الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجسد الكلمة (4): التجسد و تثوير الانسان و الحضارة –الجزء الثاني

ابراهيم القبطي

2006 / 1 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في رحلة سريعة إلى درجة أكاد أجزم بأنها لا تفي بكامل الغرض ، حاولت في الثلاث مقالات الأولى [1] أن أتطرق إلى منطقية التجسد ، ثم إلى التجسد كحدث تاريخي ، ثم كيف أحدث هذا التجسد التغير في فكر العالم ، فأله الطبيعة البشرية ، و حول البشر إلى أبناء للإله الواحد بعد أن كانوا عبيدا للآلهة ، ومن هذه البنوة اشتعلت روح الابداع و تثوير الحضارة ، حررت الانسان من قيود الشريعة و ديكتاتورية الآلهة ، إلى مزيد من القوة و الحرية ، و اليوم أستكمل ما بدأت من ثورات حققتها فكرة التجسد في مسار الحضارة.
*****
مقدمة لابد منها....

عندما تطرقت في المقالات السابقة إلى التجسد ، كان اعتمادي على المنطق و العلم و النصوص الكتابية من العهدين القديم و الجديد ، و الحقيقة أنه لا تكتمل فكرة التجسد و آثارها إلا بالتيقن من مدى تغلغلها في قلوب و عقول المؤمنين بها ، فلا يكفي وجود نص كتابي لكي تصل الفكرة للناس ، فليس كل الناس من المثقفين أو المتعلمين ، و هنا يأتي أهمية الطقس أو الشعائر المقدسة ، و بالتحديد طقسي المعمودية و العشاء الرباني [2].

منذ الكنيسة الأولى و حتى عصرنا هذا مارست الكنيسة طقس المعمودية ، التي يتم دفن المؤمن الجديد فيه تحت الماء ثلاث مرات ، مماثلا لموت المسيح لمدة ثلاثة أيام في القبر ، و عندما يرتفع الشخص من الماء ، يماثل قيامة المسيح من الموت (كولوسي 2: 12) ، و هذا الطقس أستوعبه المؤمنون على أنه الاتحاد بالمسيح و الميلاد الجديد من الله ، فنجح الطقس في نقل المؤمن إلى لحظات الصليب و الدفن ثم القيامة ، متخطيا حواجز الزمن و مؤكدا للمؤمن الجديد أنه عضو في جسد المسيح المصلوب و القائم من الأموات . و أنه يحيا على رجاء القيامة في اليوم الأخير من خلال هذه الاتحاد .

أما العشاء الرباني (الافخاريستيا أو سر الشكر) ، فكان الطقس الثاني و الاساسي الذي رسخ مفهوم الجسد الواحد ، و ومارسه مؤمنو الكنيسة الأولى و حتى العصر الحالى باقتسام جسد المسيح و دمه في صورة خبز و خمر ، و قد أستوعبه المؤمنون على أنه اتحاد أفراد الكنيسة المتجدد بالمسيح ، ومن خلاله يشتركون في جسده و منه ينالون حياة و وحده عضوية مع الله شخصيا و ثبات في شخص المسيح (يوحنا 6: 53-57) ، فكان مفهوم هذا الطقس ثورة الثورات ، فأن تقتسم الإله و تتشارك فيه ، هو اعلان أن أعضاء الكنيسة هم حرفيا أعضاء في جسد المسيح ، و أن "الإله قد صار إنسانا ، لكي نصير نحن إلها فيه" ، و خرجت مبادئ المسيحية من دائرة الفلسفة و اللاهوت إلى دائرة عموم الناس من العامة و البسطاء الذي يحيون هذا الطقس و يمارسوه في حياتهم اليومية .

فلم يكن النص أو الفكرة المكتوبة هي فقط التي تحرك التاريخ ، بل الحياة المعاشة و الطقس اليومي ، الذي يعلن أننا جسده ، و أننا قد توحدنا فيه ، و و يزرع ثورات الألوهة و البنوة لله ، و الحرية في واقع شعبي يكسر حاجز الخاصة من العلماء و اللاهوتيين .
*****
استكمالا للثورة الثالثة :من أجل مزيد من الحرية

لقد تطرقت المقالة السابقة إلى الحرية و أن التجسد قد حرر الانسان من لعنة الشريعة ومن الديكتاتورية الإلهية المطلقة ، و كيف أن التجسد قد صالح بين قدرة الله و علمه اللامحدودين و حرية الانسان ، و نستمر لنؤكد أن التجسد قد حرر أيضا الانسان من حرفية النص المقدس إلى روح النص أي الفكرة المقدسة .

فقد فهم المسيحيون الأوائل أن تجسد الكلمة هو اتحاد الإلهي بالبشري ، و أن العلاقة بين الإلهي و البشري هي علاقة حوار و جدل و فهم و روح ، وهذا قاد إلى مزيد من الفهم للكلمة المكتوبة ، فالمسيح (إعلان االله الكامل) هو الكلمة الحية ، أما نصوص العهدين القديم و الجديد فهما الكلمة المقرؤة .

و كما كان المسيح هو اتحاد الإلهي بالبشري ، كذلك كانت الكلمة المكتوبة هي الحوار بين الإلهي و البشري عبر التاريخ ، فهي ليست إملاء ، أو فروض ، أو أوامر و نواهي ، أو أخلاقيات اجتماعية بل هي حوار مع الله يتخطى الحرف و النص إلى المعني و الروح ، حيث يؤكد بولس الرسول أن "الحرف يقتل ولكن الروح يحيي." (2 كورونثوس 3: 6) ، ومن هنا كان تجسد المسيح هو البداية الفعلية لمحاولات فهم النص المقدس و تحليله ، حيث أن البحث و الفهم هو الغاية ، و ليس التلغيز أو السرية أو الحفظ أو التلاوة كما هو واضح مثلا في القرآن [3] ، وهذا ما حدا بالمسيح أن يؤكد على أهمية تفتيش الكتب و البحث و الدراسة ، مع التأكيد أنها لا تملك في ذاتها الحياة و لكنها تشهد للمسيح (يوحنا 5: 39) ، فمصدر الحياة هو المسيح نفسه (يوحنا 14: 6)
*****
الثورة الرابعة: من أجل العقلانية و المعرفة

المحلل لفترة ما قبل التجسد يستطيع أن يؤكد أن حضارات و علوم مصر الفرعونية ، أو سومر ، أو فينيقيا أو اليونان على الرغم من تقدمها لم تكن للعامة ، بل كانت حكرا على الخاصة من الناس ، فكان التعليم وراثيا (من الأب لابنه) أو بنظام التلمذة ، و افتقدت بالتالي المؤسسات العلمية المتخصصة و التي تجعل من المعرفة تراكمية و لعامة الناس ، و بسبب هذه المشكلة فُقدت الكثير من المعارف من الحضارات القديمة سواء المصرية أو السومرية أو اليونانية ، فقد كان العلم يعتمد على المجهودات الفردية و النبوغ الشخصي .

و بدخول بذرة الكلمة المتجسد "المذّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم. " (كولوسي 2: 3) إلى مسار الزمن بدأت تنمو حضارة مختلفة عن جميع الحضارات التي سبقتها – حضارة التجسد - و بدأت تهرب من عجلة القدر و فناء المعرفة الذي حكم على الحضارت السابقة لها ، فالمسيح فهو أقنوم الحكمة (أمثال 8: 12) ، و المسيح نفسه يؤكد بأن المعرفة هي الوسيلة للحرية (يوحنا8: 32) ، و أن الهدف الاسمى للمعرفة هو معرفة الله ذاته (يوحنا 17: 3). وقد مرت حضارة التجسد بأربعة مراحل ، مرحلة الحوار و التفاعل مع معارف القدماء (حتى القرن الخامس) ، ثم مرحلة الكمون و الحفاظ على هذه المعارف (من القرن الخامس للعاشر) ، ثم مرحلة هضم و استيعاب ثم تخطي هذه المعارف (من العاشر إلى ال15) ، ثم مرحلة الانفجار المعرفي ( من ال15 إلى الوقت المعصر)

المرحلة الأولى :التفاعل
لا يمكن تتبع الأثر العقلاني و المعرفي للتجسد إلا من خلال التفاعل بين الكنيسة (جسد المسيح) و المجتمع . ففي القرن الأول الميلادي بدأت الكنيسة في الدخول في جدال مع المجتمع الوثني ، ، فبولس يتحاور مع فلاسفة اليونان (اعمال 17: 22-25) و يبدأ هذا الجدال الفلسفي و اللاهوتي الذي غزا العالم القديم ، منقادا بقوة الروح ، و متبوعا بالمعجزات.

و على مثال بولس و الرسل و التلاميذ استمر الحوار مع الثقافة الهيللينية القديمة فقامت مدرسة الاسكندرية و التي أنشأها القديس مرقس [4] أثناء تبشيره في مصر ، فحملت شعلة الفلسفة اليونانية لفترة طويلة من الزمن ، ومنها خرج أباء الكنيسة الأوائل ليقودوا المجامع المسكونية [5] ، و ليعين منهم البطاركة على كنيسة مصر ، و استمرت إشعاعا للحضارة و بوتقة لصهر الحضارة اليونانية و الرومانية مع روح التجسد المسيحية ، فكانت يُُدرس فيها الكتاب المقدس و العقيدة المسيحية و الفلسفة و المنطق و الطب و الهندسة و الموسيقى و غيرها ، و لم تندثر إلا بعد الانشقاق بين الكنائس الغربية و الشرقية في مجمع خلقدونية (451 م.)

المرحلة الثانية : الكمون
وبعدها حمل الشعلة المقدسة الحركة الرهابنية ، فلم تنتهي فكرة التجسد تحت ضربات الاسلام عند بداية القرن السابع ، أو تحت طرقات القبائل الجرمانية في القرن الخامس . بل كمنت فترة كان فيها الرهبان في أوروبا يبشرون بها بين القبائل البربرية الغازية محولين قادتهم إلى المسيحية ، و يوقدون الثورات الزراعية و التعليمية و التبشرية بين ربوع أوروبا.

المرحلة الثالثة : الاستيعاب و التخطي
و من خلال العصور المظلمة التي مرت على اوروبا بانهيار روما ، ظهرت مبادئ الحضارة الاسلامية على يد مسيحي سوريا و مصر ، وحملت مشعل الحضارة لما يقرب من ثلاثة قرون ، وهنا يتسائل د. توبي هف في كتابه "فجر العلم الحديث" [6] ، لماذا و على الرغم من الاشواط الكبيرة التي قطعها العالم الاسلامي في العديد من مجالات الفكر و الفلسفة و العلم و المنطق و الطب لم يكسر حاجز العصور الوسطي و يخرج إلى عصر العلم الحديث و التقدم ؟ بينما نجحت الحضارة الغربية في ذلك ؟!!!

ويجيب بأن التفسير يقع على عاتق اللاهوت ، فالفكر اللاهوتي الغربي يؤكد على أن الانسان صورة الله (تكوين 1: 26) ، و قادر على فهم القوانين الكونية و استيعابها بالعقل دون الاستعانة بالوحي [7] ، و يملك القدرة على وضع شريعته متحررا من لعنة الناموس (الشريعة) ، فقادت الكنيسة الثورة القانونية و التشريعية في أوروبا في القرنين 12، 13 [8] ، وهذه الثورة التشريعية هي التي سمحت بظهور المؤسسات المستقلة قانونيا ومنها الجامعات [9] ، و الجامعات الأوربية هي التي قادت المعرفة إلى التراكمية و كسرت حاجز العصور الوسطى ، فقد كان للكنيسة الغربية دور أساسي أثناء العصور الوسطى في التمهيد لظهور العلم الحديث من خلال شرارة الثورة القانونية و التي أشعلت الثورة العلمية و الثورة الاصلاح الديني فيما بعد [10]. كذلك فأن الكنيسة هي التي رعت فنون عصر النهضة من رسم و نحت و التي كانت المدخل إلى العلوم التجريبية [11] في عصر النهضة.

و بالمثل كانت الكنيسة الكاثوليكية هي الراعية للفلسفة الأفلاطونية المنادية بالعلل الطبيعية للأشياء ، وهذا ما يؤكده الفيلسوف المسيحي بيتر ابيلارد (ت 1142 م.) [12] ، ، و تبنت فيما بعد الفلسفة الارسطية على يد توما الأكويني (1225-1274 م.) و الذي مزج فلسفة أرسطو مع الثقافة التجسد المسيحية . و على الرغم من هذا لم يفقد فلاسفة الكنيسة روح التجسد ، فيؤكد بتير ابيلارد "أنه لا يريد أن يكون فيلسوفا إذا عنى ذلك ان يصطدم ببولس الرسول ، و لا يريد أن يكون أرسطيا إذا عنى ذلك قطيعته مع المسيح" [13].

في حين على النقيض ، كان المسلمون يطلقون على العلوم الطبيعية العلوم الاجنبية [14] ، و كان محكوما عليها بالفناء لمعارضة الحركات السنية و الصوفية في القرون 12 ، 13 (على يد ابن تيمية و الغزالي) لكل ما هو خارج عن الشرع و علوم السلف من القرآن و السنة ، فكانت الكلمة الأولى و الأخيرة في الاسلام للشريعة المبنية على القرآن و السنة كرأس العلوم [15] ، و الكاملة الثابتة التي لا تتغير [16]. و قد تسلطت هذه الشريعة على كل الأمور البشرية منكرة هذه القدرة الانسانية على استعمال العقل خارج الوحي [17] ، و تم القضاء على المعتزلة و الفلاسفة (المنادين بأفضلية العقل على النقل) و على علم الكلام ، و تحول الكثير من فقهاء المسلمين السنة ينعتون العلوم الفلسفية و الطبيعية بأنها الحكمة المشوبة بالالحاد و الملعونة ، فساد النقل على العقل ، و أغلق باب الاجتهاد على يد الشافعي ، و ظهر مبدأ "لا اجتهاد مع النص" ، فحَكم النص لا المعنى ، و انكمش العقل الاسلامي و العربي تحت ضربات الشريعة .

المرحلة الأخيرة : الانفجار المعرفي
و يكفينا أن نؤكد أنه في هذه المرحلة ، كل لحظة يكتشف فيها الانسان سبقا علميا ، أو يتحكم في قوى الطبيعة ، أو يكتسب المزيد من القدرة على التحكم في الجينات ، أو يتعلم المزيد عن الشفرة الوراثية ، يمثل هذا تهديدا لإله الشريعة ، و لعبيد هذا الإله ، فهذا تحدى لقدرته ، و اعتداء على سلطانه ، و مساحة جديدة تكتسبها الحضارة الانسانية على حساب هذا الإله ، و لكنه يمثل مكسبا لإله التجسد "ابن الانسان" الذي لا يتورع على أن يهب نفسه من أجل العالم و خلاص العالم.
*****
مزيد من الثورات :

الحقيقة أن ثورات الحضارة و الانسانية لا تنتهي و لن تنتهي بتجسد الكلمة ، فعلى سبيل المثال بدأت الديمقراطية في أيام اليونان و لكنها لم تستمر لعدم وجود الاصول اللاهوتية و الايمانية ، ومع دخول فكرة التجسد إلى حيز التاريخ ، ظهرت فكرة تقسيم جسد الله و ابتلاعه (في الافخارستيا) و التي كان لها الكثير من الآثار في تكسير السلطة الإلهية المطلقة و توزيعها بين الشعب ، و هذا هو روح الديمقراطية ، و هكذا تحولت أعظم سلطة في الكون إلى الشعب ، ومعها انتفت سلطة الملك أو البابا و تفوقت سلطة الشعب . و على هذا قامت الديمقراطية أي حكم الشعب .

وكذا فكرة أن المؤمنين أعضاء في جسد الإله ، و أنهم صاروا جسدا واحدا رأسه المسيح (1 كورنثوس 12: 12- 13) ، قد ساهمت في تأسيس علم الاجتماع بمفهومه الحديث ، فهي التي خلقت المجتمع الكنسي الأول ، و الذي بنى علاقاته على أساس المساواة بين جميع أعضاء الجسد الواحد في الحقوق و الواجبات (اعمال 2: 44؛ 4: 32) ، بل أن بعض الفلاسفة في القرن العشرين أثاروا نقطة أن قبول المجتمع الغربي لفكرة زراعة الاعضاء (مع توفر التكنولوجيا المناسبة) يرجع إلى جذور المسيحية في الجسد الواحد ، حيث أن الآخر في المجتمع هو عضو مشارك في الجسد .

و أيضا من الجدير بالذكر أيضا أن الجسد البشري مازال يقيد الروح البشرية التي تتوق للسمو و الارتفاع و التغلب على حواجز الزمان و المكان ، وهذه الفجوة بين القدرة الفعلية للجسد و حلم الروح هي التي قادت الانسان على طريق الحضارة و التكنولوجيا ، فاخترع الطائرات و الغوصات و المراكب الفضائية ، و الميكروسكوبات و التليسكوبات ، كزوائد ميكانيكية لزيادة قدرته الجسدية المحدودة ، و مازال يبحث عن المزيد من السرعة و القوة و العلم دون حلول جذرية.

و لكن تجسد الكلمة لم يترك هذا الحلم دون أن يملأه بالرجاء ، فعلى رجاء القيامة يرث المؤمنون جسد ممجدا ، فلقد قام المسيح من الموت في اليوم الثالث ، لكن جسد قيامته لم يكن بنفس طبائع الجسد العادي ، فقد كان جسدا ممجدا يستطيع أن يأكل و يشرب ، و أن يُلمس (لوقا 24: 36-44). و نفس هذا الجسد لا يحكمه المكان و لا الزمان فيدخل من الابواب المغلقة (يوحنا 20: 26- 28).و بهذا يمنح التجسد مزيد من الرجاء و يكسر آخر حواجز البشرية نحو الحرية ، أي الموت و الاحتياج ، فجسد قيامة المسيح لا يموت و لا تحده حواجز المكان و الزمان أو الطعام و الشراب .
*****
لقد كان تأثير فكرة التجسد تدريجيا في مسار التاريخ ، و لكنه في الوقت ذاته من السهل رصده و تتبعه ، فقد كان تاريخ البشرية قبل التجسد تمهيدا للحدث ، فامتلأت صفحات العهد الدقيم بنؤات عن المسيا المنتظر ، و أمتلأت أساطير الغرب و الشرق من الشعوب الغير يهودية بقصص مختزلة عن تجسد الإله ، في تأكيد لحاجة الانسان إلى التجسد ، و أما تاريخ البشرية بعد التجسد فكان تحقيقا لتأله الانسان و الطبيعة البشرية تدريجيا من خلال تقبل تجسد الإله ، و الانكشاف الدائم لطبيعة المجد الذي أعده لنا الله قبل تأسيس العالم (يوحنا 17: 5 ، 22).

و على الرغم أنه على مر التاريخ كان هناك مسيحيون أساؤا إلى روح التجسد و المسيح ، و نقلوا صورة مختلفة حطمت ايمان الكثيرين بجمال المسيح و غفرانه ، و لكنهم أبدا لم يستطيعوا إطفاء نوره للعالم "انا هو نور العالم.من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة." (يوحنا 8: 12) ، و مازال الكثير من المسيحيون بالوراثة لا يفهمون التجسد ، و لا يعيشونه ، وكلما ابتعد المسيحيون عن التجسد كلما تحولت الكنيسة إلى سراب ، و تحول المجتمع الكنسي إلى منظمة اجتماعية .

و على الجانب الآخر قد تظهر فكرة التجسد لمن يعيشون في مستنقعات اليأس الاسلامي ، مزيج من الخيال الجموح و الكفر الواضح ، يستميتون في الدفاع عن تنزيه الله عن التجسد ، و ينكرون بأنه إذا كانت هذه ارادته فمن هو الراد لها ، و لكن مع هذا تقف حقيقة التجسد شامخة موثقة تاريخيا من الآثار الحفرية و المخطوطات التاريخية المسيحية و الغير مسيحية ، و يحكمها المنطق ، بل و لا يمكن الهروب من منطقيتها ، بل و آسرة ، فهي التي حركت خيال الشعراء و الفنانين و الكتاب و المبدعين و العلماء و المؤرخين ، فشخصية المسيح لم تفوقها شخصية أخرى في التاريخ في أسر قلوب و خيال حتى الملحدين من أمثال ماركس و تولستوي و سارتر و راسل ، و لم تتوقف على حدود الحضارات بل أنها أثرت في غاندي قديس الهند .

و إذا أردنا أن نفهم تجسد الله ، لابد أن ندرك شيئا واحدا ، أن محور التجسد هو الانسان ، ففي الوقت الذي تنادي فيه جميع الأديان بحقوق الله (أو الآلهة) و شريعة الله و إرادة الله ، جاء الإله الحقيقي ، ليأخذ لقب "ابن الانسان" معطيا المفهوم الثوري بحقوق الانسان و شريعة الانسان و ارادة الانسان ، و من هنا قامت حضارة الانسان ، و فشلت الحضارات الاخرى التي لم تدرك المعنى ، و بعد أن كان الدين من أجل الله ، صار الدين من أجل الانسان ، و بعد أن كان الانسان يتألم مناديا الآلهة و لا من مجيب ، صار يحني رأسه على صدر الإله المتجسد قائلا " أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك." (لوقا 23: 42) ، و صار يلقي بأحماله على هذا الإله مصغيا إلى صوته "تعالوا اليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وانا اريحكم." (متى 11: 28).

و بعد أن كان الانسان عبدا ، لم يقبله الإله إلا إبنا ، و مازالت أقوال المسيح و أمثاله و معجزاته ، وغفرانه للمرأة الخاطئة ، ودفاعه عن الانسان ضد سطوة الشريعة ، وغفرانه حتى لمن صلبوه ، وموته عن العالم ،و قيامته ... تحرك القلوب و العقول.

" وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب. واما هذه فقد كتبت لتؤمنوا ان يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم اذا آمنتم حياة باسمه" (يوحنا 20: 30-31)

ومازال المسيح يؤكد و يدعو :
" دفع اليّ كل سلطان في السماء وعلى الارض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به.وها انا معكم كل الايام الى انقضاء الدهر." (متى 28: 18-20)

----------
الهوامش و المراجع:
1) تناقش هذه الطقوس ليس من الزاوية الدينية أو اللاهوتية ، و إنما من الناحية الفكرية و الفلسفية
2) راجع المقالات الأولى :
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=53259
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=53513
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=53926 د
3) لشرح فكرة حرفية القرآن و طبيعة الوحي الحرفي في الاسلام : أقرأ مقالي السابق:
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=44272
4) مار مرقس الرسول البطريرك الأول فى مصر[ 55م ـ 68م ]
5) مجامع كنسية عالمية بدأت في الظهور بعد الاعتراف بالمسيحية كالديانة الرسمية للدولة في القرن الرابع الميلادي مثل مجمع نيقية (325 م.) و مجمع القسطنطينية (381 م.) و مجمع أفسس (431 م.)
6) توبي هف ، فجر العلم الحديث (الاسلام-الصين-الغرب)- ترجمة د.محمد عصفور (سلسلة عالم المعرفة# 220 ، 1990 م).
7) المرجع السابق ص 82
8) المرجع السابق ص 111
9) كانت أول جامعة في أوروبا هي جامعة بولونيا University of Bologna (1088 م.) ، و التي على الرغم من استقلالها عن الكنيسة الكاثوليكية إلا أنها أمدت الكنيسة بالكثير من الاسلاقفة و رجال الدين العلماء .
10) فجر العلم الحديث ص 137، 138
11) المرجع السابق ص 110
12) المرجع السابق ص 119
13) المرجع السابق ص 163
14) المرجع السابق ص 71
15) المرجع السابق ص 84-86
16) المرجع السابق ص 112
17) لعل أقرب تمثيل على إلغاء استعمال العقل عن أهل السنة هو الدور السينمائي الذي لعبه الفنان أحمد راتب في فيلم الارهابي ، حيث كان يؤكد لعادل امام "لا تجادل يا أخ على و إلا وقعت في المحظور"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناخبون العرب واليهود.. هل يغيرون نتيجة الانتخابات الآميركي


.. الرياض تستضيف اجتماعا لدعم حل الدولتين وتعلن عن قمة عربية إس




.. إقامة حفل تخريج لجنود الاحتلال عند حائط البراق بمحيط المسجد


.. 119-Al-Aanaam




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تكبح قدرات الاحتلال