن أُجازِف هنا بالدّخول في دقائق الأمور. ومع كلّ هذا يبدو لي أنّه بإمكاننا أن نقول الآتي.

أوّلا وقبل كلّ شيء، ليس هناك ما يُشير إلى أنّ محمّد كان ينوي إصدار "الوحي" في شكل كتاب. على العكس، هناك أسباب متينة تدفعنا إلى الإعتقاد بأنّ محمّد كان يعتَبِر نفسه و/أو كانت دوائر مقرَّبة منه تعتبره، على أنّه "نَبِيّ المَلْحَمَة"، النّبي الذي يُبشِّر بنهاية وشيكة للعالم، نهاية كان من المفروض حدوثها حتّى وهو لا يزال على قيد الحياة(172). في مثل هذا الظّرف هناك مهامّ مُلِحَّة أكثر بكثير من مجرّد تأليف مُصحف، والظرف لم يكن بكلّ تأكيد مُختلفا جدّا طيلة خلافة أبو بكر وعمر. إذن، من الضروري أن تكون الممتلكات النصّية لتلك الحقبة تتمثّل أساسا في "مجموعة من التعاليم والمواعظ مرصودة لتهيئة المؤمنين ليوم الحساب"، وكذلك في نصوص ليتورجيّة تعود حتما إلى فترة ما قبل الإسلام.

يمكن الإعتقاد بأنّ الأشياء قد تغيّرت مع تولّي عثمان الخلافة، وذلك لأسباب عدّة منها: تغيّر البنية الإجتماعيّة لجماعة المؤمنين بعد عِقدين من الفتوحات والتوسّع؛ الصّراعات والتوتُّرات بين مختلف جماعات المؤمنين التي كان محورها النّزاع على الخلافة والخصومات الجهويّة؛ ونهاية الزّمن لم تحدُث وممتلكات نصّية تنمو وتتطوّر وذلك خاصّة نتيجة اعتِناق الشّعوب المغلوبة الإسلام والتفاعل معها. ونحن نعرف، من ناحية أخرى، أنّ عثمان حاول جُهده أن يؤسّس إدارته للإمبراطوريّة الناشئة على مركزيّة قويّة (ولكن بنوع من الحماقة كما دلّت عليه النتيجة النهائية التي آل إليها حُكمه). ولذلك فمن الممكن إذن أن يكون عثمان قد بادر بتجميع كتابات "قرآنيّة" في المدينة، وكذلك في أماكن أخرى بإشرافٍ (حقيقي أو مُفتَرَض) من عديد الصَّحَابة(174). لقد كان الأمر يتعلّق بأعمال "نَسْخيّة" كان قد قام بها أولئك الذين كانت لهم، من بين المؤمنين، الكفاءة اللاّزمة لذلك. غير أنّ النّص الذي تمخّض عن ذلك الجمع لا يجب، بدون أيّ تردُّد، أن نُطابِق بينه وبين النّص القرآني الذي نعرفه اليوم (من الضروري أنّه كان يحتوي على بعض نصوص القرآن الحاليّة، ولكن ليس كلّها، ومن المحتمل جدّا حسب ترتيب مختلف في جانب منه). بالإضافة إلى أنّ مبادرة عثمان لا تندرج في مَسار قَوْنَنة، فالنّص الذي جمعه ظلّ معروفا أقلّ ومحدود الانتشار ممّا سيكون عليه "قرآن المروانيّين".

إنّ هذه العوامل، التي يمكن أن تكون هي أصل "الجَمْع العثمانيّ" المُحتَمَل للقرآن، واصلت بطبيعة الحال تفعل فعلها بعد الفتنة [الأولى] الكبرى (656-661 م)، بل أنّ أهمّيتها ازدادت أكثر. يبدو من الصّعب أن نُبالغ، على حدّ سواء، في تقدير النتائج التي ترتّبت على مقتَل الحُسين (680 م)، الذي سجّل موته اختفاء شخصيّة كريسماتيّة، وفي نتائج الفتنة الثّانية (980-692 م). من وجهة نظر تاريخ الذّاكرة، نحن بالتّأكيد أمام مشهد تحوُّل من جيل إلى جيل جديد، فكلّ الشخصيّات المتورِّطة في هذه الأحداث هي تقريبا كلّها شخصيّات وُلِدت بعد الهجرة أو بعد وفاة محمّد. وقد كان الصّراع بين بني أميّة وبني الزُّبيْر هو أيضا لحظةً مناسبة لتقويّةِ مركزيّة الدّولة وذلك أكثر ممّا كانت عليه تحت حكم بني سُفيان. إنّ أوّل إشارة لشخصيّة محمّد، المنقوشة على نقود سكَّها بنو الزُّبير، ثمّ نقوش قبّة الصّخرة التي يحتلّ فيها النّبي مكانة مركزيّة، تمثّل حَدثًا حاسما في تَشَكُّل الإسلام كديانة.

8) حُكم عبد الملك بن مروان يمثّل فترة أساسيّة في تكوين القرآن: ففيها تمّ اتّخاذ قرار قَوْنَنة النّص، وتمّ تدوين مُصحف جديد وقع نشره بصورة أوسع، وأُدمِجَت في نصوص قرآنيّة الإيديولوجيا الرّسميّة للخلافة. ونحن نعرف أنّ الكتب المقدّسة تتكوّن في اللحظة التي تلتقي فيها اعتبارات تتعلّق بالنّص، والسّلطة، والهُويَّة الدينيّة والجَمْعِيّة؛ هذا والحال أنّ الفترة المروانيّة تَفي تماما بكلّ هذه المعايير خلافا لفترة حكم عثمان. ولذلك فإنّه من الضروري أن نستعرض بعُجالة الابتكارات السّياسيّة التي قام بها عبد الملك(175).

بالرّغم من خوضه حربا ضروسا في مواجهة الخليفة ابن الزّبير (وكذلك في مواجهة حركات متمرّدة متعدِّدة) انصرف عبد الملك، في بداية الأمر، إلى القيام بإصلاحات نقديّة. فاستعاد عُمْلة ابن الزُّبير (ت 692 م)، التي تأسّست على إرادة توحيد الجماعة حول شخصيّة محمّد. نعرف مثلا قطعة النقود الفضّية التي ضُربت في حُمص سنة 691/692 م منقوش على وجهها الأوّل جسم ساساني مع تعاليق باللغة الفهلويّة، وعلى قفاها نُقشت عبارة "باسم الله محمد رسول الله". إلاّ أنّه في نفس السّنة كانت قد ظهرت قطع نقديّة من الذّهب والفضّة، سُمِّيت "الخليفة الواقِف". هذه القِطع، التي سُكَّت في الشّام بين سنتي 691 و697 م نُقِش على وجهها، عِوضًا عن الحاكم التقليدي (الإمبراطور البيزنطي أو الملك السّاساني)، رجُلٌ واقف، طويل الشّعر، مُلْتَحي، رأسُه مغطّى بغطاء من الطّراز العربي، يرتدي ثوبا طويلا ويضع يده اليمنى على سيفه. في بعض الأحيان تُحيط بالصّورة كتابة بالخطّ الكوفي ومنقوشة على حافة القطعة نقرأ فيها "عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين"، أو "محمد رسول الله". على قفا القطعة تظهر الشّهادة في صيغتها التّالية مكتوبة بالخطّ الكوفي المعكوس: "لا إله إلا الله وحده محمد رسول الله".

وقد شهدت سنة 691/692 م (72 هـ) أيضا بناء قبّة الصّخرة. والأسباب التي يمكن أن يكون قد شُيِّد من أجلها هذا المَعْلَم هي محلّ نقاش، ولكنّ الفرضيّة المعقولة أكثر هي فرضيّة موشي شارون التي ترى في قبّة الصّخرة عبارة عن مَعْلَم انفصالي بامتياز مرصود لكي يُبْرِز تفوّق الدّين الجديد مع ربْطِه بالتّاريخ المقدّس والتّأكيد كذلك على الخصوصيّة التي تُميِّزه أي الدّور الذي لعبه محمّد والرّفض لكلّ المعتقدات المسيحيّة باعتبارها معتقدات خاطئة(176). لقد كانت غاية عبد الملك هي توحيد المؤمنين في الشّام حوله وذلك من خلال التفريق القاطع أكثر فأكثر بين الدّين الجديد وبين المسيحيّة – لا ننسى أنّ قبائل الشّام العربيّة الكبيرة كانت قد اعتنقت، منذ أمد طويل، المسيحيّة وأنّ خطر فقدان جماعة المؤمنين هويّتَها في نهاية المطاف كان خطرا حقيقيّا يتهدّدها(177).

شهِدنا في سنة 696/697 م (77 هـ) حدوث إصلاح نقدي جديد، وذلك مع تغيير نوع العُملة واعتماد أوزان جديدة لها. والعنصر الأكثر إثارة يمكن أن يتمثّل في التخلّي عن كلّ تجسيم وتشخيص واختفاء حتّى اسم الحاكم. وهذا يدلّ على أنّ هناك إرادة واضحة لمَحْو كلّ أثر أو تذكير بالرّموز المسيحيّة والبيزنطيّة (بالإضافة، فيما يبدو، أنّ إجراءات مختلفة، سياسيّة واجتماعيّة، مضادّة للمسيحيّة كانت قد اتُّخِذَت). النقوش كلّها دينيّة محضة، تدور عموما حول الجزء الأوّل (وأحيانا حول الجزء الثّاني) من الشّهادة. والإيديولوجيا الدينيّة التي تُبرزها هذه النّقوش (والتي نجدها أيضا على الشّواهد العسكريّة التي تَحدِّد مسار الطّريق الرابطة بين دمشق والقُدس – وهذا ابتكار آخر قام به الحاكم، أي أسماء المدن التي هي أسماء ليست أبدا اعتباطيّة)، تصبّ في نفس خانة نقوش قبّة الصّخرة: تأكيد وحدانيّة الله، تأكيد نُبُوَّة محمّد، ونقض عقيدة التّثليث.

وهناك إصلاح آخر بالغ الأهميّة: لقد أصبحت العربيّة هي لغة الإدارة الرّسميّة للخلافة. فدفاتر الجباية، التي كانت تُكتب إلى حدّ تلك السّاعة بالإغريقيّة في المقاطعات البيزنطيّة القديمة (وأحيانا بالقبطيّة في مصر) وبالفهلويّة بالنّسبة للمقاطعات السّاسانيّة القديمة، تُرجِمت إلى العربيّة. لقد كان ذلك المرحلة الأولى لعمليّة إصلاح شملت ليس فقط النّظام الجبائي (مع ترفيع في عبء الضّرائب)، ولكن أيضا موظَّفي الإدارة: من ذلك الوقت فصاعدا سيكون الموظّفون أكثر فأكثر من العرب المسلمين.

وقد كان عبد الملك أيضا المبادر لإصلاح عميق للجيش. ففي حين كان النّظام العسكري تحت حكم بني سفيان قائما بشكل واسع على التركيبات القَبَليّة، أسّس الخليفة عبد الملك جيشا مُحتَرفًا، أمّا المقاتلون المتطوِّعون فقد كان يتمّ تجنيدهم من بين العرب (المسلمين) وممّن اعتنقوا الإسلام من غير العرب. احترافيّة الجيش هذه شكّلت "المرور من مجتمع تقوده نخبة من شيوخ القبائل إلى دولة تُديرها كوادر عسكريّة ومدنيّة"(178).

كلّ هذه الإصلاحات كانت موجّهة نحو مركزيّة أكثر وتقويّة سلطة الحاكم، ولكن أيضا نحو تفريق أكثر وضوحا بين "الإسلام" وبقيّة الأديان الأخرى. فقد اجتمع الدين والسّلطة وأصبحنا أمام شكل جديد من أشكال ظاهرة معروفة جيّدا: يبدو تاريخ الشرق الأوسط وشرق المتوسّط، بين القرنين الثّاني والتّاسع ميلادي (وحتّى فيما بعد) وكأنّه عبارة على مشاريع امبراطوريّة متعاقبة هدفها إقامة حُكم الله على الأرض(179). ومن وجهة النّظر هذه، فإنّه من الدّلالة بمكان أن يكون عبد الملك هو أوّل من اتَّخذ لقب "خليفة الله"(180). وبهذا الصّدد، لم تتوانى أبواق الدّعاية المروانيّة، وعلى راسها الحجّاج، في التّنويه بشخصيّة عبد الملك والرّفع من منزلته(181).

ومع ذلك فإنّ الإعلاء من شأن الخليفة لم يكن يمثّل استراتيجيّة كافية، إذ أنّه يبقى باستمرار عرضة للاحتكاك بكاريزما أحفاد النّبيّ المباشرين. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الإمساك بزمام أمور المُعتقَدات – وهو جانب جوهري من جوانب السّلطة – لا يمكنه أن تكون حقيقيّا إلاّ من خلال الإمساك بزمام الكتابات المقدّسة، أي قَونَنَتها(182). وهذا بالضّبط خو السّياق الذي تأخذ فيه مسألة قانونيّة القرآن شكلها البارز وكامل ملامحها.

9) بالفعل، نرى في قوننة القرآن وقدسيّته رهانات متعدّدة. فهناك بطبيعة الحال مسألة الفرز الديني: يجب أن يظهر الإسلام على أنّه خاتم الأديان والنّاسخ والمُتمِّم لليهوديّة والمسيحيّة، وبعبارة أخرى يجعل منها ديانتين عفا عنهما الزّمن سواء كان ذلك على مستوى العقيدة أم على مستوى التّشريع(183). وقد كان اليهود والنّصارى أهل كتاب: ولذلك فإنّه كان من المستحيل على المسلمون أن يَظلّوا بدون كتاب خاصّ بهم.

ولكن هناك المزيد. إنّنا لم نُشِر بما فيه الكفاية أنّ الأمر كان يتعلّق، بشكل أو بآخر، بالعراق في كلّ الرّوايات التي تتحدّث عن جمع القرآن. فرواية حذيفة بن اليمان عن الإختلاف في القراءات تحكي حادثة وقعت بين أهل الشّام وأهل العراق؛ والأحاديث التي أوردها ابن سعد حول مصحف ابن مسعود تهمّ العراق وبالخصوص مدينة الكوفة؛ وقد نُسب لعبيد الله بن زياد (ت 686 م)، والي العراق، إضافة ألْفَي حرف للمصحف القرآني(184). ونحن هنا بالتّأكيد لسنا أمام أخبار تحكي الواقع بقدر ما هي ثمرة "ذاكرة مُنْحَرِفة"، والتي أدركت مع ذلك إدراكا جيّدا أهمّية العراق الخاصّة التي يشهد عليها دور الحجّاج الحاسم في مسار قونَنَة القرآن، وكذلك خطبة الخليفة عبد الملك الشّهيرة في أهل المدينة في حجّة عام 695 م. وقد نقل لنا ابن سعد نصّ هذه الخطبة:

"يا أهل المدينة، إنّ أحقَّ النّاس أنْ يلزم الأمر الأوّل [أي مساندة النّبي حال قدومه إلى المدينة بعد الهجرة] لأَنْتُم، وقد سالت علينا أحاديثُ من قِبَل هذا المَشْرِق [أي العراق]، لا نعرفها ولا نعرف منها إلاّ قراءة القرآن. فلازِموا ما في مُصْحًفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم [أي عُثمان]، رحمه الله، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم، رحمه الله، فإنّه قد استشار في ذلك زيْد بن ثابِت ونِعْم المُشير كان للإسلام، رحمه الله، فأَحْكَما ما أَحْكَما وأَسْقَطا ما شَذَّ عنْهُما"(185).

قد نُجانب الحذر والحيطة إذا ما بنينا على هذا النّص أيّة نتيجة، مهما كانت، فيما يتعلّق بمحتوى مصحف عثمان: فصحّة هذه الخطبة غير مضمونة إطلاقا، وحتّى وإن كانت صحيحة فإنّها كانت تمثِّل بالأخصّ الطريقة التي كان يريد أن يقدّم من خلالها عبد الملك سياسته. ومهما يكن من أمر، فإنّ هذه السّياسة هي سياسة واضحة جدّا: بالنّسبة للخليفة، الذي خرج منتصِرا من الفتنة الثّانية التي شهدت الصّراع بين الزُّبيريّين والأمويّين، كان الأمر يتعلّق قبل كلّ شيء بتثبيت السّلطة وترسيخها، ولكن كذلك الحصول على مساندة أهل المدينة. فقد دُمِّر بنو الزّبير سياسيّا وعسكريّا: في أواسط العشريّة الأخيرة من القرن السّابع ميلادي لم يعد وجودهم يشكّل أي خطر. ولكن بالمقابل كانوا قادرين على توفير شرعيّة دينيّة ضروريّة للحُكم الأموي: فهم أُمَناء تقاليد المدينة، ولهم أواصر عائليّة تربطهم بمحمّد من خلال زوجته عائشة خالة عبد الله بن الزُّبيْر. فهم وحدهم إذن الذين في مقدورهم، في المخيال الجمعي الإسلامي، أن يُنافسوا العَلَويِّين، أحفاد النّبي، ألدّ أعداء بني أميّة. وبهذا يكون الحجاز، الذي هُمِّش على المستوى السّياسي، قد أصبح حينها مركزيّا على المستوى الديني.

وهكذا نرى أنّ النُخبة المدينيّة ستلعب دورا حاسما في تأسيس إيديولوجيا النّظام الجديد على غرار عُروة بن الزّبير (ت 713 م)، وهو أخو عبد الله بن الزّبير الذي قتله جيش الحجّاج أثناء محاصرته مكّة، أو لاحقا ابن شهاب الزُّهري. وكمل لاحظ أمير معزّي فإنّ فترة عبد الملك ليست هي فترة قوننة القرآن فحسب: هي أيضا الحقبة التي بدأ فيها المصدر الثاني للإسلام، أي الحديث، يأخذ طابعا مُمَنهَجا(186). فإلى جانب التحكُّم في النّص المقدّس، قنّنه النّظام السّياسي، هناك كذلك سعي (نجح نوعا مّا) لممارسة نفوذ على "الذّاكرة".

وإرادة التحكّم هذه تُفهم جيّدا إذا عرفنا أنّ الحركات السياسيّة-الدينيّة المارقة، حتى لا نقول مُتمرِّدة، مثل حركة المختار (ت 687 م)، كانت موجودة بكثرة، وكانت بالخصوص أكثر نشاطا في المناطق الشيعيّة. ولكن، حتّى وإن كان المذهب الشيعي في أغلب الأحيان، خلال تاريخه، مذهبا سَكِينيًّا، فإنّه يستند على مبدإ – وجود خطاب نبوّي حيّ باستمرار – من شأنه، نظريًّا على الأقل، أن يُشكِّل خطرا سياسيًّا مُرعِبًا على شرعيّة النّظام القائم. إنّ تقديس القرآن، بمعنى قوننته، ونشره تحت سلطة الخليفة (مع انعكاسات ذلك على العبادات التي أصبحت تُقام مستقبلا على أساس المصحف)، ووضع شخصيّة من الماضي في الواجهة الأماميّة، شخصيّة محمّد التي كان يُراد، التحكُّم، قدر المستطاع، في ذاكرتها؛ كلّ هذا يمثّل جزءًا من حركة يمكن أن نُطلِق عليها "خلع التجسيد عن النّبوّة". وعدم التّجسيد هو بطبيعة الحال ضدّ التّجسيد: وهذا يعني أنّ الكلام النّبوي لم يعد كلامًا مرتبطا بشخص مّا، نبيّ كان أم إمام، ولكن أصبح كلام "كِتَاب"(188).

إذن، ليس من المُستغرب أن نرى القرآن لا يحتوي على أيّة إشارة صريحة للسّلطة الأمويّة. فهدف عبد الملك ليس امتلاك نصّ يُشَرْعِن الأمويّين: الهدف هو امتلاك نصّ تستطيع من خلاله الجماعة الإسلاميّة، وحدها دون غيرها، أن تحدِّد هُويَّتها؛ ولكن نصّ يكون تحت سيطرة النّظام الذي يتولّى فرضَه تدريجيًّا. ومن خلال أوجُه عديدة: غياب إطار سردي، نصوص بدون سياقات، فسخ المحتوى اللّيتورجي من عديد الممتلكات النصّية المُستخْدَمة، هُويّة مُبهَمة للأصوات المشاركة في الخطاب؛ كلّ هذا يجعل القرآن قابلا بالفعل وبشكل جيّد جدّا لهذا النّوع من التّوظيف السّياسي.

(انتهى)
_________
الهوامش:
* صدر النّص الأصلي بالفرنسيّة تحت هذا العنوان:
Guillaume Dye: «Pourquoi et comment se fait un texte canonique? Quelques réflexions sur l’histoire du Coran», in Christian Brouwer, Guillaume Dye, Anja Van Rompaey, Hérésies: une construction d identités religieuses, édition de l’Université de Bruxelles, 2015, p. 55-104.

(155) ليس من المستغرب إذن تكون التدخّلات والمراجعات الأكثر بروزا كانت تهمّ اليوم الآخر، والهويّة الدينيّة، طبيعة القول النّبوي، بالإضافة إلى مَسْرَحته داخل المدوّنة القرآنيّة. يُضاف إلى هذا العمل والإخراج الشّكلي للمصحف، وذلك بواسطة آليّات أدبيّة وبلاغيّة مختلفة على غرار "كلمات الرّبط" بين السّور. أنظر بخصوص النّقطة الأخيرة:
G. Dye, «Réflexions méthodologiques sur la «rhétorique coranique» », loc. cit., p. 163-167.
(156) والجدير بالملاحظة أنّ هذا يتمّ بدون إطار سردي.
(157) هذه الكُتل تأتي على مستويات مختلفة: الآية، والسّورة، ولكن أيضا على مستويات وسطيّة – مجموعة آيات لا تكوّن بعدُ سورة أو كُتل من السّور مُدرَجة كما هي في المدوّنة القرآنيّة.
(158) أنظر: K.-F. Pohlmann, op. cit.
(159) في إطار الشفويّة، يمكننا استعمال المصطلح (Spruchgut). وبما أنّ الفرق بين الكتابة والشفويّة ليس مركزيًّا في مناقشتنا هنا فإنّني سأتحدّث بشكل عام عن "ممتلك نصّي".
(160) إنّ الأفكار حول "قانونيّة القرآن بالقرآن" وفكرة "لإحالة الذّاتية في القرآن"، التي هي ثمرة هذه النّظرة، تبدو لي إذن ضبابيّة. وبعجالة: "كتاب" لا تشير إلى القرآن ولكن تشير بالأحرى إلى كتابة عامّة؛ فكلمة "قرآن" في الأصل اسم وليس عنوان كتاب لم يوجد بعد.
(161) أنظر: G. S. Reynolds, The Qur’ān and its Biblical Subtext, Londres, Routledge, 2010, p. 230-258.
(162) بالسّريانيّة؟ إنّ مثل هذا التأكيد القويّ على الطّابع "العربي" للقرآن يوحي بأن له علاقة لصيقة مع الكتابات غير العربيّة.
(163) J. M. F. van Reeth, «Le Coran et ses scribes», loc. cit., p. 71-73.
(164) بعض الأمثلة: سجود الملائكة لآدم (Q 2:34 7:11 15:28-35 17:61, 18:50 20:116 38:71-78) ، قصّة نوح: (Q 7:59-64 10:71-74 11:25-49 23:23-30 26:105-22 54:9-17 71:1-28), ؛ C. A. Segovia, The Quranic Noah and the Making of the Islamic Prophet. A Study of Intertextuality and Religious Identity Formation in Late Antiquity, Berlin, de Gruyter, à paraître) موسى في حضرة فرعون (Q 2:49-93 7:103-166 10:75-93 11:96-99 20:9-98 23:45-49 25:35-36 26:10-68 28:3-50 40:23-45 43:46-56 44:17-33 51:38-40 54:41-43 69:9-10 73:15-16 79:15-26).
(165) مناقشتي تتحدّث عن تكرار الآيات البيبليّة. معرفة ما إذا كان تكرار النبوءات أو الآيات ذات الطابع التشريعي يُفسَّر بنفس الطريقة هي مسألة أتركها مفتوحة هنا. نشير فقط للدّراسة التي صدرت حديثا:
J. Witztum, «Variant Traditions, Relative Chronology, and the Study of Intra-Quranic Parallels», in B. Sadeghi, A. Q. Ahmad, A. Silversteinet R. Hoyland, Islamic Cultures, Islamic Contexts. Essays in Honor of Professor Patricia Crone, Leyde, Brill, 2015, p. 1-50.
(166) أنظر:
F. Donner, «The Qur’ān in Recent Scholarship», in G. S. Reynolds (éd.), The Qur’ān in Its Historical Context, Londres, Routledge, 2008, p. 34.
(167) J. Wansbrough, op. cit., p. 21.
(168) هذه أطروحة بوهلمان، أنظر أيضا:
F. vander Velden, « Kotexte im Konvergenzstrang », loc. cit., p. 161-164.
(169) إنّني أطبّق هنا بتصرُّف الملاحظات الموحية بخصوص سياق مغاير استُعْمِلت في الدراسة التّالية:
H. Najman, Seconding Sinai. The Development of Mosaic Discourse in Second Temple Judaism, Leyde, Brill, 2003, p. 16-17.
(170) هذا يُفسِّر لماذا لا توجد في القرآن اشارات جليّة ودقيقة للأحداث التّاريخيّة. وأيّ حديث بهذا الشّكل يكون من شأنه أن يعوق طموحات النّص الصريحة في العودة إلى فترة التّأسيس. وبالعكس من ذلك، فإنّ النّصوص الإيحائيّة والمجرّدة من أيّ إطار سردي لا تشكّل أي خطر في إعاقة القرآن من القيام بهذا.
(171) حول مصطلح "جَمَعَ"، أنظر:
C. Gilliot, «Collecte ou mémorisation du Coran : essai d’analyse d’un vocabulaire ambigu», in R. Lohlker (éd.), Ḥadīṯstudien. Festschrift für Pr. Dr. Tilman Nagel, Hambourg, Verlag Dr. Kovac, 2009, p. 77-132.
(172) هذه هي الفكرة التي يُدافع عنها كازانوفا. وقد استعادها حديثا عدّة علماء نخصّ بالذكر منهم:
J. M. F. vanReeth, «Le Coran et ses scribes», loc. cit. Ibid., «Muḥammad : le premier qui relèvera la tête», in A. Fodor A. (éd.), Proceedings of the 20th Congress of the -union- Européenne des Arabisants et Islamisants, The Arabist. Budapest Studies in Arabic, 26-27, 2003, p. 83-96 S. J. Shoemaker, op. cit. Ibid., « «The Reign of God has come»: Eschatology and Empire in Late Antiquity and Early Islam», Arabica, 61/5, 2014, p. 514-558.
(173) J. M. F. vanReeth, «Le Coran et ses scribes», loc. cit., p. 71.
(174) أنظر:
A.-L. de Prémare, «‘Abd al-Malik b. Marwān et le processus de constitution du Coran», loc. cit., p. 200.
(175) أنظر:
C. Robinson, op. cit., p. 66-80 F. Micheau, Les débuts de l’islam. Jalons pour une nouvelle histoire, Paris, Téraèdre, 2012, p. 185-211. تتحدّث هذه الأخير عن حقّ بأنّ عبد الملك هو "أوّل خليفة في الإسلام"
(176) M. Sharon, loc. cit., p. 229.
(177) في العادة يميل الغُزاة، عندما يكونون أقلّ تقدُّما من وجهة النّظر الثقافيّة والعلميّة من الشعوب المَغْلوبة، إلى تقمُّص ثقافة ولغة ودين المغلوبين. إلاّ أنّ الخليفة عبد الملك يُمثِّل حالة جزئيًّا استثنائيّة لهذا "القانون" التّاريخي.
(178) F. Micheau, op. cit., p. 196.
(179) أنظر:
G. Fowden, Empire to Commonwealth. Consequences of Monotheism in Late Antiquity, Princeton, Princeton University Press, 1995.
(180) أنظر:
P. Crone et M. Hinds, God’s Caliph. Religious authority in the first centuries of Islam, Cambridge, Cambridge University Press, 1986, p. 7-8. F. Micheau, op. cit., p. 206.
(181) أنظر:
A.-L. de Prémare, «‘Abd al-Malik b. Marwān et le processus de constitution du Coran», loc. cit., p. 191-192.
(182) M. A. Amir-Moezzi, op. cit., p. 22, 83.
(183) أنظر:
G. Dye, «La théologie de la substitution du point de vue de l’islam», in T. Gergely et E. Ben-Rafaël (éd.), Judaïsme, christianisme, islam. Le judaïsme entre « théologie de la substitution» et « théologie de la falsification», Bruxelles, Didier Devillez Éditeur–Institut d’études du judaïsme (collection Mosaïque), 2010, p. 85-103.
(184) ابن أبي داوود السّجستاني، مرجع سابق، ص 117.
(185) ابن سعد، طبقات، دار صادر، بيروت، 1985، ج 5، ص 233. أنظر أيضا:
A.-L. de Prémare, «‘Abd al-Malik b. Marwān et le processus de constitution du Coran», loc. cit., p. 195-197.
(186) أنظر: M. A. Amir-Moezzi, op. cit., p. 83. ، يُقال أنّ ابن شهاب الزُّهري تلقّى في فترة حكم الخليفة هشام الأمر بتدوين الحديث تدوينا منظّما، ولكنّ الزّهري كان عالِما قبل ذلك في ديوان عبد الملك.
(187) إنّ الحديث عن "إمام" وليس على "نبيّ" ليس له أهمّية كُبرى هنا: فما عدا الإسم، فإنّ "الإمام" يتمتّع بكلّ مواصفات النّبي.
(188) أقترض هنا هذا المفهوم من عند:
Aleida Assmann, «Exkarnation: Über die Grenze zwischen Körper und Schrift», in J. Huber & A. M. Müller (éd.), Interventionen, Bâle, Stroemfeld, 1993, p. 159-181. أن يُقَرأ الكتاب أساسا أو أن يُتْلى، فهذا أمر ثانوي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا
صبيغ إبن هيباتيا ( 2016 / 12 / 11 - 12:30 )
متى ستزال هذه الغمة يا أخ ناصر! عملك جيد لكن لماذا تقتصر فقط على الترجمة دون إنتاج شخصي؟
لا أظن أن الغربيين سيفهمون الإسلام أكثر منّا
تحياتي

اخر الافلام

.. تأبين قتلى -وورلد سنترال كيتشن- في كاتدرائية واشنطن


.. تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!




.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي




.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال