الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقلانية بين مفهوم العلم و مفهوم المعرفة

جلال مجاهدي

2017 / 1 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مفهوم المعرفة هو مفهوم غير مرادف لمفهوم العلم فهو أوسع حدوداً ومدلولاً وأكتر شمولاً وامتداداً منه، والمعرفة في شموليتها تتضمن معارف علمية ومعارف غير علمية، وتقوم التفرقة بين النوعيين على أساس قواعد المنهج وأساليب التفكير المتبعة , فإذا اتبع الباحث قواعد المنهج العلمي في التعرف على الأشياء والكشف عن الظواهر فإن المعرفة تصبح حينئذ معرفة علمية , أما إن اقتصر على الحس و الإدراك و الفهم و اكتساب المعارف عن طريق التجربة و الاطلاع و التأمل و التدبر و التفكر و التقليد , فإننا نكون أمام معرفة صرفة.
مع بداية عصر الأنوار عرف المفهومان الانفصال عن بعضهما ,حيث اقتضت المناهج العلمية رفض العديد من المعارف تحت ذريعة عدم مسايرتها للعقلانية , المسار الفكري بعد فك الارتباط مع العقل الكنسي عرف تطورا مضطردا من سؤال إلى تساؤل و من تراكم إلى تجاوز لهذا التراكم و من نقد إلى نقد النقد , العقل البشري كان في كل مرة يتجاوز نفسه و يتجاوز حقيقة ما كان يعتقد أنها حقيقة أو منهجا فكريا يمثل الحقيقة إلا أن تطور الفكر إبان فترة التنوير اتخذ مسارا أحاديا تمثل في تأليهه للعقل و نبد كل المعارف التي لا تساير منطقه العقلاني.
في هذا الخضم أصبحت اوروبا منفتحة فقط أمام العلم و العقل لوحدهما, ثورة العلم على الكنيسة كان لها انعكاس على مكانة العقل, حيث جعلت من العقل وحده معيارا للحقيقة , هذا المنحى كان نتاجا لتطور التقنية التي تلت الثورة الصناعية , العالم حينها كان مبهورا و مأخوذا بما اخترعه العقل البشري و في عز نشوته سعى العقل إلى عقلنة كل شيء فتحول هو نفسه إلى أداة و تحولت الطبيعة و الانسان إلى مواضيع و أدوات أيضا , هذا المنحى العقلاني السائد حينئذ كان يرجع إلى رغبة إنسان عصر التنوير إلى السيطرة على الطبيعة لاستغلالها و لهذا الغرض كان لا بد من معرفة قوانينها و قواعدها, إلا أن ما حدث هو أنه تم تعميم الأمر على مناحي المعرفة حتى التي لا تحتمل القياس و التقنين و التقعيد و استبعدت معارف شتى رفضها العلم لعدم استجابتها لمعاييره العلمية الجافة , بالنسبة لهذا العقل الأداتي المأخوذ بالتقنية و المبالغ في التعقل و العقلانية, فالحقيقة لا تعتبر كذلك إلا إذا تمت البرهنة عليها بالكم و القياس و البرهان , مما غدت معه مثلها مثل الاشكال الهندسية و الحسابية تعتمد على لغة القياس , العقلانية الأداتية و عقلنة الموضوعات كانت هي عنوان المرحلة التنويرية ,هذه المقاربة لم تسلم من تأثيرها حتى النظرية الماركسية حينما جعلت من الانسان أداة للإنتاج و حينما تمركزت على عمله , معتبرة إياه مقابل سلعة قابل للقياس حسب ساعات العمل اغترار العقل الموضوعي الامبيريقي الأداتي قاده إلى محاولة تعقيل كل شيء إيمانا منه بعدم محدودية قدراته خلافا لحقيقته و هكذا حاول عدد من المفكرين و علماء الفيزياء و علماء الاحياء عقلنة مجالات معرفية , كبداية الوجود و الحياة بطريقة علمية عقلانية عن طريق صياغة نظريات في هذا الشأن , وحاولوا البرهنة على إمكانية الخروج من العدم المطلق إلى الوجود و من الموات إلى الحياة عن طريق نظرية النشوء و نظرية تحول طاقة الفراغ إلى مادة و الحال أن المعطى التكويني للكون و الحياة هو شيء خارج عن القوانين الفزيائية و الرياضية و الطبيعية و يفوق حدود العقل.
إبان هذه المرحلة انتبه عدد من المفكرين و الفلاسفة إلى مشكل العقل الأداتي و الذي بعكس ما أريد منه , أصبح أداة لإخضاع الإنسان لمفاهيم العقل , مما أدى إلى طغيان هذا العقل الأداتي على الانسان نفسه و هكذا ظهر تيار فكري ينتقد العقل الأداتي تجلى في مدرسة فرانكفورت، و كان ماكس هوركهايمر(1895-1973) الذي ينتمي إلى المدرسة المذكورة أول من وضع أسس المدرسة النقدية مسلطا الضوء على المأساة الوجودية التي تسبب فيها العقل الأداتي الذي رفض ما هو روحي و قيمي و هو أول من ربط بين العقل الأداتي لعصر التنوير الذي تمحور حول تصوير الطبيعة كموضوع للسيطرة عليها والتحكم فيها واستغلالها، و بين نشوء نظرة متماثلة للإنسان نتيجة لذلك , كما سلط الضوء على تصلب العقلانية المطلقة و الموضوعية المبالغ فيها للعقل البشري و آثارها الوخيمة على العناصر المعرفية المعنوية للإنسان, نقد للعقل الأداتي ظل مستمرا و أدى إلى ظهور مفهوم جديد هو مفهوم العقل التواصلي الذي أتت به نظرية الفاعلية التواصلية أو الفعل التواصلي لصاحبها يورغان هابرماس و التي من خلالها حاول هذا الأخير سد الفراغ بين الواقع و العقل و بين الحقيقة و العقلانية عن طريق تكوين نسق فكري جمعي ناتج عن نشاط التواصل بين مختلف الذوات في مجال تواصلي سماه الفضاء العام , هابرماس كان يهدف إلى تحطيم دوائر العقلانية الأداتية و دوائر العقل الشمولي الايديولوجي و إلى إعادة الحياة للفلسفة التي ابتعدت عن هموم الحياة اليومية و مشاكل الانسان الوجودية و إلى إعادة الاعتبار للمعرفة و أنسنتها بحيث يتوصل العقل و العقل الآخر و المحاور و المحاور المقابل له إلى التوافق الفكري الحر الذي يشكل العقل الجمعي الذي يعد مصدر القرارات , عقلنة المعرفة بالنسبة لهابرماس هي ناتجة التوافق و الاجماع العقلي الحر و العقلاني .
نظرية الفعل التواصلي في مثاليتها هي كمفهوم المدينة الفاضلة , فبرغم جمالية الطرح و الاهداف إلا أن تحقق ما تدعوا اليه هو غاية لا تدرك , مفهوم الفضاء العام كمجال للتواصل يفترض التقاء يتجرد فيه المحاور من عصبيته لأيديولوجيته و دينه و افكاره و انتمائه ليقبل بالفكر الآخر المغاير له و بالنسخة الفكرية المغايرة , هذه النظرية رغم جاذبيتها , لم تعرف الانتشار و لم تلاقي النجاح الذي توخاه هابرماس و مرد ذلك إلى الثنائية العدائية الموجودة في كل مكان في العالم , فالملحد لن يلتقي بالمؤمن و الماركسي الشيوعي لن يلتقي بالليبيرالي الرأسمالي و ما إلى ذلك , المفكر يورغان هابرماس في طرحه كان لا يرمي إلى التقاء الاشخاص من حيث هم أشخاص بل إلى التقاء الافكار , لكن حتى على فرض الالتقاء فنتيجة التواصل التي مثلها في اجماع الافكار ليست حتمية و ذلك ما أكده المفكر نيكلاس لوهمان بقوله أن التواصل قد يؤدي إلى الإجماع كما قد يؤدي إلى الاختلاف و هو دعوة إلى الاحتجاج و إلى تأكيد الاختلاف و ليس إلى القبول و التسليم , عدم نجاح العقل التواصلي في فرض نفسه أبقى السيادة للعقل الأداتي كمصدر وحيد للعقلانيته مما استمر معه هذا الأخير في عدم اعتبار مجموعة من المعارف الانسانية , لكن المدرسة النقدية لفرانكفورت كان لها بالغ الاثر في تسليط الضوء على الجانب المظلم للفكر التنويري الحداثي الذي أفرغ الانسان من معنى وجوده مقتصرا على الإنكار أي إنكار التفسيرات الدينية و إنكار وجود أية قوة وراء الإيجاد دون إعطائه أي جواب و الحال أن العقل البشري لا يقبل الاستمرار في حالة الانكار و لا يقبل الفراغ بل ينحوا بطبيعته إلى الإثبات و إلى البحث عن الاجابات خاصة فيما يتعلق بمسألة الوجود .
المدرسة الفرنسية ممثلة في المفكر جان فرانسوا ليوتار و آخرين أدلت بدلوها أيضا منتقدة الفكر الحداثي , ليوتار الذي أسس مفهوم ما بعد الحداثة يذهب أبعد من هابرماس مستخدماً أفكار الفيلسوفين فريدريك نيتشه ولودفيغ فتغينشتاين التشككية، ليثبت أن فكرة المعرفة الموضوعية و العقلانية الخالصة أسطورتين بحد ذاتهما , لكن على الرغم من الانتقادات التي وجهت إلى فلسفته التي تجعل من نفسها فكرا خارج دائرة الأسطرة في حين تقبع كل الأفكار في دائرة الشكوك و الأسطورة , إلا أن ليوتار كان له رأي فلسفي ثاقب بخصوص موضوع المعرفة , حيث كان يقدمها على العلم , لشمولها الأشياء الروحية إضافة إلى المادية و التي بالنسبة إليه هي ما يعطي القيمة الحقة للإنسان والتي تتعدى القوانين الرياضية والمنطقية و البرهان , لتخاطب النفس والوجدان إضافة إلى العقل .
لقد جر الاغترار بفاعلية العقل و المبالغة في العقلنة و الموضوعية إلى انحسار الفكر في ما هو مادي و إلى استبعاد مجموعة من المعارف الإنسانية المعنوية و الروحية مما أدى به إلى الانزلاق في مآزق فكرية و وجودية أفرغته من ماهيته و من جوهره ,هذا النقد الموجه إلى الفكر التنويري الحداثي لا يعني البتة التراجع عن الخط العقلاني, بل التراجع عن المبالغة في العقلنة بما يعني العمل على إيجاد إمكانيات فكرية جديدة بإعادة الاعتبار للمعرفة الانسانية بالانكباب على ما كان مستبعدا أو مجهولا من جوانب الحياة ومناطق الوجود و ما وراء الواقع, وبصورة تتيح صياغة عقلانيات معرفية جديدة تتسع لما ضاقت به العقلانية العلمية خاصة و أن الظواهر و المظاهر الخارجة عن حدود العقل هي كثيرة و لم يتم صياغة أي تصور عقلاني بخصوصها رغم مرور أكثر من قرنين على تبني العقلانية العلمية الصرفة, هذه المقاربة هي الوحيدة القادرة على توسيع دائرة العقلانية و إخراج الفكر و الفلسفة من دائرة اللاأدرية أو الانكار أو الاقتصار على التساؤل إلى دائرة الاجابات و الإثبات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجة السودانية والسعودية مع اوسا وفهد سال ??????????


.. جديد.. رغدة تتحدث عن علاقتها برضا الوهابي ????




.. الصفدي: لن نكون ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل.. لماذا الإصر


.. فرصة أخيرة قبل اجتياح رفح.. إسرائيل تبلغ مصر حول صفقة مع حما




.. لبنان..سباق بين التهدئة والتصعيد ووزير الخارجية الفرنسي يبحث