الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نداء الروح...ام نداء الجسد؟!

خالد زيان
(Khaled Ziane)

2016 / 12 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الروح، الجسد، النفس، الجسم، البدن، الذات....كلها تعاريف لهذا الكائن تحت مسمى الإنسان!!
سمعت أحدهم وهو يقول محدثًا ندمائه في المقهى: أنا لا أبيت مع غانية إلا و أترك صباحًا عند وسادتها ما اتفقنا عليه ليلا من أجر، وأحيانا أدسّه في صدريتها قبل أن ننام، وربما أزيد عليه بعض الدراهم كبقشيش. أخذت أرنو إلى قهوتي وأتأمل حديثه متسائلا: أليست هذه فضيلة من هذا الشاب مرتدية ثوب الرذيلة؟ ألم تمنحه هي ايضا جسدها وكلها ثقة بأن تنال أجرها؟ فيقابل هذه بتلك، وكأن هذه الإطيقية محسومة منذ زمن.
إذا كانت للروح فضائل كما يدّعون، أليس للجسد أيضا فضائل؟ ام أن كل ما يصبو إليه الجسد يُعد شرورا ورذائل و مرتبطا كل الارتباط بالشهوات؟. ألم يُعلّمونا ونحن صغار بأن الأجساد هي التي ستحرق بالنار؟ أليس للروح أيضا رذائل؟ وإذا كانت، كيف تعذب إذًا..؟ أليست سعادة الإنسان مبنية أيضا على ما يقدمه لهذا الجسد؟ ام أن كل ما يُقدم له خارج هذه التعاريف و الأُطر يعدّ شرًا ورذيلة؟. ألا تقودنا هذه التساؤلات إلى العقيدة الثنوية Dualisme في نظرتها إلى الحياة البشرية على أنها صراع دائم بين الروح والجسد، وهو صراع ينتج عنه تحديد مصير النفس بعد الموت في الجنة أو في النار، فإن انتصر الجسد في ذلك الصراع فالمصير إلى النار، وإن انتصرت الروح فالمصير إلى الجنة، ولذلك اشتدوا في معاملة الجسد وحرموه من كل لذة وراحة، لفتح أبواب الملكوت التي لا تفتح إلا للفقراء الزاهدين، تاركين لهم فقط باب التضرع والأمنيات ليتجلّدوا به ويكابدوا به شهواتهم. وظل في اعتقادهم أن الجسد ورغباته مرتع لكل الشرور لأنهما يمنعان الروح من الخلاص والتحرر من حبسها الجسدي لتتعلق بالسماء، وبذلك تعود الى أصلها السامي الذي بعثت منه. وذهبت المنوية أو المانيشية Manichéisme (نسبة إلى مؤسسها ماني وهي ديانة فارسية قديمة 242 م) لأبعد من هذا، وهي حرمان هذا الجسد حتى من أكل الخبز أو شرب الماء إلا لمن اغترف غرفة بيده عند الحاجة فقط، لأنه مادة مكونة للجسد، أما أكل اللحم فيعد جريمة وأمرا محرما، فقد أَجبرت مُريديها بالعيش على أكل الخضر والفواكه فقط ؛ وهذا مثال على قول أحدهم عند أكله للخبز "لم أحصدك ولم أطحنك ولم أعجنك ولم أضعك في الفرن بل فعل ذلك شخص آخر وأحضرك إلي، فأنا أتناولك دونما إثم". وما كان هذا إلا تصورا سلبيا للجسد، يفقد فيه الإنسان إنسانيته، ويبعده عن معنى الأرض، أي عن معنى الحياة الحقيقي، الذي يسمح له بالعبور إلى الضفة التالية وإنشاء عوالم أخرى يطمح إليها.
و لقد ظل هذا التصور قائما إلى العصور الوسطى حيث مثّلته أيضا الثيولوجية المنبثقة عن المسيحية بالتقابل الوجودي بين الروح و الجسد، الخير و الشر، النور و الظلمة، "Le bien et le mal"، واتخذ طابع المبالغة الذي أثّر على مختلف مجالات الفكر والحياة آنذاك. وها هو يعاودنا الآن من وجهة نظر لاهوتية تقدم لنا صورة توحيدية Monothéisme تتجلى فيها القوّتان، الخير والشر، ليكون فيها الإنسان مخيرا بين السبيلين، والمآل دائما نفسه، إما إلى جنة خلد أو إلى نار عذاب.
المتأمل هنا يرى أن هناك التفاتة دائمة إلى الوراء، إلى الأزمنة المظلمة، فكل عصر ينظر إلى الذي قبله نظرة كمال، وكل ريبة فيه تُعد خطيئة!!
وحسبُ هؤلاء الناس بهذه الأفعال أنهم فازوا بالنعيم بعيدا عن أجسادهم وعن الأرض، وتناسوا أن تنعمهم ورعشة ملذاتهم إنما نشأت من هذه الأجساد ومن هذه الأرض. فيهوي عليهم نيتشه بمطرقته كالعادة في انتفاضة على كل هذه الفلسفات اللاهوتية الفارغة التي ارتكبت أبشع الجرائم في حق الجسد، ناطقا على لسان زرادشت ومزدريا أولئك الناقمين على هذا الجسد "إنني بأسري جسد لا غير، وما الروح إلا كلمة أُطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد"، ويذهب لتوصيف هذه الروح بأنها بعد من أبعاد هذا الجسد فقط، مشيرا إليها بِـ "العقل" ذلك الحكيم المجهول، المغيّب بين ثنايا الأديان. ويضيف عن كبت هذا الانسان الذي هو قطعة واحدة جسدًا و روحا "إن من يحيط به لهيب الجسد تنتهي به الحال إلى ما تنتهي العقرب إليه فيوجّه حمّته المسمومة إلى نحره". ويرى نيتشه في هؤلاء الناقمين عجزا ولّد فيهم نقمة على الحياة والأرض ؛ والمعبر الذي لا يؤدي إلى مطلع الإنسان المتفوق، الذي تكلم به زرادشت...
خُلقت من هذه الأرض وعليها وُجدت وإليها أنتسب. فلا تُضيّقوا علي من أجل أن أعتلي جنة لم أرها إلا في بطون الكتب، ولم أسمع عنها إلا في أساطير الأولين. طفولتي، أحلامي، شبابي، هرمي، شيخوختي، قبري...كلها كانت على هذه الارض، فيها ترعرعت وكبرت منتشيًا عبق تربتها، سابحا في أوديتها وبحورها، متفسحًا في جداولها وأنهارها، متغذيا من خيراتها. أنا لم أُكمل بعد معها، لقد اختطفتني فقط بالموت للحظات، لتحتضنني مرة أخرى، وتكون أمي الثانية، أين أرتاح قليلا في رحمها. هناك في أحشائها سأناجيها، حيث لا يسمعنا أحد، سنكون في خلوة لوحدنا، سأعترف لها كما يعترف المذنب لكهنة الدير. فتغسلني من أدراني لتبعثني من جديد، في رحم أم أخرى وفي خِضمّ وجود آخر؛ أين سأعيش هناك متفوقًا على نفسي ومتفوقًا على جسدي الأول بأفراح وأحزان أخرى، و بذكريات جديدة...أليس هذا بكافٍ ليُفسر لكم حالة "الديجافو" ويفسر تفوق الإنسان على الإنسان؟ أليس هذا ما تنادي به الأرض مُجلجلة "ما الإنسان إلا كائن يجب أن نتفوق عليه؟". ألا ترون هذا الارتقاء من عصر لآخر؟. أتوسل إليكم بكل ما تؤمنون به وبكل ما هو مقدس لديكم أن تُخلّوا بيني وبينها، أريد أن أقيم قيامتي عليها في كل مرة أموت ؛ وأرضَى بها حَكمًا وجلّادا.....هكذا سيتكلم الجسد لو نطق!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا الإسرائيلية تبدأ النظر في تجنيد -اليهود المتش


.. الشرطة الإسرائيلية تعتدي على اليهود الحريديم بعد خروجهم في ت




.. 86-Ali-Imran


.. 87-Ali-Imran




.. 93-Ali-Imran