الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من القوميات -الُمدجنة- إلى القوميات الفاشية: حقبة جديدة؟

خالد الحروب

2017 / 1 / 15
مواضيع وابحاث سياسية



المقالة السابقة، في 1 يناير 2017، تأملت في مخاطر الصعود المعولم ل "الداعشيات الدينية والداعشيات الغربية في عالم جديد مخيف". ولئن كان الحديث عن الداعشيات الدينية هو الأكثر رواجاً وإلحاحاً خاصة في منطقتنا، فإن الداعشيات الغربية متمثلة في الصعود المتسارع للشوفينية القومية بتلاوينها المختلفة لا يقل إلحاحاً ويحتاج إلى وقفة وتأمل اضافيين. تعولم الداعشية الدينية عبر انطلاقاتها ما وراء الحدود الوطنية سمة ليست جديدة بل قديمة ملازمة لظهور التبشير والدعاوى الدينية، وأخذت على الدوام سمات مختلفة واحياناً متناقضة. فأحياناً ترافق الداعشية الدينية مشروعات الغزو الامبرطوري وتبررها وتقف إلى جانب القوة المتوسعة وتتحالف معها. واحياناً تطلق مشروعها الخاص بها الذي ينهمك بتفريغ طاقات لا نهائية لأتباعه غالباً من دون وعي وتبصر، فيؤول المشروع واتباعه إلى خانة التوظيف من قبل القوى المتصارعة في ذلك الوقت المعني. اما التعولم الآخر الذي لا يقل خطرا وتهديداً على عالم اليوم فيتمثل في الصعود المُتسارع والمُتنافس للقوميات المُتشددة في معظم مناطق العالم، بدءا من الولايات المتحدة ثم واوروبا (غربيها وشرقيها) ومرورا وتوقفاً بتأمل مرعب في إزاء حالةروسيا وليس إنتهاءً في الصين وإنتشاء قوميتها الراهن.
بالإمكان القول أن تاريخ العالم المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية لم يشهد صعودا مماثلاً لهذه القوميات التي تزداد حدة تطرفها وتنافسها بين بعضها في مسرح التطرف وفي سباق قاتل بإتجاه من يصل إلى الشوفينية التامة اولاً. هناك جذور واسباب عديدة لهذا الصعود ويصعب إيجازها في مقاربة محدودة، لكن يُشار هنا إلى فشل السرديات الكبرى لليبرالية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والإرتدادات غير المتوقعة لتيارات العولمة الاقتصادية والتواصلية والهوياتية وما جلبته من هواجس الخوف على الثقافات والهويات المحلية، وكذا الازمات المالية والاقتصادية التي عصفت بكثير من البلدان والإقتصادات، إضافة إلى صعود الداعشية الدينية وما سبقها وتلاها من إزدياد اعداد المهاجرين في الغرب. لا تنطبق كل هذه العوامل وغيرها بنفس الدرجة والقوة على كل حالات الصعود القومي الفاشي الذي نشهده اليوم، بل ثمة تنويعاً لحجم وأثر العوامل المختلفة بحسب الحالة والمعطيات. لكن ما يهم هنا على الاقل هو تلمس الخطوط العريضة للصعود شبه المفاجىءلعالم يطفح بالإدعاءات القومية سياسياً وتمجيداً والسياسات الحمائية اقتصاديا ومالياً، وفيه تتحفز وتتوتر الحكومات التي تسيطر عليها تيارات يمينية شعارها الإنكفاء على الذات بدعوى الحفاظ على النقاء القومي، او اغلاق الحدود امام المهاجرين، او عدم ملائمة دين ما (الاسلام في اغلب الحالات) للإندماج في الثقافة والمجتمع المضيف.
من ناحية نظرية صرفة انهك التأمل في فكرة القومية والقوميات كثيراً من المفكرين والفلاسفة ذاك ان القومية، وربما ككثير من الافكار والبنيات الكبرى الاخرى، تحمل الشيء ونقيضه. من ناحية عملية سياسية ربما كان اهم ما تطرحه الفكرة القومية، بعد تدجينها، وبعيدا عن اساطيرها وحمولاتها الرمزية، خاصة في عالم ما بعد الامبرطوريات، هو فكرة السيادة القومية واحترام الدول لسيادات بعضها البعض، وتجريم الحرب والاعتداء على هذه السيادة (بخلاف ما كان عليه وضع العالم الامبرطوري). وهذا السلام النسبي الذي حققته القومية على ارضية فكرة الاحترام المتبادل للسيادة ربما كان فضيلتها الوحيدة. على العموم، تعني القومية تمايز المجموعات البشرية تبعاً لقواسم إثنية او لغوية او تاريخية أو سيادية مشتركة تعزز من التشابه فيما بينهم والافتراق عن غيرهم، وتستدعي من تلك المجموعات الإقرار بتلك التمايزات واحترامها. في حالاتها الناعمة والمدجنة والتعايشية تصبح القوميات ثقافات تعددية تعزز العالم المتنوع والكوزموبوليتاني. اما في حالاتها وتحولاتها الخشنة والفاشية فإن ذات القوميات تتحول إلى وحوش ضارية لا تعرف إلا الحروب وكراهية الاخر، واعلان تفوق الذات على الاخرين واسطرتها بخرافات الماضي وامجاده المنفوخ فيها دوماً. نحن الآن في عالم نشهد فيه تحول قوميات عديدة من حالاتها الناعمة المدجنة إلى حالاتها الخشنة والفاشية.
بيد ان التنويع الشوفيني المتعصب ليس حكراً على الفكرة او الايديولوجية القومية، بل تنطبق احتمالية التطرف الشوفيني على كل السرديات الكبرى تقترح حلولا كلانية للبشر والمجتمعات والكون، بما فيها الافكار الدينية والدنيوية. كل الاديان وبلا استثناء طرح اتباعها اوجهاً مختلفة لتفسيراتها الاجتماعية والسياسية، من التطبيق السلمي التعايشي التعارفي، إلى التطبيق الحربي الإقصائي الإنغلاقي. اتباع كل دين في كل زمان ومكان يروجون تفسيرات متناقضة تماماً، بعضها يقول أن الدين هو رسالة محبة لجميع البشر وليس مقصورا على اتباعه، وبعضها يقول أن اتباع الدين هم المختارون والافضل على بقية البشر، مُقدمين تفسيرات استعلاء الذات الدينية الجماعية وما يترتب عليها من سياسات وممارسات تجوز العنف وتشرعنه. داعش الإسلاموية اليوم ليست "بدعا في الاديان" بل سبقتها داعش المسيحية وداعش اليهودية وتكمن بموازاتها اليوم دواعش اخرى هندوسية وبوذية (تستأصل بلا رحمة مسلمي مينمار مثلاً). في الايديولوجيات البشرية قدمت الماركسية نموذجا اخر لتعدد التفسيرات، من الستالينية الدموية القاتلة إلى الاشتراكيات الاوروبية الاسكندنافية، وما بينهما من طيف عريض يمتد من من جنوب شرق آسيا، إلى قلب افريقيا وصولا إلى طول وعرض امريكا اللاينية.
بالعودة إلى التأمل في عودة النزعة القومية الشوفينية في عالم اليوم يمكن القول انها تتصف بعدة ملامح منها، وربما اولها،السمة العولمية إذ نحن اليوم امام ما يمكن وصفه ب "تعولم الشوفينيات"، بمعنى تعاضد الصعود المتسارع والمتوازي والمُدهش للقوميات المُتشددة في معظم، ان لم يكن كل، مناطق العالم. وكما هي الظاهرات المعولمة التي شهدها البشر في حقب مختلفة، يقف عالم اليوم على حافة الإنزلاق إلى حقبة معولمة جديدة محورها التقوقع القومي المتشدد على الذات وتبجيلها والإستعداد المرضي لخوض صراعات وحروب قومية تستبطن إدعاءات المجد والتفوق على الآخرين. المفارقة هنا ان لفظة "عولمة الشوفينية" تحمل تناقضا ظاهريا في المعنى ذاته، ذاك ان العولمة تعني كسر التقوقع القومي والإنفتاح وتجاوز ظاهرة معينة للحدود القومية. تعولم الشوفينية يعني هنا إنتشار الشوفينيةعلى رافعة التشدد القومي في رقاع العالم العديدة، لتشتغل ضد الإنفتاح والتعولم التعاوني. الملمح الثاني لما نراه هو انطلاق نظرة القوميات المُتشددة لمصالح دولها وشعوبها من زاوية صراعية صارمة لا تقبل إلا الظفر والفوز ب "الغنيمة كلها"، ولا تتعقل الصراعات والسياسة الدولية إلا بكونها معارك صفرية، لا يتحقق ظفر المنتصر بأي منها إلا عبر الخسارة الشاملة والمدمرة للآخرين. في كل صراع او حتى تنافس مع الآخر ليس هناك حلول وسط يؤمن بها القومي المتشدد، بل الإجهاز على الآخر كلياً وهو الإجهاز الذي وحده يؤشر إلى النصر.الملمح الثالث يتمثل في الهوس بنوع مُحدد من القادة الشعبويين الذين لا يعترفون بالسياسة بكونها آلية لتطويق الخلاف وتسهيل المساومة والوصول إلى حلول ترضي الحد الادنى للاطراف المتصارعة، بل ينزعون إلى ال الخطابية والشعاراتية وتبني سياسات قصوى تنتزع التصفيق والتأييد الغوغائي حتى لو لم تكن محسوبة وعقلانية. القاسم المشترك لهؤلاء القادة هو التغني بالهوية القومية المتمايزة تفوقا عن غيرها من القوميات، والتحسر على المجد القومي الغابر الذي يعلن القائد المعني مهمته الرسولية بإعادة بعث ذلك المجد (بوتين وترامب وكل قادة اليمين الأوروبي، كما هم قادة الشوفينيات الدينية، ينهلون من نفس الاساطير التي تمجد الذات وتحط من قيمة الآخر). الملمح الرابع، وليس الأخير، هو ان "العدة الفكرية" للقومية الشوفينية الجديدة مُتناقضة ومرتبكة ومُربكة إذ هي خليط من افكار متناثرة وخلطة ايديولوجية غريبة فيها تشظيات رأسمالية وماركسية، وعلى ارضيتها تلتقي تيارات وتوجهات كانت حتى وقت قريب تعادي بعضها. من جهة، هناك المدافعون عن الاقتصاد القومي المطالبون بحمائية اقتصادية ضد العولمة الاقتصادية التي برأيهم اضرت بالاقتصاد القومي وافقدته السيادة على السياسات النقدية والمالية، وعملت على تمييع الحدود والقدرة المحلية في السيطرة على القرار الاقتصادي، وهؤلاء رأسماليون شرسون. ومن جهة اخرى شرائح من اليسار المعاديللعولمة الاقتصادية من منطلق تدميرها للطبقة العاملة في بلدانها وتعميق فقر الطبقات المسحوقة وزيادة البطالة، كما يتم التنظير. وبين هؤلاء واولئك تنويعات مختلفة معادية للوضع القائم، او عدمية، او خائفة، فضلا عن كل اعداء المهاجرين واعداء التعددية الثقافية والدينية. كل هؤلاء يعتبر الانفتاح والاندماج في المحيط الاوسع هو جذر الخراب الذي يتعرض له "الوطن". في مطلع العام الجديد تتمظهر عولمة القوميات الشوفينية في، وعبر التلاقي الغريب بين الرأسمالية القومية المتشددة وتنويعات من اليسار المرتبك، في بريطانيا حول الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي وفي فوز ترامب في الولايات المتحدة وفي الفوز المتوقع لأحزاب اليمين في اكثر من دولة اوروبية مثل فرنسا وهولندا والنمسا وربما المانيا، إلى جانب اوروبا الشرقية المحكومة اساسا باليمين. هل يدخل العالم حقبة جديدة لا لا تنذر إلا بالشر؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بمشاركة بلينكن..محادثات عربية -غربية حول غزة في الرياض


.. لبنان - إسرائيل: تصعيد بلا حدود؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أوروبا: لماذا ينزل ماكرون إلى الحلبة من جديد؟ • فرانس 24 / F


.. شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف




.. البحر الأحمر يشتعل مجدداً.. فهل يضرب الحوثيون قاعدة أميركا ف