الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجتمع المغربي: بين سيرورة التحديث واستمرارية التقليد

يونس أعناجي

2017 / 1 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


" ما طبيعة المجتمع المغربي؟ " كان هذا السؤال ولا يزال ديناميا في التعاطي السوسيولوجي مع المجتمع المغربي، بدءا من الظاهرة الكولونيالية ـ بكونها هي التي أفرزت لنا هذا الإشكال السوسيولوجي ـ إلى اليوم. فتعددت المقاربات وتباينت الرؤى حول خصوصية المجتمع المغربي. مما أدى إلى بروز مجموعة من المفارقات سواء على المستوى النظري أو على المستوى الواقعي (العصرنة/ الأصلنة ـ التاريخية/ الهوياتية ـ التحديث/ التقليد ...). وأبرزها العلاقة الجدلية: تقليد/ حداثة( تحديث). فنجد المجتمع المغربي انطلاقا من هذه المفارقة يتأرجح بين هذين النمطين. فكيف يمكن إذن تفسير العلاقة التناقضية بين سيرورة التحديث واستمرارية التقليد بالمجتمع المغربي؟ وما مدى إسهامات الإقترابات العلمية لهذه العلاقة في تحديد طبيعة هذا المجتمع؟

من المعروف بأن " المعرفة الكولونيالية " تستمد تحليلاتها و تفسيراتها في أطر معرفية و منهجية ترتكز أساسا على التمييز بين عالم الشهادة وعالم الغيب، وبين المادة والروح، وبين الواقع والقيمة ... تمييزا اختزاليا ( أي أن التمسك بطرف يستلزم نكران الطرف الآخر )، مما جعل الباحثين الاجتماعيين في "الغرب" ومن سار على نهجهم في " العالم الثالث " يغرقون في مجال لامتناهٍ من الثنائيات المتنافية ( الموضوعية والذاتية ـ البناء والفعل ـ الكلية والجزئية... ). إن منطق التعارض هذا، والذي يستمد مشروعيته الفكرية (العلمية) من معارف دينية و فلسفية ، بدا جليا في التحليلات السوسيولوجية للمجتمع المغربي قبيل، أثناء وبعد الظاهرة الكولونيالية، وقبلها في السوسيولوجيا الكلاسيكية ( دوركهايم ـ ماركس ـ فيبر ) فنجد عند هولاء صنفين من المجتمعات على التوالي: مجتمع قائم على التضامن الآلي في مقابل مجتمع قائم على التضامن العضوي، والمجتمع الاقطاعي مقابل المجتمع الرأسمالي، والمجتمع التقليدي مقابل المجتمع العقلاني. هذه الثنائيات المتتافية ( على المستوى النظري ) وتأثيرات الظاهرة الاستعمارية ( على المستوى السوسيوـ واقعي ) أنتجت لنا المتعارضة: تقليد/ حداثة.
صراع التقليد والحداثة في الأدبيات النظرية أفرز لنا حالة نهائية للمجال الاجتماعي ؛ المجتمع الايجابي عند كونت، والمجتمع الصناعي لدى سبنسر، ودولة التضامن العضوي في نموذج دوركايم، ومجتمع الحداثة كما صوره العروي. لكن هل أفرز لنا هذا الصراع ـ ( تقليد/ حداثة ) ـ حالة نهائية للمجال الاجتماعي المغربي، المتمثلة في مجتمع حديث؟
قبل الخوض في متاهات هذا الصراع و ما أفرزه من نماذج نظرية و واقعية ، يجب أولا أن نبنين الموضوع، وهذا لا يتأتى إلا بالاستقصاء المفاهيمي لمنظومة مفاهيمة على ضوئها نستطيع مقاربة الموضوع مقاربة’’ أكثر تفسيرية ؛ ( الصراع، التقليد، الحداثة، التحديث، التطور الاجتماعي، الانتقالية...).
يتحدد مفهوم الصراع ضمنيا بتحديد أطرافه ( أي التقليد و التحديث )، فالتقليد لم يعد ينظر إليه على أنه المتوارث عن الماضي، بل أصبح ينظر إليه باعتباره نقيضا للحديث والعقلاني ( غيدنز؛ ذكره جون سكوت في كتابه علم الاجتماع المفاهيم الأساسية ). هنا تتضح لنا صعوبة تحديد هذا المفهوم، وغالبا ما يوصف باللاعقلاني مقابل العقلاني، والريفي مقابل المدني، والاقطاعي مقابل الرأسمالي، والزراعي مقابل الصناعي، والتقليدي في مقابل التحديث. فماذا يعني هذا الأخير؟؛ وهو مجموعة من التغيرات المعقدة جدا التي تؤثر على جميع المجتمعات الإنسانية، و إن بطريقة متفاوتة... صحيح أننا نستطيع حصر استعمال تعبير التحديث وعدم تطبيقه إلا على مجتمعات تسمى اليوم نامية. ( بودون و بوريكور ).
لكن هابرماس صاغ تعريفا دقيقا ومفصلا لمفهوم التحديث باعتباره : " مجموعة من السيرورات التي تتدعم فيما بينها، كما يعني تجميع وحوصلة الموارد وتعبئتها ونمو قوى الإنتاج و زيادة إنتاجية العمل. ويشير أيضا إلى إقامة سلطات سياسية ممركزة وتكوين هويات وطنيات، كما يفيد انتشار حقوق المشاركة السياسية وأشكال الحياة الحضرية والتعليم العمومي. ويعني في النهاية علمنة القيم والمعايير...).
نلتمس في هذا المفهوم شمولية في المعنى، بتضمنه مختلف مستويات التحديث ( الاقتصادية، الاجتماعية، السياسيىة، والقيمية...).
إن مفهوم الحداثة أو " الظاهرة الحداثوية " عموما في المجتمع المغربي جاءت بالضبط في سياق الظاهرة الكولونيالية، وبالتالي فهي " ليست ـ الحداثة ـ مفهوما سوسيولوجا ولا مفهوما سياسيا، وليست بالتمام مفهوما تاريخيا، بل هي نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي. " ( جان بودريار ).
ففي المجتمع المغربي لا نتحدث عن صراع تقليد/ حداثة، و أنما تقليد/ تحديث؛ صراع بين نمط متخلف متجذر في الماضي وبين تجليات نمط حضاري ( الحداثة )، هذه التجليات هي سيرورة التحديث التي يعرفها المجتمع المغربي. هذا الصراع المستمر في الزمكان المغربي يحول دون تحديد طبيعة وخصوصية هذا المجتمع ( هل هو مجتمع تقليدي أم مجتمع حديث؟ أم أنه ليس بهذا ولا ذاك؟ ). إن ما يفسر هذا الغموض هو مجموعة من المظاهر التي تطبع ذهنيات، خطابات، سلوكات، وممارسات "المغاربة"؛ ما نشهده داخل مجتمعنا من أرقى أنواع الحداثة المادية (كالأجهزة المعلوماتية مثلا)، في حين أن الحداثة العقلية تكون شبه منعدمة على مستوى المعيش اليومي وتدبير الشأن العمومي والتصورات الخاصة بالوجود والإنسان (عبد السلام الحيمر). بمعنى أكثرة دقة؛ أن العلاقة بين التقليد والحداثة (التحديث) في مجتمعنا تتأرجح بين الصراع والتعايش ( فالإنسان المغربي ـ كما هو معلوم ـ ترعرع في ظل التقليد بكل ما يتضمنه هذا المفهوم من معاني ايجابية وسلبية. لكنه ووجه بمظاهر التحديث في المجتمع، بدءا بالمدرسة العصرية وانتشار الوسائل السمعبصرية والمعلوماتية و انتهاءا بقيم الحداثة الغربية و تجلياتها ). مما يؤدي حتما إلى تبني المبادئ العصرية فكريا و عدم تطبيقها ممارساتيا/ سلوكيا، والعكس صحيح الالتزام فكريا بمبادئ تقليدية والابتعاد عنها أثناء اتخاد المواقف. وهذا ما أشار إليه " عز الدين الخطابي " في قوله: " هكذا نرفض مبدأ تقليدي على مستوى المنطق المجرد (مساواة بين الجنسين مثلا) ونطبقه على مستوى الأدوار و السلوكات ". وهذا يبدو جليا في معظم سلوكات الإنسان المغربي، القروي على وجه الخصوص. إذ نلاحظ مجموعة من مظاهر الصراع/ التعايش في نفس الوقت بين منطقين؛ ( منطق الحنين إلى الماضي بايجابياته وسلبياته، ومنطق ضرورة اللحاق بالحداثة ).
ويمكن رصد تجليات الصراع بين التقليد و التحديث من خلال مستويات متنوعة ـ متعددة ( سوسيو-ثقافية، سياسية، اقتصادية... ):
 المستوى السوسيو- ثقافي: نشير هنا إلى محاولة " عز الدين الخطابي " لمقاربة تجليات هذا الصراع على مستوى العلاقات الأسرية أو على مستوى علاقة الرجل بالمرأة أو على مستوى المقدس. فيما يخص مستوى العلاقات الأسرية ( عملية التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة المغربية ) فهي تكتسب مشروعيتها من عادات وتقاليد المجتمع، و أن أي تجديد يقترن بسلوكات متحررة من القيود الاجتماعية يعتبر مرفوضا. (عز الدين الخطابي، سوسيولوجيا التقليد والحداثة بالمجتمع المغربي ). وبالتالي فعملية التنشئة الاجتماعية داخل الأسر التقليدية تسعى إلى تعليم الفرد الانصياع إلى قواعد المجتمع و القبول بالتراتبية على المستوى الأسري و الاجتماعي ( علاقة سلطوية – هيمنة ذكورية ... ). هذه التراتبية يكرسها الآباء من خلال التنشئة الاجتماعية باسم المبادئ الدينية و الأخلاقية. غير أن الشروط التي ستبرز نتيجة سيرورات التحديث ( أو على الأقل صدمة الحداثة ) أثناء و بعد الظاهرة الكولونيالية (تسارع وتيرة التمدن – انتشار التعليم – تأثير وسائل الاتصال الجماهيري ... ) نجد مساءلة القواعد التقليدية و التراجع عن بعضها، فبدأت أدوار الأسرة و المسجد - كمؤسسات تنشوية تقليدانية- تتراجع لصالح مؤسسات التنشئة الحديثة ( المدرسة العصرية – الاعلام... )، ثم بداية التخلي عن الامتداد الأسري و يحل محله الأسرة النووية و الترشيد التربوي لعملية التنشئة مع استمرارية بعض المواقف التقليدانية في العلاقة الأسرية ( الهيمنة الذكورية مثلا ).
نحن إذن أمام نموذج عصري يحاول إنتاج سلوكات و مواقف تحديثية عن طريق المدرسة و وسائل الاتصال الجماهيري، و نموذج تقليدي يقاوم التجديد بالاستناد إلى المعايير و القيم الاجتماعية التي تحاول الأسرة الحفاظ عليها. ( عز الدين الخطابي ) .

 على المستوى السياسي: من ملامح هذا الصراع في هذا المستوى تلك الخطوات المحتشمة للدولة المغربية في الإصلاحات ( التحديث السياسي )، وكان هذا الأخير ـ أي التحديث السياسي ـ بالنسبة للمجتمعات التقليدية ( خاصة المجتمع المغربي ) من أصعب أنواع التحديث على الإطلاق ( حسب فريد لمريني ) لكونه قام على شعار قوي ألا وهو؛ " شعار الليبرالية " . ثم كون الحقل السياسي ( حسب Balandier ) كحقل للمقدس و الديني و الرمزي و العرفي يتميز ببطء شديد في عملية التغيير، مقارنة مع أشكال التغيير التي تحدث في الحقل الاقتصادي.
فبالعودة إلى التصنيف الذي قام به هيجل للدولة الحديثة ( باعتبار النظام السياسي فيها يستقي مشروعيته من التجربة التاريخية الملموسة للمجتمع و تكون الدولة أسمى تجسيدا للعقل )، و الدولة القديمة ( والتي تستقي مشروعيتها من الأسطورة أو من الدين، أي من سحر المقدس و أوامره القاطعة أو فتاويه التي لا تقبل التمحيص و البرهان أو المناقشة العمومية المفتوحة ) . و لا حتى إلى التصنيف "الفيبري " القائل بأن المشروعية القديمة ( تستند إلى نظام مقدس من القيم التي تتعالى على الواقع ) والمشروعية الحديثة ( والتي تستند إلى نظام العقل كملك عمومي يخضع في الحقل التاريخي الملموس للمناقشة و الإقناع والبرهنة، بحيث يكون التعدد الديني أو الأخلاقي أو السياسي، وبالتالي التعدد الأيديولوجي بصفة عامة، خاضعا و عاكسا لنظام العقل ). لا يمكن ( بالعودة إلى هذين التصنيفين ) تصنيف الدولة و المجتمع المغربيين ضمن أي منهما أو إن صح التعبير فالنظام السياسي المغربي له مشروعية مزدوجة ( قديمة و حديثة في نفس الوقت ). وبالتالي فالعلاقة بين التقليد و الحداثة في المجتمع المغربي تتأرجح بين الصراع و التعايش، و بهذا تكون العلاقة: تقليد/ تحديث ماكرة، خادعة، ومعقدة إلى حد كبير؛ بحيث لا يتعلق الأمر بعلاقة صراعية و تناقضية، بل بعلاقة صراعية وتعايشية في نفس الوقت. ( فريد لمريني: الفكرة الليبرالية و الحداثة السياسية في المغرب ).
حقق المغرب أشواطا مهمة في مجال الأحزاب، و التعددية الحزبية و المؤسسات الصورية سعيا لتحقيق " شعار الليبرالية ". لكن التحديث السياسي ( حسب لمريني ) بمفهومه الليبرالي ليس لا الأحزاب و لا التعددية الحزبية و لا الانتخابات و لا المؤسسات الصورية، بل التدبير السياسي العقلاني لمجتمع مستقل عن الدولة، ومتعدد ثقافيا و سوسيولوجيا، مجتمعا ديمقراطيا.
من خلال هذا الصراع القائم بين نمطين مجتمعيين ( تقليد/ حديث )، نستخلص بأن المجتمع المغربي يمر بمرحلة انتقالية؛ لكون مفهوم الانتقال في معناه السوسيولوجي يدل على المرحلة التي تسبق مرحلة التحول في المجتمع، وهي معروفة عنها كمرحلة في تاريخ المجتمعات لا تطول زمنيا مقارنة مع مرحلة التحول أو التغير. " إنها كذلك مرحلة وسيطة يستمر فيها التقليدي بالرغم من دخول مرحلة الحداثة ". وفي الركام السوسيولوجي الكلاسيكي نجد أن الانتقالية تم التطرق إليها بشكل ضمني و غير صريح عند الرواد الأوائل في السوسيولوجيا: ماركس ( المرحلة الاقطاعية )، دوركايم ( مرحلة تشكل الرأسمال الصناعي )، فيبر ( عصر الأنوار كمرحلة انتقالية ).
الكل يقر اليوم بأن المجتمع المغربي يمر بمرحلة انتقالية، فالباحث السوسيولوجي ( عبد السلام حيمر )
يقر بأن " المجتمع المغربي المعاصر يمر بمرحلة انتقالية اصطلح البعض على تسميتها بمرحلة الانتقال إلى المجتمع الديمقراطي المتفتح على قيم و معايير الحداثة: اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا. " و حتى بعض المهتمين بالشأن المحلي ضمن تصريحاتهم في البرامج الحوارية في الإعلام العمومي يجمعون على أن هذه المرحلة انتقالية بكل ما تحمل من سلبيات و ايجابيات. لكن هناك من يعتبر أن هذه الانتقالية غير طبيعية؛ لكون الانتقالية مرحلة وسيطية لا تدوم في أقصاها عن عشر سنوات، أما في المغرب هذه الانتقالية قد طولت كثير و أصبحت قاعدة لا استثناء.
يجب أن نشير كذلك إلى أن المقاربات التي تناولت إشكالية: تقليد/ حداثة ( مقاربة عز الدين الخطابي و مقاربة فريد لمريني )، هي اقترابات اختزالية لكونها أغفلت البعد الميكروسوسيولوجي للإشكالية ( المتمثل في صراع التقليد و التحديث بين القرية و المدينة ) والاقتصار على المنظار الماكروسوسيولوجي ( صراع التقليدانية المغربية و الحداثة الأوروبية ). حتى و إن نجد بعض ملامح البعد الميكروسوسيولوجي في مقاربة عز الدين الخطابي ضمنيا و غير صريح.

إن الصراع بين التقليد والتحديث بالمجتمع المغربي لم يؤدي إلى حالة نهائية للمجال الاجتماعي ( أي إلى مجتمع حديث )، وبالتالي فهو " مجتمع انتقالي " .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جلال عمارة يختبر نارين بيوتي في تحدي الثقة ???? سوشي ولا مصا


.. شرطي إسرائيلي يتعرض لعملية طعن في القدس على يد تركي قُتل إثر




.. بلافتة تحمل اسم الطفلة هند.. شاهد كيف اخترق طلاب مبنى بجامعة


.. تعرّف إلى قصة مضيفة الطيران التي أصبحت رئيسة الخطوط الجوية ا




.. أسترازنيكا.. سبب للجلطات الدموية