الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ترشيد الدعاء

سعادة أبو عراق

2016 / 12 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ما كنت انوي الكتابة في موضوع الدعاء خوفا أن أكون قاسيا أو غير مفهوم لأولئك الطيبين الأطهار المستأنسين بفيء الذات الإلهية ، فالدعاء هو أن تستدعي إلى ذهنك من تناديه وتطلب منه حاجتك، وهي علاقة إنسانية مع الذات الإلهية، فنحن نتصور الله على هيئة إنسانية مطلقة، فهو جل علاه مطلق القوة مطلق الإرادة مطلق الحكمة مطلق العطاء يستجيب للمؤمنين والصالحين والأتقياء.
ولكني في هذه الأيام التي يشتد بها القصف على غزة ، وجدنا أولئك الذين يحترقون ألما لما يجري لا يجدون إلا الله يلجئون إليه يدعونه أن يرفع الكرب والغمة عن غزة ، وإلى هنا يكون الأمر مقبولا, ولكني حينما بدأت اسمع رجال دين مثل مفتي السعودية عبد لعزيز آل الشيخ التي يحرم التظاهر لنجدة غزة وطلب منهم الدعاء فقط، وخطيب جمعة راح يقول إنكم تملكون أقوى الأسلحة وأفتكها وهو الدعاء، ومثل هذا القول سمعته في برنامج ديني يبث من الإذاعة، فرأيت أن التلاعب في مقدسات دينية لصالح السياسيين الخونة أمر لا يسكت عليه، فهم يقولون لا تفعلوا شيئا عمليا، واكتفوا بالدعاء على اليهود وإسرائيل، ولا تفعلوا شيئا آخر.
كنت أريد أن أتكلم في هذا الموضوع في سياق استخدام الدين في خدمة السياسة ، واستسهال اللعب بالألفاظ وحرف الآيات عن معناها، والشريعة عن مقصدها، ذلك أنه الخطر الأكبر الذي أصابنا والذي نعاني منه، وسوف نعاني منه لأمد طويل، هو تديين السياسة، إذ يمكن لأي شيخ أن يكوّن مجموعة دينية كي يعترفون به شيخا وعالما، أو يكون ضمن زمرة دينية، يعمد بعدها إلى تأويل الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة كما يحلو له، وسيجد الأذن الصاغية من أتباعه أو المريدين له، وأن يؤسس على ذلك فرقة, ليست إلا عبارة عن صخرة يمكن لها في تدحرجها التلقائي أن تدمر في طريقها ما تدمر.
والدعاء ليس حكرا على الديانة الإسلامية ، فكل أتباع الديانات السماوية وغير السماوية يبتهلون إلى ربهم ويدعون، كل بطرقته، فالصلاة مشتقة من الصلة، وكل الصلوات هي ادعية إلى الله، فالذي يعبد ربه لا بد انه يدرك في أعماقه أن ربه قريب منه ، ويستمع إليه، وعلى يقين انه سوف يلبي مطلبه, فالصلاة صلة ، أي أن الصلاة ما هي إلا إقامة هذه العلاقة الذهنية أو الروحية المباشرة مع الله ، وما نتلوه نحن في صلواتنا إلا دعاء لله بان يهدنا السراط المستقيم ، كما هدى غيرنا ، ولكننا نحن المسلمين لم نكتف بالصلاة المفروضة ، فقد اتبعنا ذلك بالتسبيح والاستغفار والدعاء.
والتسبيح هو تمثل الله بما له من صفات, ونجبر مخيلتنا أن تستوعب هذه الصفات، فيغدوا قريبا منا كأننا نراه, فنتفيأ بظلة، وهذا الدنو الذهني يجعلنا أكثر جرأة أن نستغفر منه عن ذنوبنا التي اقترفناها في غفلة منا أو أجبرنا عليها من الشيطان أو تعمدنا الخطأ، إن الاستغفار ما هو إلا الإقرار بالذنب والعزم على عدم تكراره.
أما الدعاء فهو الانتقال من الماضي إلى المستقبل، أي أن الاستغفار ليس إلا تنظيف الجسم من الأدران لكي يصبح معافى نظيفا جاهزا للإنطاق مرة أخرى ، كما لو عملنا لأنفسنا فحصا طبيا شاملا ، ووثقنا من تمام صحتنا، وها نحن نريد أن ننطلق مجددا في الحياة ، نحمل رؤيتنا وتصورنا ومطالبنا التي تحقق لنا السعادة في الدنيا والآخرة، فإننا نطلب من الله أن يحقق لنا مطالبنا وأمنياتنا التي نريدها بشكل ملح ومستعجل.
والدعاء هو طلب المعونة لتحقيق أمر نحن عاجزون عن تحقيقه بشكل جزئي أو كلي، وبإمكاننا أن نحلل مكونات الدعاء وعناصره كما يلي:
1- ان هناك طلب، أي رغبة لتحقيق أمر ما، أكان شفاءً من مرض أو رجوع ابن أو أب غائب أو السعي نحو النجاح في عمل ما ، ويجب أن يكون هذا المطلب محتمل التحقيق بمقدار 50% ، أي لا يجب أن يكون احتمال تحقه صفرا أو واحد بالمائة ولا أن يكون تحقيقه مئة بالمائة ، ذلك أن الإنسان يكون أكثر توترا وقلقا ونشاطا ذهنيا, حينما يكون احتمال التحقيق وعدم التحقيق متساويا.
2- يحب أن تكون هناك محاولة للعمل ، وبذل الجهد الأقصى لتحقيق هذا العمل ، ولكن هناك شك بالنتائج وخوف من الفشل ، تجعله بحاجة لمعونة خارجية لترجيح نجاحه, هنا يكون الدعاء في مكانه، فكما يقولون أن هناك شخص راح يدعو ربه لكي يجعله يربح بورقة اليانصيب، فقال له ربه اشتر أولا ورقة يانصيب ثم ادعوني.
3- يجب ان يكون هناك إيمان بأن الله قادر على تلبية دعائك، بمعنى أن لا تطلب معجزة، وانك قريب منه أو هو قريب منك، وانك تعرف ذلك بالحدس.
4- الدعاء هو طلب شخصي محض ، ذلك انك تجلس وحيدا مع الله ، ولك حاجة ضرورية، وإنك تطلبها بإلحاح.

وما أراه الآن أن الدعاء قد فقد عناصره الرئيسية ، بل أصبحت هذه العناصر مغشوشة أو فاقدة لصلاحيتها
1 - إن دعاء الشيخ السديس في الحرم المكي، على مدى ساعة ونصف أو ساعتين لا أظنه دعاء حقيقيا، فمن المتصور أن السديس جلس قبل شهر رمضان ودبج هذا الدعاء بما يملأ ساعة ونصف أو ساعتين، لكي يكون الدعاء شاملا لكل مطلب للمسلمين المتعبدين في الحرم المكي ، لذلك نستطيع أن نحكم عليه بأنه مصنوع، بالتالي فهو غير مجاب، كما أن هذا العدد الهائل من الطلبات في نصرة المجاهدين ووشفاء المرضى ورجوع الغائبين وهلاك الكافرين ، لا نستطيع أن نقول إنها مطالب معقولة.
2 - إن ما نراه من دعاء مجاني، لا نجده مرتبطا بعمل حقيقي جاد. يحتاج معونة صغيرة من الله ، يمكن أن نسميها صدقة، فقولك اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، فمن هم المجاهدين في سبيل الله، فإذا كنت تظن أن حركة إسلامية مجاهدة في سبيل الله، فما أدراك أنها كذلك؟ وأنها ليست مأجورة لأعداء الإسلام، وقولك اللهم اشف مرضى المسلمين، فإن الوباء الذي يصيب غير المسلمين بالتأكيد سوف يصيب المسلمين.
3 - لماذا الدعاء للمسلمين فقط؟ هل المسلمين جماعة مفصولة عن العالم، هل يمكن للمسلمين ان يعيشوا بمعزل عن بقية العالم من غير المسلمين ، هل من الإثم ان تدعو لغير المسلمين بالرفاه والسعادة ، ولماذا الدعاء بمحقهم وإزالتهم ككفرة وملحدين؟
4 - الأدعية جميعها موروثة, ليست ابنة لحظتها وابنة حاجتها، مكتوبة بكتيبات منسوبة للرسول او لأحد الصالحين، فهم يدعون بالهلاك على الكفار ، كما كان الصحابة يدعون على الكفار وهم يعنون كفار قريش، فخطيب الجمعة الذي يقول ( اللهم اهلك الكفرة والملحدين، أعداءك أعداء الدين، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين ...) فهل هذا دعا مستجاب، أن يهلك خمسة مليارات من البشر، وهل يعيش بعدها المسلمون براحة واطمئنان بعد ان يهلكهم؟
5 - يستعمل الدعاء لاكتساب الحسنات، وهذا عمل يخرج الدعاء عن وظيفته الأساسية وهي التقرب من الله والرجاء منه، فمثلا من قال سبحانك اللهم وبحمدك سبحان الله العظيم كافأه الله بالف ألف حسنة.
وبناء على هذا التحليل فإني أظن ان الإسراف في الدعاء وجعله في غير محله هو في الحقيقة ظاهرة تدل على ما يلي:
1 - إن الإحباط الذي ينوء تحته الإنسان العربي، وشعوره بالعجز المطلق، وتهميشه شبه التام، جعله يلجأ إلى الله، يطلب منه العون على هذه الحياة لكي يواصلها حتى الممات، من هذه الناحية نجد ان الدعاء مرتبط بقلة الحيلة التي يشعر بها الإنسان المسلم.
2 - ان تكريس الدعاء كوسيلة لتحقيق الأماني والأحلام ما هو إلا تكريس للكسل الذهني والجسمي، وتعطيل لملكة التفكير والتوقع والتجريب والاستفادة من الخطأ، وتوقف التفكير العلمي الذي يستطيع ان يستشرف الآفاق الصحيحة، والعمل العشوائي باسم التوكل على الله. وتفسير كسله بإرادة الله الذي لم يكتب له النجاح،
3 - إن معظم الإدعية تكرس تقسيم البشر ما بين مسلمين وغير مسلمين، وبالطبع فإن هذا التقسيم يكرس عداءً خفيا بين المسلمين وغيرهم، وإن لم نقل عداء خفيا فإنه لا يرسخ لمبدا الشعور الإنساني أو المجتمع الإنساني الذي يسعى له الإسلام, وهذا يخلق بالضرورة شعورا مضادا للمسلمين .
4 - اذن فإن الدعاء أداة مخصصة، يجب استعمالها في اماكنها التي وجدت لها، وعدم الإسراف في استعمالها بما لم تخصص لها، وإن ما نجده من الأدعية، لا يعبر عن ايمان إنما يعبر عن قلة حيلة، وعدم التفكير بالأسلوب المنطقي للوصول إلى غاية معينة، فالله لا يستجيب كأب لطفل معاق، ذلك انه خلق لنا عقولا بإمكانها ان تحقق لنا مطالبنا، ويعرف مدى قدرتها، لذلك لن يستجيب لدعاء تقدر عليه، ولو كان بالنسبة لك منهكا.
5 - أخيرا كسؤال تهكمي، هل تقدم الغرب المسيحي، وامتلاك اليهود هيمنة على المال والصحافة وعظمة الصين واليابانيين والهنود الكفرة هل هو راجع لدعائهم لربهم، واستجابته الحنونة لهم، أم راجع إلى استعمالهم لعقولهم وتفكيرهم الصحيح وإدراكهم أن الحياة توجب التفكير والعمل، وليس لينوب الدعاء عن العمل ويكرس الكسل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية من قوات الاحتلال


.. لايوجد دين بلا أساطير




.. تفاصيل أكثر حول أعمال العنف التي اتسمت بالطائفية في قرية الف


.. سوناك يطالب بحماية الطلاب اليهود من الاحتجاجات المؤيدة للفلس




.. مستوطنون يقتحمون بلدة كفل حارس شمال سلفيت بالضفة الغربية