الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تناقضات العهد الجديد المنقح21

مهرائيل هرمينا

2017 / 1 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


طلابي الذين يدرسون للمرة الأولى مقررات جامعية تتناول الكتاب المقدس بالبحث كثيرا ما تأخذهم الدهشة حينما يعرفون أننا لا نعرف من هم مؤلفي غالبية أسفار العهد الجديد. كيف هذا؟ أليست هذه الأسفار جميعها تحمل أسماء مؤلفيها؟ ألسنا نملك أناجيل متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا ورسائل بولس ورسالتي بطرس الأولى والثانية وكذا رسائل يوحنا الثلاث؟ كيف نجحت الأسماء غير الحقيقية أن تلتصق بأسفار الكتاب المقدس؟ أليست هذه الأسفار كتبا إلهية؟ لو كتب شخص ما كتابا مدعيا أنه بولس بينما هو يعلم علم اليقين أنه ليس كذلك، ألا يعد ذلك من الكذب؟ أيمكن للأسفار أن تحوي أكاذيب؟
حينما التحقت بالمعهد للمرة الأولى، كنت مدججا بكل أنواع الأسلحة وعلى أتم الاستعداد لمجابهة هجوم علماء الكتاب المقدس من الليبراليين، ممن كانوا سيصرون على مثل هذه الأفكار المجنونة، على إيماني. ولأني شابا تعلم داخل الدوائر المحافظة، فقد علمت أن وجهات النظر هذه هي مادة علمية قياسية في أماكن مثل معهد برينستون اللاهوتي. ولكن ماذا يعرف هؤلاء؟ فما هم سوى ثلة من الليبراليين.
ما استحال بمرور الزمان إلى صدمة لم يكن سوى ندرة الأدلة الحقيقية التي تثبت صحة العزو التقليدي لهذه الكتب إلى مؤلفيها والتي كنت آخذها على الدوام باعتبارها مسلمات يقينية وكيف أن الدليل الحقيقي الذي لدينا يشير إلى أن كثيرًا من حالات العزو تلك غير دقيقة. اتضح لي أن الليبراليين بالفعل يملكون رؤية تستحق أن يعبروا عنها ولديهم براهين تدعم رؤيتهم هذه؛ وأنهم لم يكونوا كغيرهم منخرطين في هذا النوع من التفكير الذي يسيطر عليه الحس الأمنياتي المدمر. لقد كان ثمة بعض الأسفار، مثل الأناجيل، كانت قد كتبت على يد مجهولين وجرت فيما بعد فقط نسبتها إلى مؤلفين محددين(رسل وأصدقاء للرسل) لم يكونوا على الأرجح هم من ألفوها. وكانت هناك أسفار أخرى كتبت على يد من زعم بكل صراحة أنه شخص ما بينما الحقيقة غير ذلك.
في هذا الفصل سأشرح طبيعة هذا الدليل وهذا البرهان.


من كتب الكتاب المقدس؟
على الرغم من أنه من البديهي أن لا تكون هذه القضية من النوع الذي يخبر القساوسة في العادة أبناء رعويتهم عنه، إلا أن إجماعا واسعا منعقد بين العلماء منذ ما يزيد عن قرن من الزمان حول أن كثيرًا من أسفار العهد الجديد لم يؤلفها الأشخاص الذين ارتبطت أسماؤهم بها. فإذا كان هذا هو الحال، فمن كتبها إذن؟

ملحوظة تمهيدية: الأناجيل كروايات لشهود عيان
كما رأينا لتوِّنا، يغص الكتاب المقدس بالتناقضات كبيرها وصغيرها. فما السبب في وجود هذا العدد الكبير من الاختلافات بين الأناجيل الأربعة؟ تعرف هذه الكتب بأسماء متَّى ولوقا ومرقس ويوحنا لأن هناك اعتقاد متوارث عبر التقليد بأنها قد كتبت بيد متَّى ذلك التلميذ الذي كان جامعا للضرائب؛ويوحنا الذي وصفه الإنجيل الرابع ب«التلميذ الحبيب» ومرقس الذي كان كاتبا للتلميذ بطرس؛ ولوقا المرافق الجوال للرسول بولس. هذه التقاليد تعود إلى قرن تقريبا من الزمان بعد لحظة تأليف هذه الكتب.
لكن إذا كان إنجيلا متى ويوحنا قد كتبا بيد تلميذين ليسوع ممن التقياه أثناء خدمته الأرضية، فلماذا يكون بينهما كل هذا الاختلاف على جميع المستويات؟ ولماذا يشتملان على كل هذه التناقضات كثيرة العدد؟ ولماذا يرسمان مثل هذه الآراء المتناقضة فيما بينها تناقضا جذريا فيما يتعلق بحقيقة شخصية يسوع؟ ففي متى يهل يسوع على الوجود حينما حملت به أمه أو ولدته وهي العذراء؛ أما في يوحنا فهو كلمة الرب المتجسدة والتي كانت مع الرب في البداية وخلق عبرها الكون. أما متَّى فليس فيه أي ذكر لألوهية يسوع؛ بينما الألوهية في يوحنا هي تماما ما يعبر عن حقيقة يسوع. وفي متى كذلك يبشر يسوع بمجئ مملكة الرب ولا يتحدث تقريبا عن نفسه أبدًا ( ولا عن ألوهيته مطلقا)؛ أما في يوحنا فتعليمه يقتصر حصريا على الحديث عن ذاته وعن ألوهيته خاصة. وفي متَّى يرفض يسوع أن يصنع معجزات على أرضية إثباته لهويته وشخصه؛ لكن في يوحنا كان غرضه الوحيد عمليا من إتيانه بالمعجزات هو أن يثبت شخصيته.
فهل حقا يمكن أن يكون لدى تلميذين ليسوع كانا قد التقياه على الأرض مفاهيم متباينة ذلك التباين الجذري حول طبيعته الشخصية؟ يجوز هذا. فقد تتشكل لدى شخصين من الناس خدما في إدارة جورج دبليو بوش قناعات مختلفة تمام الاختلاف حياله(على الرغم من أني أشك في أن شخصا ما قد يعتبر أن بوش مبعوثا من السماء). هذا يبرز قضية منهجية مهمة أودُّ التشديد عليها قبل أن نناقش الأدلة المتعلقة بشخصية مؤلفي الأناجيل.
لماذا ظهر في نهاية الأمر تقليد يزعم أن مؤلفي هذه الأسفار هم الرسل ورفاق الرسل؟ من جهة كان في هذا طمأنة للقارئ على أنها كتبت بيد شهود العيان ورفقائهم. وشاهد العيان يمكن الوثوق بكونه ينقل حقيقة ما حدث في حياة يسوع من أحداث. لكن الحقيقة هي أن شهود العيان لا يمكن الوثوق بهم كناقلين للروايات الدقيقة من الناحية التاريخية. ما وثق بهم يوما فيما مضى ولا يمكن أن يوثق بهم الآن. ولو كان شهود العيان يقدمون على الدوام روايات دقيقة من الناحية التاريخية، ما كان بنا حاجة لدور القضاء ولا للمحاكم. لو احتجنا أن نعرف ما وقع فعليًّا عندما اقترفت جريمة من الجرائم، بمقدورنا أن نسأل شخصا ما فحسب. أما القضايا القانونية في الحياة الواقعية فتتطلب وجود العديد من شهود العيان، لأن شهاداتهم عادة ما يكون بينها فروق. ولو كان لشاهدي عيان في محكمة من المحاكم أن يختلفا بقدر اختلاف متى مع يوحنا، فتخيلوا مقدار الصعوبة التي سيجدها القاضي للوصول إلى حكم في القضية.
حقيقة أخرى تتمثل في أن كل الأناجيل بلا استثناء كتبت بيد مجهولين لم يزعم واحد منهم أنه كان شاهد عيان. نعم، هناك أسماء ألحقت بعناوين هذه الأناجيل(«الإنجيل وفقا لمتَّى»)، إلا أن هذه العناوين هي إضافات من أزمنة متأخرة للأناجيل قام بها محررون ونساخ هدفهم إِعْلامُ القارئ بما كان هذا المحرر يعتقده بشأن المرجعيات التي تقف وراء تلك النسخ المختلفة. وكون هذه العناوين ليست نسبتها للأناجيل نفسها نسبة أصلية ينبغي أن يكون واضحا لدى بعض التأمل البسيط. فمهما تكن شخصية من كتب إنجيل متَّى، فإنه لم يسمه «الإنجيل وفقًا لمتَّى.» والأشخاص الذين خلعوا عليه هذا العنوان إنما يخبرونك عن شخصية من ألفها من وجهة نظرهم هم. فالمؤلفون لا يكتبون على كتبهم عبارة «وفقا لـ» هذه.[1]
أضف إلى ذلك أن إنجيل متى كتب بالكامل باستخدام ضمير الغائب ليخبرنا عما كانوا «هم»- أي يسوع وتلامذته- يفعلونه، ولم يحدث مطلقا أن استعمل الضمير «نحن» ليخبرنا عما كنا- يسوع وبقيتنا نحن التلاميذ- نفعله. وحتى عندما يحكي هذا الإنجيل ما حدث حينما يُدْعَى متَّى لكي يصبح تلميذا، فإنه يتحدث عنـ«ـه» بصيغة الغائب وليس عنـ«ـي» بصيغة المتكلم. واقرأ العدد 9 : 9 بنفسك إن رمت اليقين حول هذه المسألة. ليس هناك مثال واحد في هذا الإنجيل يجعلك تشك أن الكاتب يتحدث عن نفسه.
ومع يوحنا يبدو هذا الأمر أكثر وضوحًا. ففي نهاية الإنجيل يقول المؤلف عن «التلميذ الحبيب»:«هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ.»(يو 21 : 24 ). لاحظ كيف يفرِّق المؤلف بين مصدر معلوماته «التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ» وبين نفسه « وَنَعْلَمُ(أي نحن) أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ.» إنه يستعمل الضميرين هو ونحن: فهذا المؤلف ليس التلميذ. بل هو يدعي فحسب أنه استقى بعضًا من معلوماته منه.
أما عن الإنجيلين الآخرين، فمرقس قيل عنه إنه ليس تلميذا، بل رفيقا لبطرس، بينما لوقا هو رفيق بولس الذي لم يكن هو الآخر من بين التلاميذ. وحتى لو كانا تلميذين، فهذا لن يضمن الموضوعية أو المصداقية لرواياتهم. ومع ذلك فليس من بين هؤلاء المؤلفين من كان شاهد عيان ولم يدع أحدهم هذا.
فمن كتب هذه الأسفار إذن؟
أفضل ما نبدأ به هو السؤال المحوري التالي: ماذا نعرف عن أتباع يسوع؟ أقدم معلوماتنا وأفضلها مصدرها الأناجيل ذاتها، جنبا إلى جنب مع سفر أعمال الرسل. أما بقية أسفار العهد الجديد، ومن بينها رسائل بولس، فهي تشير إلى التلاميذ الإثني عشر إشارة عابرة، وهذه الإشارات تهتم بتأكيد ما نجده بالفعل في الأناجيل نفسها. أما خارج جلدتي العهد الجديد، فجل ما نملكه مجرد أساطير حيكت بعد عصرهم بعشرات السنين أو بعده بقرون- نذكر على سبيل المثال، «أعمال يوحنا» ذائعة الصيت والتي تروي روايات عن المجهوادت التبشيرية الإعجازية التي صنعها يوحنا بعد قيامة المسيح. وليس بين المؤرخين مؤرخ يعتقد أن هذه «الأعمال» موثوق بها من الناحية التاريخية.[2]
نعلم من الأناجيل أن أتباع يسوع، مثله، كانوا قرويين من الطبقة الدنيا، وأن موطنهم الأصلي هو منطقة الجليل ذات الطبيعة الريفية. وغالبيتهم- سمعان بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا على وجه اليقين- كانوا عمالا باليومية(صيادين وما أشبه)؛ أما متَّى، فقد قيل عنه إنه كان جامعًا للضرائب، إلا أن الرتبة التي كان يشغلها في مؤسسة جمع الضرائب ليست بالشأن الواضح: أكان ببساطة مقاولا عموميا ممن كانوا يعملون مباشرة مع السلطات الحاكمة على تأمين دخول الضرائب، أم أنه، وهذا هو الأكثر ترجيحا، كان من النوع الذي يأتي ويدق على بابك ليحملك على دفع ما عليك من ضرائب؟ لو كان الأخير، فليس ثمة شئ يجعلنا نفترض أنه كان حاصلا على قدر كبير من التعليم.
الأمر نفسه يصدق بالتأكيد على الآخرين. فما يعنيه أن تكون قرويا من الطبقة الدنيا في مناطق ريفية في فلسطين خلال القرن الأول هو أمر لدينا عنه بعض المعلومات. أحد الأمور التي يعنيها ذلك هو أنك على جهة اليقين تقريبا لا تعرف القراءة ولا الكتابة. يسوع نفسه كانت حالته بالغة الاستثنائية من حيث إنه كان يعرف بوضوح كيف يقرأ(لوقا 4 : 16 – 20 )، لكن ليس هناك دليل يشير إلى أنه كان يستطيع الكتابة. في العصور القديمة لم يكن ثمة رابط بين هاتين المهارتين، فكثير ممن كانوا يعرفون القراءة كانوا لا يستطيعون الكتابة.
ما عدد من كانوا يعرفون القراءة؟ لقد كانت الأمية منتشرة في أنحاء الإمبراطورية الرومانية. و كانت نسبة المتعلمين عموما في أفضل الظروف تقدر بـ 10 % من مجموع السكان. وهؤلاء الذين يمثلون نسبة ال10 % كانوا من الطبقات المترفة- أي الطبقات العليا ممن كانوا يملكون الوقت والمال اللازمين لطلب العلم(وقد علموا عبيدهم وخدمهم القراءة لخدمات يقدمونها لأسيادهم). أما ما عدا هؤلاء فقد كانوا يعملون منذ نعومة أظفارهم وكانوا عاجزين عن توفير الوقت أو المال للازمين للتعليم.[3]
ليس في الأناجيل أو في سفر الأعمال ما يشير إلى أن أتباع يسوع كانوا يستطيعون القراءة، فضلا عن قدرتهم على الكتابة. بل ثمة في الحقيقة رواية في سفر الأعمال يوصف فيها بطرس ويوحنا بأنهما « عَدِيمَا الْعِلْمِ»- وهي الكلمة القديمة التي تقابلها الآن كلمة «أُمِّي». وكيهود من الجليل، فإن أتباع يسوع سيكونون، مثل سيدهم، من المتحدثين باللغة الآرامية. وباعتبارهم قرويين فهم على الأرجح يجهلون اللغة اليونانية؛ ولو كانوا على جهل بها، فلا شك أن حياتهم كانت ستكون بالغة القسوة والخشونة حيث إنهم كانوا سيقضون وقتهم مع الأميين من أمثالهم من المتحدثين بالآرامية في محاولة اكتساب لقمة العيش التي تعينهم على العيش عيش الكفاف.
وأوجز الفقرات السابقة بالتساؤل: من كان تلامذة يسوع؟ قرويين من الطبقة الدنيا التي تغلب عليها الأمية من المتحدثين باللغة الآرامية والذين تعود جذورهم إلى منطقة الجليل.
ومن كان مؤلفو الأناجيل؟ على الرغم من أنهم جميعا أبقوا هوياتهم الحقيقية طي الكتمان، يمكننا أن نعرف عنهم القليل من الأشياء من الكتب التي كتبوها بأيديهم. وما نعرفه يتناقض تمام التناقض مع ما نعرفه عن تلامذة يسوع. لقد كان مؤلفو الأناجيل من الحاصلين على تعليم عال من بين المسيحيين المتحدثين باليونانية والذين يرجح أنهم كانوا يعيشون خارج حدود فلسطين.
فأما كونهم من الطبقة الحاصلة على تعليم عال فهذا لا تتناطح عليه عنزتان. وعلى الرغم من أنه كان ثمة علماء من وقت لآخر قد اعتقدوا أن الأناجيل كانت قد كتبت في الأساس بالآرامية، فإن الإجماع الساحق اليوم، لأسباب فنية لغوية لا حصر لها، على أن الأناجيل كتبت جميعها باليونانية. وقد أشرت من قبل إلى أن 10 % فحسب، في أفضل الأحوال، من الشعب الخاضع للإمبراطورية الرومانية كان بمقدورهم القراءة، وأقل من هذه النسبة كان بمقدورهم كتابة جملا بسيطة، وأن عددا أقل منهم بكثير كانوا قادرين فعليا على صياغة روايات ذات مستوى فني بدائي، وأن عدد أقل بكثير من هؤلاء كان بمقدوره فعليا أن يؤلف أعمالا أدبية موسعة مثل الأناجيل. ليست الأناجيل، باعتراف الجميع، الأروع من بين الكتابات التي ظهرت داخل الإمبراطورية- ليست هكذا يقينا. ومع ذلك فهي لا تزال روايات محكمة كتبها مؤلفون اتسموا بالثقافة العالية وكانوا يعرفون كيف يبنون قصة وحققوا أغراضهم الأدبية ببراعة بالغة.
ومهما تكن شخوص هؤلاء المؤلفين، فقد كانوا أشخاصا موهوبين موهبة استثنائية من مسيحيي الأجيال اللاحقة. نعم،بين العلماء خلاف حول المكان الذي عاشوا فيه وألفوا كتبهم، لكن جهلهم بالطبيعة الجغرافية لفلسطين وبالأعراف اليهودية يقترح أنهم ألفوا هذه الكتب في مكان ما آخر داخل الإمبراطورية- من المحتمل أن هذا كان في منطقة حضرية واسعة استطاعوا أن يحصلوا فيها على تعليم محترم وكان يوجد بها جماعة كبيرة نسبيا من المسيحيين.[4]
لم يكن هؤلاء المؤلفون من قرويي الطبقات الدنيا ولا من الأميين آراميي اللسان ممن عاشوا في منطقة الجليل. ولكن، ألا يمكن أن نقول إن يوحنا، مثلا، كتب إنجيله في سن متقدمة؟ وإنه كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة وعاملا باليومية-كان صيادا منذ اللحظة التي كان فيها قادرا على سحب شبكة الصيد- من المتحدثين بالآرامية في شبابه، لكنه كتب إنجيله حينما صار طاعنا في السن؟
أفترض أن هذا ممكن. ولكنه سيعني أن يوحنا قرر بعد قيامة المسيح أن يذهب للمدرسة ليتعلم القراءة والكتابة. وقد تعلم أساسيات القراءة وعرف المبادئ الأولية لفن الكتابة، وتلقى دروسا في الغلة اليونانية حتى أتقنها اتقانا يكفيه لكي يصبح كاتبا فصيحا. وعندما شاخ برع في التأليف وكان قادرا على تأليف إنجيل، فهل هذا السيناريو محتمل الحدوث؟ لا يبدو أنه محتمل الحدوث. لقد كانت هناك أولويات أخرى في أذهان يوحنا وأتباع يسوع الآخرين بعد أن مروا بتجربة قيامة يسوع من بين الأموات. واحدة من هذه الأولويات هي ما كانوا يعتقدونه بأنهم كان لزاما عليهم أن يهدوا العالم إلى الإيمان بالمسيحية وأن يديروا شئون الكنيسة.
شهادة بابياس
على الرغم من الأدلة التي تنفي أن يكون أحد من التلاميذ قد ألف إنجيلا، فإننا نحتاج إلى أن نتعامل مع التقليد الكنسي المبكر الذي يشير إلى أن بعض التلاميذ قد فعل هذا. فكيف على المرء أن يتعامل مع هذا التقليد؟
أقدم مصدر لهذا التقليد، وهو أب من آباء الكنيسة الأوائل ويدعى بابياس، يتناول بالبحث إنجيلين مسيحيين قديمين وهما إنجيل مرقس وإنجيل متَّى. بابياس هو شخصية مبهمة ألف كتابا من خمسة مجلدات يدعى «شروحات أقوال الرب» أو «Expositions of the Sayings of the Lord». وقد حدد العلماء على نحو مقبول كتاريخ لتأليف هذا العمل لحظة ما بين العامين 110 و 140 ميلاديا، أي بعد 70 عاما من تاريخ كتابة الإنجيل الأول.[5] لم يعد لكتاب بابياس وجود: لقد نظر عدد من المراجع المسيحية في العصور التالية إلى آراء بابياس باعتبارها إما أنها تحوي هجوما على المسيحية أو أنها ليست راقية بالقدر الكافي ولهذا لم ينسخ كتابه نسخا واسعة لمصلحة الأجيال التالية.[6] أما جل معلوماتنا عن هذا العمل فمصدرها اقتباسات آباء الكنيسة المتأخرين لها.
ومع ذلك فقد جرى تصوير بابياس كثيرا باعتباره مصدر صالح لتعيين التقليد المبكر للكنيسة، وذلك إلى حد ما من أجل الطريقة التي أشار بها إلى كيفية تلقيه ما لديه من معلومات. في بعض الاقتباسات التي نجت من الضياع من كتابه«الشروحات»، يصرح بأنه شخصيا قد تحدث إلى مسيحيين كانوا قد عرفوا مجموعة من الناس يسميهم هو «الكبار» الذين كان لهم سابق بمعرفة ببعض التلاميذ، وبأنه نقل معلومات تلقاها منهم. ولما سبق فنحن بقراءتنا لما كتبه بابياس نكون قد وضعنا أيدينا على معلومات مستقاة من الجيل الثالث أو الرابع الذي يمثل أناسا كانوا على علاقة برفاق التلاميذ.
أحد الفقرات التي كثيرا ما يقتبسها بابياس(والتي نقلها عنه يوسابيوس القيصري) تصف هذا النوع من المعلومات التي ينقلها الجيل الثالث أو الرابع، فيما يتعلق بمرقس ومتى باعتبارهما من مؤلفي الأناجيل:
هذا ما اعتاد الشيوخ على قوله:«حينما كان مرقس شارحا (وربما مترجما؟) لبطرس، فقد دون بدقة كل شئ تذكره من أقوال الرب وأعماله- لكن هذا لم يقع على الترتيب. لأنه لم يسمع من الرب مباشرة ولم يقابله؛ لكنه فيما بعد، كما قد أشرت، رافق بطرس الذي دأب على تنظيم تعاليمه بما يتناسب مع احتياجاته الحاضرة، فلم يرتب، إذا جاز التعبير، مؤلفا منظما يضم كلمات الرب. ولهذا لم يقترف مرقس إثمًا حينما كتب بعض الأمور كما تذكرها. وذلك لأنه كان مصمما على إتمام غرض واحد لا غير: ألا يترك أي شئ سمعه وألا يضم إلى كلامه شيئا مفترى.»
ثم يواصل كلامه، متحدثا عن متَّى:
وهكذا رتب متَّى كلمات المسيح باللسان العبراني وكل إنسان فسرها(هل يقصد ترجمها؟)بأفضل ما يستطيع من قدرات.(يوسابيوس، تاريخ الكنيسة 3 . 39 )
أليس في هذا الكلام دليل على أن متَّى هو بالفعل من ألف إنجيل متَّى وأن مرقس هو حقا من كتب إنجيل مرقس؟
هناك بعض المشكلات بالغة الخطورة تقابل من يحاول أن يثمِّن القيمة التاريخية لملاحظات بابياس. دعونا نبدأ بمتَّى. أولا، فيما يتعلق بمتَّى- بخلاف الحال مع مرقس- لا يعلمنا بابياس بمصدر لمعلوماته، أو ما إذا كان يملك أساسا مصدرا لها. هل مصدرها شخص من الجيل الثالث؟ أم من الرابع؟ أم من الجيل الخامس؟ إذا كان بابياس يكتب هذه الكلمات، فلنقل، في عام 120 م أو 130 م، فهذا يتوقيت قريب من 40 أو 50 عاما بعد الفترة التي كتب فيهاكاتب مجهول إنجيل متى. وقد جرى تداول هذا الإنجيل تداولا سريا لعشرات السنين. أليس من الممكن أن يكون التقليد الذي ينقله بابياس قد جرى اختلاقه في غضون هذا الوقت؟
في هذا الصدد، من الجدير بالملاحظة أن هاتين الفقرتين من المعلومات الجامدة التي يعطينا إياها بابياس ليست صحيحة فيما يتعلق بـ«صاحبنا» متَّى. فصاحبنا متَّى ليس مجرد جامع لأقوال يسوع، وإنجيله يقينا لم يكتب بالعبرانية، بل باليونانية. [7] فهل حصل بابياس ببساطة على معلومات غير صحيحة؟ أم هو يتكلم عن كتاب ما آخر كتبه متَّى ولم يعد بحوذتنا - مجموعة من أقوال يسوع على سبيل المثال؟
لو أن بابياس غير موثوق به فيما يتعلق بمتَّى، فهل هو أهل للثقة فيما ينقله عن مرقس؟ في حالة مرقس يصرح ببياس بأننا نتحصل على معلومات سلمها لنا الجيل الثالث أو الرابع.[8] ولكن مرة أخرى، معلومة واحدة من الاثنتين اللتين يخبرنا بهما على وجه تأكيدي هي يقينا معلومة خاطئة.: فهو يزعم أن غرضا من الغرضين الأساسين الذين كانا يهدف إليهما مرقس هو أن يخبرنا بكل شئ ما سمعه من بطرس فيما يتعلق بيسوع. ببساطة ليس هناك احتمال واحد لأن تكون هذه المعلومة صحيحة. فإنجيل مرقس لا تستغرق تلاوته بصوت عال سوى ساعتين اثنتين. أفبعد أن قضى بطرس كل هذه الشهور أو السنوات مع يسوع، وبعد أن استمع مرقس لبطرس وهو يبشر بيسوع ليلا ونهارا، يمكننا تخيل أن كل ما سمعه مرقس هو مقدار ساعتين اثنتين من المعلومات؟
على أية حال، لا يمدنا بابياس فيما يبدو بنوع من المعلومات التي يمكننا وضع قدر كبير من ثقتنا بها. وفي هذا الصدد، ينبغي أن أوضح أن العلماء رفضوا تقريبا أجمعين كل شئ آخر ذُكِرَ أن بابياس قاله في الاقتباسات المحفوظة من كتابه.
فنتأمل فقرة أخرى نقلها الجيل الرابع:
الشيوخ الذين رأوا يوحنا، تلميذ الرب، ذكروا أنهم سمعوه يقول كيف كان الرب معتادا على أن يعلمهم بشأن هذه الأوقات، قائلا:
«ستأتي أيام تظهر فيها أشجار الكرم، كل واحدة منها لها عشرة آلاف فرع؛ وعلى فرع واحد سيكون عشرة آلاف برعم وعلى كل برعم عشرة آلاف عنقود؛ وفي كل عنقود ستنبت عشرة آلاف عنبة، وكل عنبة، حينما تعصر، ستثمر خمسة وعشرين مكيالا من الخمر. وحينما يمسك واحد من القديسين عنقودا منها، سيصرخ العنقود الآخر قائلا:«أنا أفضل منه، خذني أنا، مجد الرب بي.» (يوسابيوس، تاريخ الكنيسة، 3 . 39 . 1 )
لا أحد يعتقد أن يسوع بالفعل قد قال هذه الكلمات، أو أن يوحنا تلميذ يسوع قد قال إن يسوع قال هذا. فهل قال الشيوخ الذين عرفوا يوحنا هذه الكلمات حقا؟[9]
إن كان العلماء يشعرون بميل إلى عدم الاعتداد بما يقوله بابياس في كل قضية أخرى تقريبا، فلماذا يلجأون في بعض الأحيان لشهادته إظهارا لكوننا نملك تقليدا مبكرا يربط متى بأحد أناجيلنا ، ومرقس بإنجيل آخر؟ لماذا يقبل العلماء بعضا مما قاله بابياس ويكفرون بالبعض الآخر؟ أظن أنهم يريدون دعما لوجهات نظرهم(التي تقول إن متى بالفعل هو مؤلف إنجيله) وقد قرروا أن يثقوا ببابياس حينما يؤكد وجهات نظرهم، وأن لا يثقوا به إذا لم يفعل.
إن نتيجة هذا التقييم السريع لبابياس فيما أعتقد هو أنه نقل قصصا كان قد سمعها وهو ينسبهم إلى أناس يعرفون أناسا آخرين قالوا هذا الذي نقلوه. لكنه في المواضع التي يمكن فيها معرفة مصادره يبدو مخطئا. فهل يمكن أن نثق به في المواضع التي لا يمكن فيها معرفة مصادر معلوماته؟ إذا كنت تعرف صديقا دائما ما يرشدك خطئا إلى عناوين أنت تعرفها جيدا، فهل تثق به حينما يرشدك إلى مكان أنت لم تزره من قبل مطلقا؟
لم ينقل عن بابياس أنه قال أي شئ بخصوص لوقا يوحنا كليهما. لست على يقين من سبب هذا. لكن المحصلة النهائية لهذا الأمر هي كالتالي: ليس بين أيدينا مرجع قوي يمكننا الوثوق به فيما يتعلق بمؤلفي أناجيلنا الأربعة (أعني أن يكون المؤلف يشير بالفعل لمتى ومرقس الذين نعرفهما) حتى وقت قريب من نهاية القرن الثاني- وهي الفترة الزمنية التي تبعد تقريبا عن لحظة ذيوع هذه الأناجيل منسوبة إلى مؤلفين مجهولين بمائة عام كاملة.تعد كتابات إيريناوس، أحد آباء الكنيسة، أول إشارة مؤكدة للأناجيل الأربعة. ففي كتابه ذي الطبيعة الهجومية على الهراطقة المسيحيين والمكون من خمسة مجلدات يعين إيريناوس أناجيل متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا باعتبارها أناجيل الكنيسة الأربعة. وقريبا من العصر الذي عاش فيه إيريناوس( سنة 180 م تحديدا) لم يكن ممما يثير الدهشة أن يرغب آباء الكنيسة في أن يعرفوا من كتب هذه الكتب مجهولة المؤلفين. وكما سنرى في فصل تال، كان ثمة الكثير من الأناجيل واسعة الانتشار داخل الكنيسة- غالبيتها في الحقيقة كان البعض يزعم أنه قد كتب بيد تلاميذ يسوع مثل بطرس وتوماس وفيلبس. فكيف كان يمكن للمرء أن يقرر أيها يمكن الوثوق بصحة نسبته إلى الرسل؟ كانت هذه المسألة مسألة بالغة الحساسية لأن غالبية هذه الأناجيل «الأخرى» كانت تمثل وجهات نظر لاهوتية وَسَمَها إيريناوس ورفاقه بالهرطقة. فكيف يمكن للمرء أن يعرف التعاليم الحقيقية التي بشر بها يسوع؟ لا سبيل آخر سوى قبول الأناجيل التي كتبها حقا أتباعه أو الرفاق المقربون منهم.
لكن الأناجيل التي قبلت باعتبارها كتبا مقدسة ذات موثوقية داخل الدوائر التي ينتمي إليها إيريناوس كان مؤلفوها في الأصل مجهولين. وكان حل مشكلة شرعنة هذه النصوص بديهيا: هذه الكتب بحاجة إلى أن تنسب إلى مرجعيات ثابتة وحقيقية. كان ثمة تقاليد منتشرة لعشرات السنين تفيد بأن متَّى كان قد كتب إنجيلا، وهكذا ما نسميه الآن بإنجيلنا الأول وصل إلى منزلة الموثوقية والقبول باعتباره هذا الكتاب الذي قيل إن متَّى ألفه. أما مرقس، فقد كان الظن به أنه كان رفيقا لبطرس: فجرى ربط إنجيلنا الثاني به باعتباره يقدم وجهة نظر بطرس فيما يتعلق بحياة يسوع. ومؤلف إنجيلنا الثالث كان قد كتب مجلدين، جرى تصوير بولس في ثانيهما، أعني سفر الأعمال، باعتباره بطلا. فكان أن أصر زعماء الكنيسة على أن مؤلفه لابد وأنه قد كان رفيقا لبولس ولهذا نسبوا الإنجيل إلى لوقا.[1] ولكي يكملوا العدد أربعًا، نُسِبَ الإنجيل الرابع إلى واحد من شهود العيان وهو يوحنا، أقرب تلاميذ يسوع إلى قلبه(في الحقيقةلم يحدث أن ذكر اسم يوحنا أبدا في الإنجيل الرابع) على الرغم من أن كاتب الإنجيل نفسه يصرح بكل وضوح بأنه ليس شاهد عيان.
لم يحدث في كل ذلك أن نسب واحد من المؤلفين الأربعة نفسه إلى دائرة تلاميذ يسوع. ولم يكتب واحدًا من هذه الأناجيل تلميذٌ من تلاميذ يسوع الذين كانوا جميعا قرويين من منطقة الجليل ممن كانوا ينتمون للطبقة الدنيا ويتحدثون باللسان الآرامي، وليسوا مسيحيين من جيل لاحق من ذوي المستوى التعليمي العالي ومن المتحدثين باللغة اليونانية.
وعلى النحو السابق تتشكل أمامنا إجابة لسؤالنا النهائي عن أسباب ما نجده بين إنجيل وآخر من اختلافات حادة. فلا رفاق يسوع ولا رفاق رفاقه هم من ألفوها. لقد كتبها بعد عصر هؤلاء بعشرات السنين أناسٌ لم يروا يسوع وكانوا يعيشون في بلد أخرى أو حتى بلدان غير التي عاش هو فيها ولغتهم التي يتكلمون بها كانت مغايرة للغة التي كان يتكلم بها يسوع. لقد كان بعضهم مختلفا عن بعضهم الآخر لأنهم، من جهة، لم يكن أحدهم يعرف الآخر، وإلى حدٍّ ما تميزت مصادر معلوماتهم بتنوعها (على الرغم من أن متَّى ولوقا نسجا على منوال مرقس)، وكلهم أدخل تعديلات على القصص التي رووها على أساسٍ من فهمهم الشخصي ليسوع وهويته.
وأما حقيقة أن الأناجيل لم تكن في الواقع من تأليف التلاميذ، فهذه لا تجعلهم بدعًا من الأسفار داخل العهد الجديد. بل الحقيقة على العكس من ذلك تماما، فهذا يجعلها تنسج على المنوال نفسه الذي نسج عليه غيرها. فغالبية أسفار العهد الجديد تتخفى تحت أسماء أشخاص لم يكونوا هم من كتبها في الحقيقة. وهذا أمر كان معروفا عند العلماء معرفة جيدة خلال الجزء الأكبر من القرن الماضي ويجري الآن تدريسه على نطاق واسع في المعاهد الرئيسية ومدارس اللاهوت في أنحاء أمريكا. وفي المحصلة، يعرف غالبية القساوسة هذا الأمر بنفس المقدار. لكنه «بدعة»بالنسبة لكثير من الناس في الشارع وعلى مقاعد المصلين داخل الكنائس.

هل بين أسفار العهد الجديد كتابات مزورة؟
من بين الكتب السبعة والعشرين التي يضمها العهد الجديد، هناك ثمانية كتب فحسب تعود بدرجة تقارب اليقين إلى المؤلفين الذين تحمل أسماءهم: وهي رسائل بولس السبعة غير المتنازع عليها (الرسالة إلى رومية، والرسالتان الأولى والثانية إلى أهل كورنثوس والرسالة إلى أهل غلاطية والرسالة إلى أهل فيليبي والرسالة الأولى إلى تسالونيكي والرسالة إلى فيليمون) ورؤيا يوحنا( على الرغم من عدم معرفتنا معرفة يقينية بمن هو هذا الـ«يوحنا»).
أما التسعة عشر كتابا الأخرى فتنقسم إلى مجموعات ثلاث:
· كتابات نسبت إلى مؤلفين نسبة غير صحيحة: الأناجيل، كما رأينا من قبل، هي على الأرجح منسوبة إلى غير مؤلفيها. فيوحنا التلميذ لم يكتب إنجيل يوحنا، ومتَّى لم يكتب الإنجيل المسمى باسمه. وهناك كتب أخرى مجهولة المؤلف نسبت على غير الحقيقة إلى أناس آخرين مشهورين. فالرسالة إلى العبرانيين لم تشر إلى بولس باعتباره مؤلفها. وبولس لم يكتبها يقينا.[2] لكنها في نهاية المطاف جرى الاعتراف بها كجزء من القائمة الرسمية للكتاب المقدس(أنظر الفصل السابع) لأن آباء الكنيسة كانوا يؤمنون بأنها كتبت بيد بولس.
· كتابات اسم مؤلفها يشبه اسمه اسم شخص آخر(Homonymous writings): يعني مصطلح «Homonymous» «التسمي بالاسم ذاته.» أما التعبير «» فيشير إلى كتاب كتبه شخص من الأشخاص بينه وبين شخص آخر معروف تشابه في الأسماء. رسالة يعقوب، على سبيل المثال، كتبها بلا شك شخص يسمى يعقوب، لكنه لا يزعم أنه «يعقوب» محدد. لقد كان هذا الاسم واسع الانتشار بدرجة غير اعتيادية. وحدث فيما بعد أن آباء الكنيسة قبلوا هذا الكتاب باعتباره جزءًا من الكتاب المقدس لأنهم زعموا أن هذا الـ«يعقوب» هو نفسه يعقوب أخو يسوع. لكن الكتاب نفسه لا يتضمن ما يثبت هذا الزعم. Homonymous writings
· كتابات مزورة: بعض أسفار العهد الجديد كتبت باسم أناس لم يكونوا هم من كتبها في الحقيقة. وقد عرف العلماء هذا منذ ما يزيد عن قرن تماما. والمصطلح الذي أطلقوه على هذه الظاهرة هو «pseudepigraphy» الذي يعني حرفيا «كتاب يحمل اسمًا مزورًا». لم يكن العلماء مفرطين في دقتهم حينما استعملوا هذا المصطلح وكانوا ميالين إلى استخدامه لأنه يجنبنا المضامين غير المحببة المرتبطة بالمصطلح «تزييف»(forgery). وأيا ما يكن المصطلح الذي سيستعملونه، فقد دافع علماء الكتاب المقدس لفترة طويلة عن أنه ثمة أسفار تنتمي للعهد الجديد انتحل مؤلفوها عن قصد هويات أناس آخرين.


الكتابات المزورة في العالم القديم
لكي نفهم هذا الوضع يعوزنا أن نعلم قدرا أكبر من معلومات عن التأليف وعن التزييف في مجال التأليف في العالم القديم.
تعريفات
في البداية من المهم أن يكون المرء دقيقا في تحديد مصطلحاته. فالمصطلح «pseudepigraphy»، أو « الانتساب المزور» يمكن إطلاقه على أي كتاب أضيف إليه اسم مزور في الخانة التي تشير إلى من ألفه. وقد يكون الانتساب المزور هو عزو غير صحيح، أو كتابات نسبها مؤلفوها بطريق التزوير إلى مؤلفين آخرين.
وهناك نوعان اثنان من الكتابات ذات الانتساب المزور إلى غير مؤلفيها. فالبعض منها يمثل كتبا ألفها مجهولون وحدث فيما بعد أن زعم القراء أو النساخ أو المحررون بطريق الخطإ أنها كتبت بيد شخص ما ذا شهرة؛ والبعض الآخر هو كتب ألفها مؤلفون يتشاركون ذات الاسم مع شخص ذي شهرة.
لم يكن لغالبية الناس في العالم القديم اسم عائلة، ولذلك فاسم «يوحنا» كان من الممكن أن يشير إلى أي واحد من مئات أو آلاف الأشخاص من الناس. ولو كتب مؤلف يسمى يوحنا كتابا وادعى شخص متأخر عنه زمانيا أن هذا الـ«يوحنا» كان في الحقيقة يوحنا بن زبدي( كما زعم بعض الناس فيما يتعلق بكتاب سفر الرؤيا)، فهذه إذن كانت ستكون نسبة مزورة مبنية على تشابه الأسماء.[3]
وكذلك الكتابات التي تحمل «أسماء أدبية»(pseudonymous) تنقسم إلى نوعين: كتابات ألفت تحت «اسم زائف». والاسم المستعار هو أنموذج بسيط من مصطلح الأسماء الأدبية (pseudonym). فعندما كتب «صمويل كلمينس» كتابه «مغامرات هاكلبري فين» ووقع عليه باسم «مارك تواين» لم تكن نيته معقودة على خداع أي أحد؛ بل كان ببساطة يختار اسما آخر لينشر تحته مؤلفاته. وهناك أمثلة قليلة للغاية لهذا النوع من استعمال الأسماء المستعارة في العالم القديم على الرغم من أنها حدثت بالفعل أحيانا. كتب المؤرخ اليوناني «زينوفون» كتابه الشهير «أناباسيس» مستخدما اسما مستعارا وهو «ثيميستوجينيس.» لكننا نجد النوع الثاني من الكتابات باستخدام «الأسماء الأدبية» يتكرر كثيرا في العصور القديمة والذي يحدث فيه أن يستخدم المؤلف اسم إنسان آخر كان يتمتع بشهرة كبيرة لكي يخدع باسمه الجماهير دافعا إياهم إلى الاعتقاد بأنه ذلك الشخص بالفعل. هذا النوع من الكتابة باستخدام الأسماء الأدبية هو نوع من التزوير الأدبي.
تفشي التزوير في العالم القديم
كان التزوير الأدبي من الظواهر الشائعة في العالم القديم. ومصدر معرفتنا عن هذا أن المؤلفين القدماء أنفسهم كثيرا ما تناولوه بالحديث. وبوسع المرء أن يجد نقاشات حول ظاهرة التزوير في كتابات بعض أشهر مؤلفي العصور القديمة. ويمكنه العثور على إشارات إلى التزوير ونقاشات حوله في كتابات اليونانيين والرومانيين في مؤلفات مؤلفين من أمثال «هيرودوتس»، «شيشرون»، «قوينتيليان»، «مارشيال»، «سويتونيوس»، «جالن»، «بلوطارخ»، «فيلاستراتس» و«ديوجينيس لايرتيوس» مع ما بينهم من أزمنة مديدة. وبين المؤلفين المسيحيين تجد نقاشات حول ذات الموضوع في كتابات شخصيات واسعة الشهرة من أمثال «إيريناوس»، «ترتليانوس»، «أوريجانوس»، «يوسابيوس»، «جيروم»، «روفيناس» و«أغسطينس».
يزعم بعض علماء العهد الجديد أحيانا أن التزوير كان بالغ الشيوع في العالم القديم حتى إن أحدًا لم يأخذ أمره على محمل الجد: فقد كان التزوير في العادة يمكن اكتشافه بسهولة تامة، أي أنه في الواقع لم يكن المقصود منه خداع أي أحد. [4] ولقد قضيت العامين الأخيرين في تفحص المناقشات القديمة لظاهرة التزوير وخلصت بنتيجة وهي أن النوع الوحيد من الناس الذي يمكن أن يطرح هكذا نظرية هو النوع الذي لم يقرأ المصادر القديمة.
لقد أخذت المصادر القديمة قضية التزوير على محمل الجد. وهي تشجبها تقريبا في جميع الأحوال ، وغالبا ما يكون الشجب بعبارات قوية. ما مدى اتساع شجبهم لها؟ من الغريب أن ممارسة التزوير كانت محط إدانة في كثير من الأوقات وحتى داخل الوثائق التي هي في الأساس وثائق مزورة. أضف إلى ذلك أن الزعم بأن هذه المؤلفات المزورة لم تنطل خدعتها على أحد أبدًا هو زعم مجاف للحقيقة تماما. لقد ظل الناس يتعرضون للخديعة طوال الوقت. وهذا سبب تأليف الناس للكتابات المزورة: التلاعب بالناس وخداعهم.
لست بحاجة لأن أكتب وصفا مفصلا للنقاشات التي شهدها العالم القديم فيما يتعلق بالتزوير في هذا الفصل؛ فثمة قدر كاف من الكتب العلمية التي رصدت هذه المشكلة، مع أن هذه الكتب والتي تتسم بشموليتها أغلبها صادر لسوء الحظ باللغة الألمانية[5] لكني أستطيع هنا أن أوضح هذه المسألة بذكر طرفة معبِّرة جدا.
في روما أثناء القرن الميلادي الثاني كان ثمة طبيب ومؤلف شهير يدعى جالِن. يحكي جالن أنه ذات يوم، بينما يقطع شوارع روما سيرا على قدميه، مر بجانب صالة بيع للكتب. فوجد فيها رجلين يتجادلان حول كتاب معين كان معروضا للبيع، وقد كتب عليه أن صاحبنا جالن هو مؤلفه. أحد الرجلين كان مصرا على أن جالن هو حقا مؤلف هذا الكتاب، بينما كان الثاني يزعم بنفس الحماس أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من مؤلفاته والسبب في ذلك اختلاف أسلوب الكتابة في الكتاب عن أسلوب جالن. غني عن القول أن دفاع هذا الأخير قد أصاب جالن بالسعادة، فهو لم يكن في الحقيقة قد كتب هذا الكتاب. لكنه كان مشوشا بعض الشئ من أن محاولة شخص ما بيع كتاب زاعما أنه من تأليفه. ولذلك عاد لبيته وألف كتيبا أسماه«كيف تتعرف على كتب جالن». وما يزال هذا الكتيب بين أيدينا حتى اليوم.
لقد مورس التزوير على نطاق واسع، وكان القصد منه أن التغرير بالقارئ، وكثيرا ما انطلى التزوير على القراء. أما كونه لم يكن ممارسة مقبولة فهذا واضح من المصطلحات التي أطلقها الالمؤلفون القدماء عليه. اثنان من بين أكثر المصطلحات شيوعا التي أطلقت على التزوير في اللغة اليونانية هي « pseudon» والتي تعني «كذبة» و « nothon» والتي تعني «طفل مولود من سفاح». هذا المصطلح الأخير هو لفظ سئ وكريه في اللغة اليونانية كما هو الحال في اللإنجليزية. وكثيرا ما يوضع بجوار المصطلح «gnesion» الذي يعني شيئا مثل شرعي أو معتمد.
دوافع تأليف الكتابات المزورة
من الواضح، من استقراء عدد واسع من المصادر القديمة، أن الغرض من التزوير الأدبي كان خداع القراء وجعلهم يعتقدون أن شخصا آخر بخلاف المؤلف الحقيقي هو من كتب هذا الكتاب. ولكن ما الذي دفع المؤلفين لأن ينحوا إلى هذا المنحى؟ لماذا لم يكتفوا بتأليف كتب مستعملين في ذلك أسماءهم الحقيقية؟
كان ثمة الكثير من الدوافع بالنسبة للمؤلفين الوثنيين واليهود والمسيحيين تؤزُّهم أزًّا نحو تزوير النصوص الأدبية. وهاكم عشرة منها:
1- تحقيق ربح ماديٍّ: لقد كانت أعظم مكتبتين في العالم القديم قائمتين في مدينتي الإسكندرية وبيرجاموم. وكان اقتناء الكتب لفائدة مجموعات الكتب التي بحوذة المكتبة في العصور القديمة مختلفا عن ما يحدث اليوم اختلافا كبيرا. فلأن الكتب كانت تنسخ نسخا يدويا، وقد تختلف النسخ المتعددة من الكتاب نفسه أحيانا من ناحية الحجم بين كتاب وآخر، فقد فضلت أهم المكتبات أن تقتني لنفسها نسخة أصلية من الكتاب على أن تقتني نسخة متأخرة ربما تكون الأخطاء قد تسربت إليها. وفقا لما ذكره جالن، هذا الأمر أدى بفئات أصحاب الأعمال أن يختلقوا نسخا «أصلية» من الأعمال الكلاسيكية لبيعها لمكتبتي الإسكندرية وبيرجاموم. ولو كانت المكتبتان تدفعان مالا على كل النسخ الأصلية من المقالات التي كتبها الفيلسوف أرسطو، فستندهش إذا عرفت العدد الكبير من نسخ مقالات أرسطو الأصلية التي ستبدأ في الظهور. بحسب ما تناهى إلى علمي، هذا الحافز المادي لم يكن له أي تأثير على كتابات المسيحيين الأوائل حيث إنها لم تكن تباع في السوق حتى عصور متأخرة جدا.
2- مواجهةً لخصم: كانت الأعمال الأدبية عرضة للتزوير في كثير من الأحيان بهدف تشويه صورة عدوٍّ شخصيّ. أحد مؤرخي الفلسفة اليونانيين ويدعى «ديوجينيس لايرتياس» يشير إلى أن فيلسوفا يدعى «ديوتيماس» زور ثم نشر خمسين رسالة بالغة الفحش نسبها إلى خصمه الفلسفي أبيقور. هذا الأمر لم يكن له أي تأثير نافع على سمعة أبيقور. تساءلت في كثير من الأحيان عن ما إذا كان شئ من هذا النوع يحدث في واحدة من أكثر الأعمال المزورة تميزا في العصر المسيحي الأول. «إبيفانوس» عالم الهرطقات من القرن الرابع أشار إلى أنه قد قرأ كتابا كانت مجموعة مسيحية من الهراطقة المسيحيين بالغي التهتك الأخلاقي تدعى «الفبيونيين»تستعمله في الظاهر. هذا الكتاب، «الأسئلة الكبرى لمريم »، كان في الظاهر يحوي رواية شاذة عن يسوع ومريم المجدلية يأخذ يسوع ضمن أحداثها مريم المجدلية إلى جبل عال وفي حضورها يخلق من ضلعه امرأة (تماما كما أخرج الرب حواء من ضلع آدم) ثم ينخرط في علاقة جنسية معها. وحينما يصل إلى ذروة استمتاعه الجنسي، يقوم عنها ويجمع منيه بين يديه ويَطْعَمُهُ وهو يخبر مريم:« هكذا ينبغي أن نفعل لكي نعيش.» فتفقد مريم وعيها، كما هو متوقع، في الحال(من كتاب«خزانة الأدوية»( The Panarion)، سفر رقم 26 ). هذه القصة الغريبة لا نجد لها أثرا في أي كتاب آخر باستثناء مؤلفات أبيفانيوس الذي اشتهر باختلاقه ما لديه من «معلومات» عن الهراطقة. كثيرا ما أتساءل عما إذا كان قد اختلق هذه الرواية بأكملها، زاعما بأنه عثر عليها في كتاب من كتب الفيبيونيين، لكنه في الحقيقة اختلقها اختلاقا. ولو صح هذا، فقد قام بتزوير كتاب الفبيونيين جزئيا باسم مريم لكي يسئ إلى صورة خصومه الدينيين.
3- مقاومة لوجهة نظر معينة: إذا كنت محقا فيما ذهبت إليه بشأن «إبيفانيوس» وكتابه «الأسئلة الكبرى لمريم»، فإن قدرا كبيرا من دوافعه ستكون رغبته في مقاومة وجهة نظر، وهي هنا الهرطقة الفيبيونية، كان يراها وجهة نظر ضارة. هذا ويمكننا العثور على دوافع مشابهة في حالات عدد كبير من الأعمال المسيحية الأخرى المزورة. فبالإضافة إلى الرسالتين الأولى والثانية إلى أهل كورنثوس، لدينا الرسالة الثالثة إلى أهل كورنثوس لم تصبح جزءًا من العهد الجديد.[6] هذا الكتاب كتب يقينا خلال القرن الثاني وذلك لأنه يدحض بعض الآراء الهرطوقية التي ظهرت في هذه الفترة والتي تفترض أن يسوع لم يكن كائنا بشريا من لحم ودم وأن تلامذته لن يبعثوا حقيقة من الموت في جسد بشري. وفقا لهذا المؤلف، هؤلاء التلاميذ سيبعثون من بين الأموات، كما يصرح هو بكل وضوح بينما يزعم أنه الرسول بولس. ربما يبدو غريبا أن نحاول أن ندحض تعليما باطلا عبر ادِّعائنا لأنفسنا هوية مزيفة، ولكن هذا هو الحال حينها. وهذا حدث كثيرا في الكتابات المزورة المنتمية للتقليد المسيحي المبكر.
4- دفاعا من الشخص عما يؤمن به من تقاليد باعتباره وحيا إلهيا: هناك مجموعة من الكتابات القديمة تعرف باسم«نبوءات العرافة» أو(the Sibylline oracles).[7] العرافة كان من المفترض أن تكون نبية وثنية من العصور القديمة يوحي إليها إله اليونانيين «أبولو». ولكن النبوءات التي نتحدث عنها والتي ما تزال محفوظة حتى وقتنا هذه كتبها اليهود في أغلب الحالات. وتقوم فيها النبية، التي يزعمون أنها كانت تعيش قبل وقوع الأحداث التي تتنبَّأ بها بردح من الزمن طويل، بمناقشة أحداث التاريخ المستقبلية- وهي دائما مصيبة في تنبوءاتها(وذلك لأن المؤلف الحقيقي يعيش بعد وقوع هذه الأحداث) ودائما تعمل على تأكيد صحَّة المعتقدات والممارسات اليهودية الهامَّة. ولكي لا يتفوق عليهم أحد، التقط بعض المسيحيون المتأخرون زمانيا هذه النبوءات وأقحموا فيها إشارات إلى مجئ المسيح فيهم، لكي يصبح الوضع الآن وكأن هذه النبية الوثنية تتنبأ تنبوءات صحيحة عن مجئ المسيح. أي شهادة على صحة الحقيقة الدينية التي يؤمن بها شخص ما من شهادة يزعمون أنها مأخوذة من فم متنبئ من متنبئي الأعداء؟
5- كأمارة من أمارات التواضع؟ يجادل علماء العهد الجديد كثيرا لإثبات أن أفراد بعض المدارس الفلسفية كانوا يكتبون مقالات وينسبونها إلى معلميهم ويوقعون بأسماء معلميهم على كتبهم التي ألفوها هم(أي التلاميذ) كأمارة من أمارات تواضعهم، وذلك لأن أفكارهم الشخصية لا تعدو أن تكون امتدادا لما قاله المعلم نفسه. وقد قيل إن هذا الأمر يصدق تحديدا على مجموعة من الفلاسفة عرفوا باسم «الفيثاغورسيين»، تيمنا باسم معلمهم الفيلسوف اليوناني العظيم «فيثاغورس». مع ذلك، هناك نزاع خطير فيما يتعلق بما إذا كان الفلاسفة الفيثاغورسيون الذين زعموا في كتاباتهم أنهم فيثاغورس قد فعلوا ذلك بالفعل تواضعا منهم أم لا: فليس ثمة أي إفادات يمكن العثور عليها بخصوص هذا المؤثر داخل كتابات هؤلاء، ما لدينا ليس إلا إفادات في كتابات مؤلفين عاشوا بعد العصر الذي عاش فيه هؤلاء بقرون.[8] أقول إن هؤلاء الفيثاغورسيين ربما كانت لهم دوافع أخرى أوحت إليهم أن يُقْدِموا على هذا الصنيع الذي صنعوه.
6- حبًّا في شخص المؤلف: على المنوال ذاته ينسج بالفعل أحد مؤلفي العصور القديمة كان قد زعم أنه زور كتابه بدافع من الحب والتبجيل. إن هذا موقف بالغ الشذوذ أمسك فيه مزور متلبسا بجريمته. وقد حكى هذه القصة «ترتليانوس»، أحد أباء الكنيسة في بواكير القرن الثالث، والذي يشير إلى أن القصص المشهورة التي تحكي عن بولس وتلميذته «تيكلا» والتي اشتهرت خلال القرون الوسطى كتلميذة مثالية هي قصص زورها أحد قادة الكنيسة في آسيا الصغرى ويضيف أن هذا الرجل اكتشف أمره وعزل من منصبه الكنسي نتيجةً لما اقترفه. في معرض دفاعه عن نفسه، زعم المزوِّرُ أنه كان قد كتب عمله « بدافعٍ من محبته لبولس».[9] ليس واضحا تمام الوضوح ما كان يعنيه من قوله هذا، لكنه ربما كان يعني أن حبه لبولس قاده إلى أن يختلق قصة وينسبها لاسم بولس ليعبر عن بعض ما اعتبره أهم الآراء والتعاليم التي كان يبشر بها بولس. لكن التعاليم والآراء التي نجدها في النص المحفوظ من «أعمال بولس وتيكلا» هو، في حقيقة الأمر، لا يمت بأي صلة لما كان يبشر به بولس: فمن بين أمور أخرى تدفعنا لهذا الاعتقاد، نعلم من هذه الروايات أن بولس قد ادعى أن السبيل إلى الحياة الأبدية لا يتأتى عبر الإيمان بموت يسوع وقيامته من بين الأموات، كما يزعم بولس نفسه، وإنما عبر اقتفاء آثار يسوع في محافظته على زهده في الجنس- حتى إن كان المرء متزوجا.
7- ليروا ما إذا كانوا سينجحون في خداع القراء: كان هناك بعض المزورين في العصور القديمة ممن زوروا كتاباتهم لكي يروا ما إذا كانوا سينجحون في التغرير بالقراء أم لا. والمصطلح المستخدم للدلالة على هذا الصنيع هو هو «الخداع» أو (mystification). أشهر النماذج على هذا الأمر، والذي حكاه «ديوجينيس لايرتيوس»، هو مؤلف يدعى «ديونيسيوس» قام بالتخطيط للإيقاع بواحد من أعدائه الألداء وهو المسمى «هيراكليدس البنطي» عبر تزويره مسرحية ناسبا إياها إلى مؤلف الأعمال التراجيدية الشهير «سوفوكليس». وقد وقع «هيراكليدس» في شباكه وانخدع بالمسرحية واقتبس منها ظنا منه أنها صحيحة النسبة إلى مؤلفها. فما كان من «ديونيسيوس» إلا أن كشف الأستار عن خدعته- ومع ذلك رفض «هيراكليدس» أن يصدقه في قوله هذا. وهكذا أشار عليه «ديونيسيوس» أنه إذا أخذ الحروف الأولى من العديد من سطور نص المسرحية وكتبها في هيئة كلمات( يطلق عليها مصطلح« acrostic»)، فإنها ستكوِّن اسم «رفيق ديونيسيوس»( Dionysius’s boyfriend). فما كان من هيراكليدس أن ادعى أن الأمر لا يعدو أن يكون صدفة، حتى بيَّن «ديونيسيوس» أن نص المسرحية يتضمن في آخرها مثالين آخرين لهذا الأمر، الأول منهما كتبت فيه الرسالة التالية«قرد عجوز لا يقع في المصيدة؛ مرحى! لقد وقع أخيرا، لكن وقوعه أخذ وقتا طويلا» والآخر يعطي الرسالة التالية« هيراكليدس جاهل بالحروف ولا يشعر بالخزي من جهله».[10] ومع ذلك فلم يتناهى إلى علم وجود نماذج لهذا الخداع بين مزوري العصر المسيحي المبكر.
8- استكمالا لنقص في التقليد: كان هناك في العصر المسيحي المبكر بوجه خاص الكثير من النماذج التي قدم فيها المزورون كتابات «ذات موثوقية» من شأنها أن تكمل ما كان يُظنُّ نقصا في التقليد. مؤلف العدد 4 : 17 من الرسالة إلى أهل كولوسي(هل هو بولس بالفعل؟)، على سبيل المثال، يأمر القراء أن يقرأوا هم أيضًا الرسالة التي أرسلها إلى اللاودكيين. ليس لدينا، مع ذلك، رسالة إلى أهل لاودكيا نسبتها صحيحة إلى بولس. ليس من العجيب إذن أن نجد رسالتين قد ظهرتا خلال القرن الثاني الميلادي منسوبتين زورا إلى بولس لتسدا ذلك النقص.[11] مثال آخر: من المعروف أن الأناجيل التي يتضمنها العهد الجديد قد أمسكت فعليا عن ذكر أي معلومات تخص حياة يسوع المبكرة. هذا الأمر أصاب بعض المسيحيين الأوائل بالحيرة، وفي القرن الثاني بدأت روايات عن الغلام يسوع في الظهور المفاجئ. أشهرها قيل إن شخصا يسمى «توماس»، وهو الاسم الذي يعني «التوأم»، قد كتبه. وهذا ربما يحمل إشارة إلى تقليد نعرفه نقلا عن المسيحيين السوريانيين يخبرنا أن «يهوذا» أخا يسوع هو في الحقيقة أخوه التوأم أو «يهوذا التوأم». على أية حال، تعد هذه الرواية حكاية شاذة عن مغامرات يسوع الصغير والتي بدأت حينما كان ابن خمس سنين.[12]
9- مقاومةً لكتابات مزورة: واحدة من أقل الظواهر خضوعا للدراسة في عمليات التزوير التي تنتمي للعصر المسيحي المبكر هي تأليف النصوص المزورة الذي يكون القصد منه مجابهة فرضيات جرى تدعيمها في كتابات مزورة أخرى. في بواكير القرن الرابع، وفقا ليوسابيوس، أحد آباء الكنيسة، ألف كتاب وثني مزور معاد للمسيحية أطلق عليه أعمال بيلاطس. وبديهي أن هذا الكتاب كان يحكي قصة المحاكمة التي أخضع لها يسوع وإعدامه بمعرفة السلطات الرومانية وذلك من وجهة نظر رومانية، والغرض من ذلك بيان أن يسوع كان مستحقا تماما ما حصل عليه من حكم. ولقد كان هذه الوثيقة مقروءة على نطاق واسع: فلقد أصدر الإمبراطور الروماني ماكسيمين دايا مرسوما يقضي بجعل قراءته إلزامية في سن أطفال المدارس الذين ما يزالون يتعلمون الحروف(يوسابيوس، تاريخ الكنيسة 9 . 5 ). بعد ذلك بوقت قصير ظهرت وثيقة مسيحية تعرف هي الأخرى باسم«أعمال بيلاطس». في هذه الرواية يتم تصوير بيلاطس في صورة المتعاطف تماما مع يسوع والذي يحاول أن يطلق سراحه لأنه برئ من كل ووجه به من اتهامات.[13] وقد كتبت النسخة المسيحية من الأعمال فيما يبدو ردًّا على النسخة الوثنية منها. ظاهرة التزوير في مقابل التزوير التي ظهرت في العصر المسيحي كانت واسعة الانتشار على نحو كبير فيما يبدو. فلدينا نص كتب في القرن الرابع يسمى «قوانين الرسل»( Apostolic Constitutions). يزعم مؤلفوا هذه الوثيقة أن التلاميذ الاثني عشر هم من ألفوها وذلك بعد وفاة يسوع، على الرغم من أن الرسل كان قد مر على موتهم أبان كتابة نص هذه الوثيقة ثلاثة قرون. بين المميزات الجديرة بالملاحظة التي يتميز بها هذا الكتاب إصراره على ضرورة ألا يقرأ المسيحيون الكتب التي تنسب زورا إلى الرسل(«قوانين الرسل»، 6 . 16 ). وحتى العهد الجديد يتضمن شبيها لهذا الأمر: فمؤلف الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي يأمر قراءه بألا ينزعجوا من رسالة زعم البعض أنها كتبت بيد بولس( يقصد رسالة جرى تزويرها ونسبتها إلى بولس؛ 2 تسالونيكي 2 : 2 ). رغم هذا، وكما سنرى عما قريب، هناك أسباب جيدة تدفعنا للاعتقاد بأن الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي هي نفسها كتاب مزور، ليست في الواقع من تأليف بولس لكنها في الظاهر منسوبة إليه.
10- لإضفاء الموثوقية على آراء المؤلف: أعتقد أن هذا الدافع يعدُّ إلى حدٍّ بعيد أكثر دوافع التزوير في العصور المسيحية المبكرة شيوعا. فهناك الكثير من المسيحيين الذين عاشوا خلال القرون الأولى للكنيسة ممن زعموا العديد من وجهات النظر أغلبها جرى وسمه بالهرطقات. ومع ذلك فكل هؤلاء كانوا يزعمون أن يقدمون آراء يسوع وتلاميذه. كيف تظهر بوضوح أن آرائك نابعة من مصدر رسولي، لكي تقنع، فلنقل، المهتدين الجدد بها؟ أيسر السبل أن تكتب كتابا وأن تدعي أن رسولا من الرسل قد ألفه، وأن تعمد إلى نشره بين الناس. كل جماعة من المسيحيين الأقدمين كان لديهم سبيل إلى الاطلاع على كتابات كتبها فيما يزعمون رسل المسيح. وغالبية هذه الكتابات هي كتابات مزورة. الكتب المزورة في العصر المسيحي المبكر
لا يمكن أن يشك عاقل في أن كما كبيرا من الأدب المسيحي المبكر كان نتاج التزوير. فمن خارج جلدتي العهد الجديد، على سبيل المثال، عندنا كمية كبيرة من الأناجيل الأخرى التي يزعمون(وبعض الزعم إثم) أنها قد كتبت بيد المشهورين من القادة المسيحيين الأوائل من أمثال «بطرس» و«فيلُبُّس» و«توماس» و«يعقوب» أخي يسوع، و«نيقوديموس» ومعهم آخرون؛ كما أننا نملك العديد من أعمال الرسل مثل «أعمال يوحنا» و«أعمال بولس وتيكلا»؛ كما يوجد لدينا رسائل مثل «الرسالة إلى اللاودكيين» و«الرسالة الثالثة إلى أهل كورينثس» إلى جانب الرسائل المتبادلة بين بولس والفيلسوف الروماني «سينيكا» ورسالة أخرى مزعومة قيل إن «بطرس» أرسلها إلى «يعقوب» مناوئةً منه لـ«بولس»؛ كما أن بحوذتنا عددا من الرؤى النبوية، مثل «رؤيا بطرس»، على سبيل المثال، (وقد كادت أن تنجح في أن تكون عنصرا من عناصر القائمة الرسمية لأسفار الكتاب المقدس) وكذا «رؤيا بولس». هذا وسنتعرض لبعض من هذه الكتابات بالبحث في الفصل السادس.
لقد كان الكُتَّابُ المسيحيون الأوائل كثيري المشاغل، وكانت واحدة من أنشطتهم الشائعة هي تزوير الوثائق باسم رسل المسيح. يقودنا هذا الآن للسؤال الأهم: هل نجحت أيٌّ من هذه الكتابات المزورة في التسلل إلى العهد الجديد؟
ليس هناك سبب، من المنظور التاريخيٍّ، للشك في أن بعض الكتب المزورة ربما قد نجحت في التسرب إلى قائمة الأسفار الرسمية. نحن نمتلك العديد من الكتابات المزورة خارج العهد الجديد، فلماذا لا يكون داخله منها؟ لا أعتقد أن المرء بمقدوره أن يجادل في أن يكون آباء الكنيسة، بدءًا من نهاية القرن الثاني، قد عرفوا أي الكتب بالفعل كتبها الرسل وأيها لم يكتبوه. فمن أين لهم أن يعرفوا؟ أو ربما يكون السؤال أكثر التصاقا بصميم الموضوع لو صغناه كالتالي: كيف يمكننا نحن أنفسنا أن نعرف؟
ربما يبدو وقع هذه الكلمات غريبا على الأذهان بعض الشيء، لكن اكتشاف التزوير في أيامنا هذه صار أيْسَرَ بالنسبة لنا مما كان عليه الأمر بالنسبة للناس في العالم القديم. فأما المناهج التي نستعملها فهي ذاتها التي كانت مستعملة في عصرهم. فنحن، مثلما كان يفعل جالن، ندرس الأسلوب (style )المكتوبة به الرسالة. فهل هو الأسلوب ذاته الذي يستعمله الكاتب في الكتابات الأخرى؟ وإن كان مختلفا عنه، فإلى أيِّ حدٍّ يصل هذا الاختلاف؟ أهو اختلاف بسيط أم اختلاف بيِّن؟ وهل من الممكن أن يكون مؤلفا كان يكتب بأساليب مختلفة؟ أم أن هناك مميزات أسلوبية تختلف اختلافا تامًّا مع ما يستخدمه المؤلف في مؤلفاته الأخرى، وخاصة في هذه الجوانب التي لا نعيرها كثير تفكير أثناء ممارستنا للكتابة (أي نوع مثلا من حروف العطف نستعمله، كيف نبني الجمل المركبة، كيف يكون استعمالنا لاسم الفاعل وللصيغ المصدرية)؟ كما نعير انتباها كبيرا لدراسة اختيار المؤلف لكلماته: هل هناك تشكيلة معينة من الكلمات التي يستعملها المؤلف نفتقدها في هذا النص؟ أم هل هناك بعض الكلمات المستعملة في هذا الكتاب لم يكن لها وجود استعمالي حتى حلول الأزمنة المتأخرة للغة اليونانية القديمة؟ وكذا الأفكار والأراء ووجهات النظر اللاهوتية التي يحتويها الكتاب لها نصيب كبير من الأهمية في هذا السياق. هل ما في هذا الكتاب منها مطابق لما في كتابات المؤلف الأخرى، أو على الأقل مشابهة لها كثيرا؟ أم بينهما ما بين السماء والأرض من التباعد؟
أما السبب الذي يجعلنا أكثر جاهزية لإصدار أحكام من هذا النوع مقارنة بما كان لدى الأقدمين فهو أننا بالفعل أكثر منهم جاهزية! فالنقاد الأقدمون الذين حاولوا أن يميزوا الكتابات المزورة لم يكن لديهم من بنوك المعلومات وأنظمة استرداد البيانات ومن الأجهزة الحاسوب ما به للخروج بتقييمات مفصلة من بين ركام الكلمات والأساليب. لقد كان لزاما عليهم أن يعتمدوا اعتمادا كبيرا على المنطق السليم والحدس. هذا ما نحن نملكه، الكثير جدا من البيانات.
ومع ذلك، ورغم ما نملكه من تقنيات متطورة، ما يزال الباب مفتوحا أمام الشك في كثير من المواقف. ليس عندنا في هذا الكتاب فسحة من الصفحات لنقاشٍ موسَّعٍ لكل فقرة من كتابات العهد الجديد تكون موضعَ تساؤل. بل بدلا من ذلك سأقوم بشرح أكثر الأسباب التي تدفعنا للتفكير في أن بولس لم يكن مؤلفا لست من الرسائل المنتمية للقائمة الرسمية المنسوبة إليه إقناعا. عن نفسي، أؤمن أن كل هذه الكتب منحولةٌ عليه. وربما مؤلفوهم كانوا ذوي نيات حسنة. ولربما ظنوا أنهم يفعلون الصواب. ولعلهم شعروا بأن لديهم ما يبرر صنيعهم تبريرا مقبولا. لكنهم، في كل الأحوال، زعموا لأنفسهم هوية مختلفة عن هويتهم الحقيقية، لكي يضمنوا لآرائهم، وهذا احتمال، قبولا.
رسائل بولس المنحولة(المزورة)
لن يكون بمستطاعي في أي من المواقف التي سأناقشها هنا أن أقدم تغطية متعمقة لكل الحجج فيما يتعلق بهوية مؤلفي هذه الرسائل.[1] يكفيني، لإمضاء مقاصدي في هذا الفصل، أن أشرح بعضا من الأسباب الرئيسة التي تحجج بها العلماء ردحا طويلا من الزمان لإثبات أن هذه الرسائل لم يكتبها بولس على الرغم من كونها يزعم لها أنها قد كتبت بيديه.
وحيث إنني بالفعل قد ذكرت شيئا عن الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي، فسأبدأ بها- فهي، على أية حال، من أفضل المواضع التي يمكن للمرء أن يبدأ بها وذلك لأنها الرسالة التي جرى بشأنها أكثر النزاعات سخونة من بين الرسائل الست التي كتبها بولس والتي تعد هوية مؤلفيها الحقيقيين محلا للتساؤلات. وقد ضم جانبا النزاع كثيرا من العلماء الأفذاذ (على النقيض تماما من حال الرسائل الرعوية ورسالة بطرس الثانية والتي تعتقد الغالبية الساحقة من النقاد أنها رسائل مزورة). ومع هذا فلدينا أسباب قوية تدفعنا للاعتقاد بأن بولس لم يكتب هذه الرسالة.
الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي
واحد من أسباب النزاع على هوية مؤلف هذه الرسالة هي أنها، فيما يتعلق بأسلوب الكتابة وبالألفاظ المستعملة فيها، تبدو مشابهة كثيرا لرسالة نحن على يقين كبير من أن بولس بالفعل قد كتبها، وأعني بها الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي. بل إنهما متشابهتين كثيرا حتى إن بعض العلماء قد تذرعوا بهذا التشابه في القول إن المؤلف المزوِّر للرسالة الثانية قد استعمل الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي كنموذج يسترشد به في بناء الرسالة، لكنه أضاف بعد ذلك المحتوى الذي ينتمي لأفكاره هو والذي يختلف اختلافا بيِّنا عن محتوى نموذجه الاسترشادي. إن التشابه بين الرسالتين يكشف واحدة من المشكلات التي واجهها العلماء في طريق إصدار حكمهم على وثيقة قديمة بكونها مزورة أم لا. إن أي إنسان لديه المهارة في اجتراح تزوير سيبذل بطبيعة الحال قصارى جهده لجعل عمله الخاص يبدو شبيها لعمل الشخص الآخر الذي يقلده. بعض المزورين سيكون أفضل من البعض الآخر في هذا المضمار. ولكن إذا كان شخص ما يجيد هذا إجادة خاصة، فمن العسير أن نظهر ما فعله، على الأقل على أساس اعتماد الأسلوب كقرينة للحكم.
ولكن ما السبب الذي قد يدفع شخصا ما أن يحاكي أسلوب بولس ومع ذلك يأخذ لنفسه توجها لاهوتيًّا مخالفا لتوجهه؟ بمقدور المرء أن يفكر في كثير من الأسباب المحتملة: ربما تغير الحال داخل الكنائس، وأراد المؤلف أن يواجه المشكلات الجديدة مستدعيا بولس من بين الأجداث، كما يقال؛ وربما لم يكن في ذهن المؤلِّف تصورا كاملا عن بولس وربما أخطأ في استيعاب بعض من آرائه الهامة(أشار بولس إلى حدوث ذلك في حياته في رسالته إلى أهل رومية على سبيل المثال؛أنظر الرسالة إلى أهل رومية 3 : 8 )؛ وربما ظن المؤلف مخلصًا أن قراءه قد أخطأوا فهم الرسالة الحقيقة التي كان يبشر بها بولس وأراد أن يصحح لهم فهمهم غير عالم بأن القراء منذ البداية قد فهموا الرسالة البولسية فهما صحيحا.
النقطة المنهجية الأساسية التي أدندن حولها سأصوغها كالتالي: سوف يتوقع المرء من مقلد ماهر لأسلوب بولس أن ينجح في جعل نصه ذا جرس مشابه لجرس كلام بولس. لكنه لن ينتظر من بولس أن يكون جرس كلامه غير مشابه لجرس كلام بولس. إن المفتاح لرؤية الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي كرسالة لم يكتبها بولس هو أن فرضيتها الرئيسة تبدو متناقضة ما ما قاله بولس نفسه في الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي.
لقد كتبت الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي لمواجهة العقيدة التي تنص على أن «أَنَّ يَوْمَ الْمَسِيحِ قَدْ حَضَرَ»(2 : 2 )، وهذه العقيدة من المحتمل أنها تعتمد على رسالة أقدم من الرسالة الثانية إلى تسالونيكي وقد جرى تزويرها ونسبت إلى بولس وهي الآن مفقودة. فأما المسيحيون الذين وجهت إليهم هذه الرسالة فيبدو أنهم كانوا يعتقدون أن نهاية الأيام-أي لحظة عودة المسيح في مجده- وشيكة جدا. فكتب هذا المؤلف تصحيحا لهذا الانطباع المغلوط. وهكذا في الإصحاح الثاني، الذي يعد قلب الرسالة، يشير المؤلف إلى أنه ثمة سلسلة من الأحداث التي ينبغي أن تقع قبل مجيء النهاية. فأولا سيقع نوع من العصيان العام الموجه ضد الرب، وستظهر الشخصية المعروفة بـ«ضد المسيح» وسيجلس في هيكل اليهود معلنا نفسه ربًّا. هذا الرجل المناوئ للشريعة سيصنع كل أنواع المعجزات المبنية على الخديعة وسيتجول ليقود الشعب إلى الضلال( 2 : 1 – 12 ). وفقط بعد هذه الأحداث ستأتي النهاية أخيرا. وإذن فالنهاية لم تأت بعد وليست حتى وشيكة الحدوث؛ وحينما ستأتي ستسبقها علامات واضحة وظاهرة للعيان حتى إن الراسخين من أهل العلم من المسيحيين لن يأخذوا على غرة.
إن هذه رسالة آسِرة وقوية. لكن المشكلة أنها لا تتفق كثيرا مع ما قاله بولس بلسانه في الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي.
لقد كتبت الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي لمواجهة سؤال عما سيحدث قبل نهاية الأيام حينما يعود يسوع من السماء في مجده(1 تسالونيكي، 4 : 13 – 18 ). والسبب الذي أدى ببولس إلى كتابة هذه الرسالة هو أن أفراد رعوية تسالونيكي تعلموا من بولس أن النهاية على الأبواب. ولكن الحيرة قد ألمَّت بهم وأصابهم الذهول لأن بعضا من أفراد كنيستهم قد ماتوا بالفعل قبل عودة يسوع. فهل هؤلاء لم ينجحوا في الحصول على جائزتهم بأن يؤتى بهم مع يسوع عند قدومه الثاني؟ يكتب بولس ليؤكد لهؤلاء الذين ما يزالون أحياء أن الموتى سيكونون أول من يبعثون من بين الأموات عند المجئ الثاني للمسيح، وأنهم، كذلك، سيحصلون يقينا على النعم المناسبة لهم.
ثم يواصل بولس تكرار ما قد أخبرهم به حينما كان في وسطهم( 1 تسالونيكي 5 : 1 – 2 ) من أن مجيء يسوع سيكون مفاجئا وعلى نحو غير متوقع«كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ»( 5: 2 ). وسيفاجئهم «هلاك مباغت»( 5 : 3 )، وهكذا كان على أهل تسالونيكي أن يبقوا مستعدين دائما حتى لا يدهمهم المجيء دهما لا يتوقعونه.
لو أن بولس كان يعني ما قاله في الرسالة الأولى للتسالونيكيين من أن عودة يسوع ستكون على حين غرة وأنها ستكون غير متوقعة، فمن العسير أن يصدق المرء أن بإمكانه أن يكتب ما قاله في الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي من أن النهاية ليست وشيكة الحدوث وأن هناك علامات واضحة المعالم نعرف منها أن النهاية قريبة، علامات لم يظهر أي منها بعدُ. وها هو مؤلف الرسالة الثانية يكتب:« أَمَا تَذْكُرُونَ أَنِّي وَأَنَا بَعْدُ عِنْدَكُمْ كُنْتُ أَقُولُ لَكُمْ هَذَا؟»( 2 : 5 ). لو كان هذا القول صحيحا، فلماذا سيصيب الانزعاج أهل تسالونيكي لموت واحد من أفراد جماعتهم؟ لقد كانوا سيعرفون أن النهاية لم تكن على الأبواب، وإنما ستكون مسبوقة بظهور شخصية«ضد المسيح» ومعه علامات أخر.
يبدو هذا الأمر وكأن بولس لم يكتب الرسالتين جميعا. وربما ألجأت التوقعات المضاعفة من جهة المسيحيين قريبا من نهاية القرن الأول مؤلفًا ما من بين أفراد الكنائس التي أقامها بولس مجهول الهوية أن يؤلف الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي لكي يهدئ من غلواء توقعاتهم قليلا، ولكي يجعلهم على يقين بأن النهاية نعم آتية، ولكنها ليست وشيكة. بل هناك أشياء ينبغي أن تقع قبل ذلك.
الرسالتان إلى شعبي كولوسي وأفَسُس
الحجج التي استعملت للنيل من موثوقية نسبة هاتين الرسالتين إلى بولس متشابهتان. وهما ومعهما الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي أطلق عليهم العلماء اسم الرسائل «البولسية الثانوية»( Deutero-Pauline)، وذلك لأن أحدًا لا يؤمن بأن بولس هو مؤلفهم وهو الأمر الذي يجعل من مكانتهم وسط المجموعة الكاملة التي كتبها بولس مكانة ثانوية(وهو المعنى الأصلي لكلمة «deutero»).
وتعدُّ الحجج المساقة من أجل إثبات كون الرسالتين إلى كولوسي وأفسس مزورتين، في رأي غالبية العلماء، أقوى(وخاصة في حالة الرسالة إلى أفَسُس) من أمثالهم مما سيق لبيان عدم أصالة الرسالة الثانية إلى تسالونيكي.
فأولا، أسلوب الكتابة المستعمل في الرسالتين كلتيهما ليس بالأسلوب المميز لكتابات بولس. هذا النوع من الحجج لا يمكن توضيحه من غير التعرض بالتفصيل إلى الطريقة التي تبنى بها الجمل في اللغة اليونانية. ومع ذلك، فالفكرة الأساسية هي أن مؤلفي الرسالتين إلى كولوسي وأفسس كانا ميالين إلى كتابة جملا طويلة ومركبة، فيما لا يميل بولس إلى هذا. فالأعداد من 3 – 8 في الأصحاح الأول هي في النص اليوناني مجرد جملة واحدة؛ إنها جملة بالغة الطول، وتختلف عن أي نوع من الجمل كتبه بولس في كتاباته النمطية اختلافا كبيرا. وكذلك الأعداد 3 – 14 من الإصحاح الأول من الرسالة إلى أفسس فهي حتى أكثر من السابقة طولا، فهي تكوِّن اثني عشر عددا: ولا نجد لذلك مثيلا مطلقا في كتابات بولس. وعشرة في المائة من الجُمَل التي تتكون منها الرسالة إلى أهل أفسس يزيد طولها عن خمسين كلمة؛ وهذه الميزة لا تتسم بها الرسائل البولسية غير المتنازع على نسبتها إليه. فالرسالة إلى أهل فليبِّي، وهي التي تقترب طولا من الرسالة إلى أفسس، تضم فحسب جملة واحدة بهذا الطول؛ وكذلك الرسالة إلى أهل غلاطية والتي تزيد طولا عن الرسائل السابق ذكرها ومع ذلك فهي تضم جملة واحدة فقط بهذا الطول.[2]
وهناك كذلك الكثير من الفقرات في الرسالة إلى أهل كولوسي(أنظر على سبيل المثال الأعداد «1 : 15 – 20 » من الرسالة إلى أهل كولوسي) والرسالة إلى أهل أفسس والتي تملك نبرة لاهوتية أكثر رقيا وتطورا عما يجده المرء في رسائل بولس. ومع ذلك، يبقى الأمر الأكثر أهمية من كل ما سبق هو أنه ثمة نقاط محددة يبدو فيها مؤلفا هاتين الرسالتين، إذا افترضنا أنهما اثنان وليسا واحدا، مختلفان مع ما يطرحه بولس. فالطرفان كلاهما(المؤلفان وبولس كلٌّ على حدى) يريدان أن يتكلما عن الأشياء وكيف كان تغيرها بالنسبة لمن نالوا المعمودية من المؤمنين بيسوع. ولكن ما يذكرانه عن هذا الموضوع يختلف اختلافا كبيرا.
لم يكن الأطفال، في الكنيسة الأولى، يجري تعميدهم، بل الراشدون بعد أن يكونوا قد آمنوا بالمسيح. أما بولس، فقد كانت المعمودية بالنسبة إليه حدثا طقسيا بالغ الأهمية، وليس عملا رمزيا فحسب. فهناك شيء ما يحدث حقيقة عندما يخضع المرء للمعمودية. كان الشخص المعمَّد يتحد مع المسيح في موته اتحادا غير ظاهر.
ولقد طور بولس هذه الفكرة تطورا حذرا في رسالته إلى أهل رومية. والفكرة الأساسية تتميز ببعد رؤوي(apocalyptic). فالعالم يحوي بين جنباته قوىً للشر اتخذت من البشر عبيدا صارفة إياهم عن الله، والخطيئة من بين هذه القوى. فالخطيئة إذن قوة شيطانية، وليست مجرد أمرا سيئا تجترحه. وكل إنسان مستعبد لهذه القوة، وهو ما يعني أننا جميعا معزولون عن الرب انعزالا لا سبيل تقريبا إلى الفكاك منه. والموت هو السبيل الوحيد للهروب من هذه القوة. ولهذا مات المسيح، أي لكي يحرر الناس من قوة الخطيئة. ولكي يهرب الإنسان من الخطيئة، بدوره، ينبغي عليه أن يرافق المسيح في موته. وهذه الرفقة تقع عندما يخضع المرء للمعمودية. فعبر وضع المؤمن تحت الماء(كانت الكنائس البولسية تمارس الغمر الكامل بالماء)، يتحد بالمسيح في موته، ولأنه وضع في القبر ، وكما وضع في القبر، كان كذلك موته موتا لقوى الشر التي بسطت سيطرتها على العالم. فمن خضع للعماد من البشر، لم يعد خاضعا بالعبودية لقوة الخطيئة وإنما «مات مع المسيح»(رومية 6 : 1 – 6 ).
ولقد كان بولس مصرًّا، رغم ما سبق ذكره، على أن الذين قد ماتوا مع المسيح من الناس «لم يقوموا معه من بين الأموات». فأتباع يسوع سوف يقومون من بين الأموات مع المسيح فقط حينما سيعود المسيح من السماء في مجده. فقيامة الأجساد من ثم ستكون حقيقة واقعة. فهؤلاء الذين ماتوا بالفعل في المسيح سيُحْيَوْن، وأما من كانوا ما يزالون أحياء عند هذه اللحظة فسيشهدون تجربة التحول المجيد لأجسادهم والتي سيتحول خلالها هذا الهيكل الفاني إلى آخر، غير فاني، ولا خاضع لآلام الحياة أو لإمكانية الموت.
ومتى تحدث بولس عن قيامة الأموات مع المسيح، فهو يعني دائما حادثا مستقبليا (أنظر، لا على سبيل الحصر، الإصحاح 6 من الرسالة لرومية والإصحاح 15 من الرسالة إلى أهل كورينثوس). إلا أن البعض من المعتنقين للمسيحية داخل الكنائس التي أقامها بولس كان لهم رأي آخر، فقد كانوا يعتقدون أنهم قد شهدوا بالفعل نوعا من القيامة الروحية مع المسيح وأنهم كانوا بالفعل «يحكمون» مع المسيح في السماء. وهذه هي الرؤية التي قاومها بولس مقاومة لا هوادة فيها في رسالته الأولى إلى أهل كورينثوس والتي تأتي فحواها المحورية وذروتها عند نهاية الرسالة حيث يشدد بولس على أن القيامة ليست شيئا مشهود بالفعل بل شيء سيشهده الناس مستقبلا لم يأت بعد، قيامة جسدية حقيقية، مستقبلية، ومادية، وليست قيامة روحية وقعت في الماضي(1 كورينثوس 15 ). وبولس أكثر إلحاحا وتأكيدا في العددين 5 و 8 من الإصحاح السادس من الرسالة إلى رومية على أن من خضعوا للمعمودية قد ماتوا حقا مع المسيح، لكنهم لم يقوموا معه من بين الأموات( لاحظ استعماله للـ«سين» التي تعبر عن الزمن المستقبل):
لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ (فسـ)نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ...فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ الْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنَّنَا (سَـ)نَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ.
أما الرسالتان إلى أهل كولوسي وإلى أهل أفسس، فكلاهما لا يتفق مع هذا الطرح. فهاكم ما يقوله مؤلف الرسالة إلى أهل كولوسي عن القضية ذاتها:
مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا اقِمْتُمْ ايْضاً مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي اقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. (كولوسي، 2 : 12 )
القارئ العابر ربما لن يكتشف كثير اختلاف بين هاتين الرؤيتين: فكلا المؤلفين، في نهاية المطاف، يتحدثان عن الموت وعن القيامة مع المسيح. لكن الدقة كانت أمرا بالغ الأهمية من وجهة نظر بولس. الموت مع المسيح حدث في الزمان الماضي، لكن القيامة معه لم تكن بالأمر الذي وقع في الماضي على الإطلاق. لقد كانت حدثا مستقبليا. ولقد خصص بولس نصيبا كبيرا من رسالته الأولى إلى أهل كورينثوس للدفاع عن هذه القضية، وذلك تحديدا لأن بعض المؤمنين حديثا قد فهموا هذه القضية فهما خاطئا تماما وهو الأمر الذي بات لأجله منزعجا تمام الانزعاج. ومع ذلك فقد انحازت الرسالة إلى أهل كولوسي تمام الانحياز لوجهة النظر التي كتب بولس رسالته الأولى إلى أهل كورينثوس لمقاومتها.
والرسالة إلى أهل أفسوس هي أكثر تأكيدا في هذا الباب عما تجده في الرسالة إلى كولوسي. ففي معرض حديث المؤلف عن القيامة الماضوية ذات الطبيعة الروحية، يقول، متناقضا مع وجهة النظر البولسية:«وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ - بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ- وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ»(2 : 5 – 6 ). كل ما ذكره هنا قد وقع بالفعل. فالمؤمنون بالفعل يحكمون الآن مع المسيح. وهذا عينه ما فهمه البعض من المؤمنين الجدد من أهل كورينثوس و معهم مؤلفا الرسالتين إلى شعبي كولوسي وأفسس، والذان هما كذلك عضوان في الكنائس التي أنشأها بولس، فهما خاطئا.
هناك كذلك نقاط أخرى أساسية تختلف حولها الرسالتان إلى كولوسي وأفسس مع بولس التاريخي، بما في ذلك الاختلاف من ناحية الكلمات المستعملة والاختلافات في الكيفية التي تستعمل فيها بعض المفردات الشائعة الاستعمال عند بولس في هاتين الرسالتين. لكن قصدي هو أن أنشئ على الأقل وعيا بالأسباب التي أدت بغالبية علماء النقد إلى التشكيك في كون بولس هو من كتب أيا من هاتين الرسالتين. فهاتان الرسالتان، مثلهما في ذلك مثل الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي، يبدو عليهما أنهما قد كتبتا بعد وفاة بولس(بعد موته بعقد أو عقدين) بيد مؤلفين كانا عضوين في الكنائس البولسية أرادا أن يتوجها إلى المجتمع المسيحي وأن يواجها المشكلات التي طرأت فيه منذ وفاة بولس. ولقد أنجزا ذلك عبر الادعاء بأنهما الرسول نفسه استغفالا منهما لجمهور القراء.
الرسائل الرعوية
هناك قدر أقل من النزاع بين العلماء فيما يتعلق بالرسائل الرعوية، الأولى والثانية إلى تيموثاوس و الرسالة إلى تيطس،مقارنة بالنزاع الحاصل في حالتي الرسالتين إلى شعبي كولوسي وأفسس. ففي أوساط علماء النقد ممن يحاضرون في جامعات أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة وأوروبا الغربية، وهي المناطق الرائدة في ميدان الدراسات الكتابية، انعقد الإجماع لسنوات كثيرة على أن بولس لم يكتب هذه الكتب.
وأما أصل التسمية بالرسائل «الرعوية» فلأن «بولس» يبذل في هذه الرسائل النصح لتيموثاوس وتيطس، الذين يزعم أنهما كانا راعيي أبرشيات في أفسس وجزيرة كريت، في شأن السبيل الذي ينبغي عليهما أن يسلكاه لأداء مهامهما الرعوية في الكنائس التي تحت أيديهما. والكتب الثلاثة تغص بالنصائح الرعوية حول مثل هذه القضايا مثل الحديث عن الكيفية التي ينبغي أن يدير بها هذان التابعان لبولس الكنائس بشدة وبحزم وكيف أنه لزاما عليهما أن يفرضا سيطرتيهما على المعلمين الكذبة وأن يختارا للكنيسة قادة مناسبين.
فهل من الممكن أن يكون بولس هو كاتب هذه الرسائل؟ من الناحية الافتراضية لا مانع من ذلك، لكن الدفوع التي تنفي قيامه بهذا تبدو مقنعة على نحو حاسم لغالبية العلماء.
من المتفق عليه عموما أن الرسائل الثلاث مصدرها شخص واحد. فحينما تقرأ الرسالة الأولى إلى تيموثاوس والرسالة إلى تيطس، فستشعر أن هذا واضح وضوح الشمس في رائعة النهار: فكلاهما يتعاملان مع كثير من القضايا عينها، وغالبا ما يستعملان اللغة نفسها أو لغة مشابهة لها. فالرسالة الثانية إلى تيموثاوس تختلف في كثير من الأمور، لكنك إن تقارن بين السطور الافتتاحية فيها مع السطور الافتتاحية للرسالة الأولى إلى تيموثاوس، تجدها، كذلك، تبدو متطابقة تقريبا.
أما كون بولس ليس هو المؤلف ذاته فهذا من الوضوح بمكان بالنسبة لبعض العلماء وذلك اعتمادا على مفردات الرسائل وأسلوب كتابتها. هناك 848 كلمة يونانية مختلفة استعملت في هذه الرسائل، منها 306 كلمة لم تستعمل ولو لمرة واحدة في الرسائل التي تنسب افتراضا لبولس داخل العهد الجديد( بما في ذلك حتى الرسائل: الثانية لأهل تسالونيكي، والرسالتان إلى شعبي أفسس و كولوسي). ويعني هذا أن ما يزيد عن ثلث الكلمات المستعملة فيها ليست كلمات بولسية. ورقم قريب من ثلثي هذه الكلمات غير البولسية هي كلمات كانت تستعمل عادة في كتابات المؤلفين المسيحيين في القرن الثاني الميلادي. يعني هذا أن المفردات المستعملة في هذه الرسائل أكثر تطورا وذات ملامح أكثر تميزا للمسيحية على الحال التي تطورت إليها في أزمنة أحدث.
بعض الكلمات المهمة التي يستعملها هذا المؤلف هي نفسها تلك الكلمات التي يستعملها بولس، لكنا صاحبنا هذا يستخدمها استخدامات مختلفة. خذ كلمة «إيمان» على سبيل المثال. كانت مفردة «إيمان» عند بولس تعني أن يقبل المرء موت المسيح قبولا مبني على الثقة حتى يتبرر أمام الله. وهو إذن مصطلح علائقي يعني شيئا قريبا من كلمة «الثقة». أما في الرسائل الرعوية، فتعني هذه الكلمة شيئا مغايرا: إنها مجموعة العقائد والأفكار التي تتشكل منها الديانة المسيحية(تيطس 1 : 13 ). إنها هنا ليست مصطلحا علائقيا، وإنما مصطلح يحدد مجموعة من التعاليم المسيحية، أو محتوى ما ينبغي الإيمان به- والذي يعبر عن الكيفية التي يصير إليها استعمال المصطلح في السياقات المسيحية الأحدث زمانيا. ومن هنا، فهذا مثال يوضح أن الرسائل الرعوية نشأت فيما يبدو من إطار غير بولسي ينتمي لعصر تال لعصر بولس.
عندما يحاول المرء أن يقرر ما إذا كان مؤلف معين قد كتب كتابا معينا، فمن المعروف أن الحجج المبنية على نوعية الكلمات المستخدمة هي حجج خادعة: فالناس تستعمل الكلمات المختلفة في الظروف المختلفة. لكن في حالتنا هذه تبدو الفروق كبيرة بعض الشيء. ومع ذلك، فهناك حجة أكثر إقناعا وهي تنبع من حقيقة أن وضع الكنيسة الذي تفترضه الرسائل الرعوية برمته هو وضع يختلف فيما يبدو اختلافا بيِّنًا عما نعلمه عن الكنيسة في عصر بولس.
لدينا فكرة جيدة عن أوضاع الكنائس البولسية نستقيها من بعض الرسائل مثل الرسالتين الأولى والثانية إلى أهل كورينثوس واللتين يناقش فيهما بولس أعمال كنائسه الداخلية وكيف جرى تنظيمها وبناؤها، وكيف كانت تدار. لكن الأمور تتغير تغيرا حادًّا حينما نصل إلى عصر تدوين الرسائل الرعوية.
لم تكن الكنائس البولسية مبنية على النظام الهرمي. فلم يكن هناك قائد أو مجموعة من القادة المسئولين عن تدبير شئون الكنيسة. بل كان هناك بالأحرى مجتمعات من المؤمنين كانت تدار عبر الروح القدس العامل في كل فرد من أفراد الكنيسة.
ولعله من المهم جدا أن نتذكر أن بولس كان رؤويا على نحو شامل في آرائه. فقد كان يؤمن أن قيامة المسيح قد ألمحت إلى قرب وقوع نهاية الزمان. وأن هذه النهاية ستحل في أي يوم وذلك عند عودة المسيح من السماء؛ وحينها سيقام الموتى من رقادهم وستتحول أجساد الأحياء من المؤمنين إلى أجساد أخرى غير فانية، وهكذا سيحيا المؤمنون إلى الأبد في المملكة المستقبلية.
وماذا كان ليحدث في غضون ذلك، بينما يجلس المؤمنون في انتظار الرب القادم؟ كان عليهم أن يلتقوا معا في جماعات للعبادة وللتثقيف وللتعلم وطلبا للعون المشترك. وكيف كان على هذه المجتمعات أن تنظم نفسها؟ كان بولس يعتقد أن الله نفسه نظم هذه الكنائس عبر الروح القدس؛ وهذا الأمر قد شرح في الرسالة الأولى إلى كورينثوس، الأعداد 12 – 14 . حينما كان يجري تعميد الناس للدخول في الكنيسة المسيحية، لم يقتصر الأمر على كونهم قد «ماتوا مع المسيح»، بل تعداه إلى أن منحوا موهبة الروح القدس، الذي يمثل الحضور الإلهي هنا على الأرض قبل حلول النهاية. فكل إنسان حتى هذه النقطة يكون قد تلقى نوعا ما من «الموهبة الروحية» التي بمقدوره أن يستعملها لمد يد العون إلى الآخرين داخل الكنيسة. فبعض الناس أعطي موهبة المعرفة، والبعض الآخر موهبة التعليم، والبعض الثالث موهبة العطاء، والرابع موهبة التحدث بالنبوءات التي يتلقاها من الرب، والبعض الخامس يعطي إعلانات إلهامية مصاغة بلغات أجنبية أو سماوية غير مفهومة لدى الجميع (وهو ما يعرف بـ«التكلم بالألسنة»)، وآخرون يفسرون هذه الإعلانات(أو ما يعرف بـ«تفسير الألسنة»). هذه المواهب كان المقصود منها أن تكون في مصلحة الجميع حتى يكون بمقدور جماعة المؤمنين أن تعمل في سلام وتناغم في هذه الأيام الأخيرة التي تسبق النهاية.
ومع ذلك، فكثيرا ما سارت الرياح على غير ما تشتهي السفن في كنيسة كورينثوس على سبيل المثال. لقد كان الأمر فيها، في حقيقة الأمر، أشبه بالفوضى العارمة. فلقد زعم بعض «القادة» الروحيون أنهم أعطوا موهبة روحية أكثر مما أعطي البعض الآخر وحصلوا لأنفسهم على مجموعة خالصة من الأتباع، الأمر الذي أدى إلى حدوث انشقاقات داخل الكنيسة. ولقد خرجت هذه الانشقاقات عن السيطرة خروجا تاما: فبعض أفراد الكنيسة سحبوا البعض الآخر إلى ساحة القضاء مخضعين إياهم للمحاكمات. وكان ثمة انحرافات لا أخلاقية: فبعض الرجال داخل الكنيسة كانوا يترددون على العاهرات ويتفاخرون بذلك داخل أروقة الكنيسة؛ وكان ثمة رجل يرتكب مع زوجة أبيه الفاحشة. وكانت أمور الخدمة داخل الكنيسة كارثة خالصة، فلقد قرر «الأكثر روحانية» بين أهل كورينثوس أن علامة الروحانية التي لا مراء فيها هي القدرة على التكلم بالألسنة وهكذا كانوا يتنافسون الواحد مع صاحبه أثناء الصلاة ليروا أيهما سيفعل ذلك بصوت أعلى صخبا وأكثر مرات من الآخرين. وفي أثناء وجبة العشاء الإلهي الأسبوعية، وقد كانت وجبة حقيقية وليس رقاقة حلوى أو رشفة نبيذ، كان بعض أفراد الكنيسة يأتون مبكرا ويلتهمون من الطعام ما يصيبهم بالتخمة ثم يسكرون، أما الآخرون ممن كان لزاما عليهم أن يَصِلُوا للكنيسة في وقت متأخر(كانوا من الطبقات الدنيا و العبيد ممن كان على الأرجح ملزمين بقضاء ساعات عمل أطول) وأن لا يجدوا من الطعام والشراب ما يتناولونه. بعض أعضاء الكنيسة كانوا على قناعة تامة بتفوقهم الروحي لدرجة أنهم ادعوا أنهم قاموا بالفعل مع المسيح من بين الأموات وأنهم يسيرون أمور الحكم معه في الأماكن السماوية(وهو الأمر المشابه لما ادعاه في وقت تلى هذه اللحظة بسنوات طويلة مؤلف الرسالة إلى أهل أفسس).
يتعامل بولس مع هذه المشكلات التي تمور بها الكنيسة مورا عبر توجهه بخطابه إلى الكنيسة بمعناها الأوسع ملتمسا من أعضائها جميعا أن يغيروا سلوكياتهم. لماذا لم يختص أسقف الكنيسة بحديثه، أو حتى القسيس المسئول؟ لماذا لا يكتب رسالة إلى رأس الكنيسة ليأمره أن يوحد صفوف كنيسته؟ لأنه لم يكن ثمة قائد مطلق للكنيسة. لم يكن هناك أساقفة أو رؤساء قساوسة. في كنائس بولس، التي ازدهرت في الوقت الفاصل بين قيامة المسيح وقيامة المؤمنين، كانت الكنيسة تدار بمعرفة روح الله العامل عبر كل أفراد الكنيسة.[3]
ماذا سيحدث حينما لا يكون هناك هيئة كهنوتية منظمة تنظيما هرميا تمثل الكنيسة رسميا، وحينما لا يكون هناك زعماء معيَّنين، وحينما لا يكون ثمة أحد يتولى المسئولية على عاتقه؟ سيحدث ما حدث بالفعل في كنيسة الكورينثيين. فوضى عارمة ذات امتداد كبير. وكيف يمكننا السيطرة على مثل هذه الفوضى؟ يحتاج شخص من الأشخاص أن يتقدم ليتحمل المسئولية. بمرور الوقت، حدث هذا بالفعل داخل الكنائس التي أسسها بولس. فبعد أن توارى عن مسرح الأحداث، قدرت كنائسه نوع الهيكل الإداري الذي كنت ستقدره حيث يحتل أحد الأشخاص موقع الصدارة، شخص يكون مخولا بإصدار الأوامر، شخص لديه تحت سلطانه قادة آخرين جرى تعيينهم في هذه المناصب لكي يضمنوا أن تظلل الجميع روح التعاون، ولكي يتيقنوا أن التعاليم الصحيحة، والتعاليم الصحيحة وحدها، هي التي يبشر بها داخل الكنيسة، ولكي يهذبوا كل من سار سلوكياته على غير السبيل السويّ.
لم يكن المرء ليجد هذا النوع من الهياكل الإدارية في عصر بولس. لكنه حتما سيجده في الرسائل الرعوية. فلدينا رسائل موجهة للقساوسة الرؤساء داخل الكنائس في اثنين من المجتمعات التي أقامهما بولس. هذه الرسائل توجه إرشادات تعين على إقناع المعلمين الكذبة بالخضوع؛ وتعطي توجيهات لتعيين الأساقفة الذين كانوا مسئولين بوضوح عن الإشراف الروحي على الكنيسة، وكذا الشمامسة الذين كانت مسئولياتهم محصورة في الإشراف على شئون الصدقات والاعتناء بالحاجات المادية للمجتمع؛ كما تصدر تحذيرات بشأن الكيفية التي ينبغي أن يضبط بها الشعب سلوكياته في مختلف الظروف الاجتماعية( سواء أكانوا أزواج، أو زوجات، أباء أم أولاد، سادة أم عبيد) وذلك بغية أن تتوفر لدى الكنيسة القدرة على البقاء لسنوات طويلة.
بالنسبة لبولس، في الجانب الآخر، لم تكن الكنيسة مقدر لها أن تبقى لسنوات طويلة. فقد كان يؤمن بأن النهاية قريبة جدا. لكن النهاية لم تأت، وأصبح لزاما على الكنائس التابعة له أن تخضع لنظام حتى تستطيع البقاء. وهذا ما حدث بالفعل: أنشئ للكنيسة نظام، وكتبت الرسائل الرعوية في ظل هذه المعطيات الجديدة، وربما حدث ذلك بعد موت بولس بعقد أو عقدين من الزمان. في الظروف الجديدة، كتبت الرسالات الثلاث بمعرفة مؤلف ما زعم أنه هو نفسه بولس لكي يضمن لرسالته السلطان الذي تتمتع به كتابات بولس في نفوس المؤمنين. لكن فحوى رسالته لم يكن بولسي على الإطلاق. فبولس عاش في زمان وفي عصر مختلفين.
من كتب الكتب الأخرى داخل العهد الجديد؟
كثير مما قيل فيما سبق يمكن أن ينطبق كذلك على الكتب الأخرى داخل العهد الجديد. فبعضها مجهول المؤلف، وأعني تحديدا الرسالة إلى العبرانيين والكتب التي تعرف برسائل يوحنا الأولى والثانية والثالثة. ليس هناك أي سبب، كما أدرك ذلك بالفعل الكثير من مؤلفي الكنيسة، للاعتقاد بأن بولس هو من كتب الرسالة إلى العبرانيين، لكنها ضُمَّت في نهاية المطاف إلى القائمة الرسمية لأسفار الكتاب المقدس بمعرفة آباء الكنيسة الذين دافعوا عن صحة نسبتها إلى بولس. لكن أسلوب الكتابة، في حقيقة الأمر، مختلف تمام الاختلاف عن أسلوب بولس؛ كما أن القضايا الأساسية التي أهتمت ببيانها الرسالة غائبة تماما عن رسائل بولس الأخرى، وكذا طريقة مؤلفها في الاستدلال ليست أبدا مشابهة لطريقة بولس. ولماذا أصلا يظن ظانٌّ أن بولس هو مؤلفها؟ فعلى العكس من كتاباته الشخصية، كاتب هذه الرسالة أمسك عن التصريح باسمه.
وكذا ما يعرف برسائل يوحنا، لا تدعي هي الأخرى أن يوحنا هو مؤلفها؛ فالرسالتان الثانية والثالثة كتبتا بيد إنسان يطلق على نفسه لقب «الشيخ»، فيما لا يذكر مؤلف الرسالة الأولى أي شئ عن نفسه. فالمؤلف من المحتمل جدا أن يكون أي رئيس من رؤساء الكنيسة في نهاية القرن الأول الميلادي تقريبا.
وهناك كتابات أخرى يجمع مؤلفيها تشابهٌ في الأسماء(homonymous) مع شخصيات أخرى دينية. فمؤلف رسالة يعقوب لا يزعم أنه «يعقوب» معين على وجه الحصر، ناهيك عن يعقوب الذي تعرفه التقاليد الأخرى باعتباره أخا ليسوع. أما رسالة يهوذا، ففيها زعم بأن كاتبها هو يهوذا «أخو يعقوب». وهكذا فيمكن ترجمة تلك الإشارة على أنها زعم منه بأنه أخو يسوع، وذلك لأن اثنين من أخوة يسوع، وفقا لإنجيل مرقس، كانا يسميان يعقوب ويهوذا. لكن الغرابة في هذا المسلك تنبع من أنه إذا كان يريد أن يظن الناس أنه أخو يسوع لكي يحصل لكتابه على سلطان أكبر في نفوس المؤمنين، فلن يخرج عليهم ليقول ما قال. وكلا الاسمين، يعقوب ويهوذا، كانا أسماء شائعة الاستعمال في العصور اليهودية القديمة وداخل الكنيسة المسيحية. وقد زعم مسيحيون من أزمنة تالية ممن كانوا منهمكين في رسم حدود القائمة الرسمية لأسفار الكتاب المقدس أن هذين الاثنين هما قريبا يسوع، لكن الرجلين نفسيهما لم يدعيا هذا مطلقا.
كذلك من الصعب أن يصدق المرء أن هذه الرسائل قد كتبها ريفيان ينتميان إلى الطبقة الدنيا ويتحدثان اللغة الآرامية ينحدران من الجليل(أخوهما الأكثر منهما شهرة لم تعرف عنه إجادته للكتابة، ناهيك عن تأليف مقال بالغ التعقيد باللغة اليونانية). حجتنا هنا هي نفسها التي سقناها من قبل في شأن إنجيل يوحنا: فمن الناحية النظرية، من الجائز أن أخوي يسوع - وهما الذان نشأا في المناطق النائية من ريف الجليل، ويعملان بأيديهما من أجل الحصول على لقمة العيش، واللذان لم يكن لديهما أبدا لا الوقت ولا المال اللازمان للحصول على قسط من التعليم- قد قررا أن يتعلما اللغة اليونانية في وقت متأخر من حياتهما وأن يحصلا على دورات في تعلم الصياغة الأدبية، وذلك حتى يكون بمقدورهما أن يكتبا هذه الكتب التي تتسم بعلو بلاغتها وتعقيدها النسبي. لكن هذا إلى حد ما يبدو بعيد الاحتمال.
والفكرة ذاتها تصدق تماما على رسالتي بطرس الأولى والثانية. لكن هذين الكتابين، شأنهما في ذلك شأن الرسائل البولسية الثانوية(الرسالة الثانية إلى تسالونيكي والرسالة إلى أهل كولوسي والرسالة إلى أهل أفسس) والرسائل الرعوية، يزعمان بالفعل أنهما قد كتبا بيد شخص لم يكتبهما. فالكتابان منسوبان زورا بكل ما يعنيه هذا المصطلح من معنى: فكلاهما مزوران على ما يبدو.
لكن الأمر الذي لا خلاف حوله هو أن كاتب رسالة بطرس الثانية، أيًّا ما تكن حقيقة شخصيته، ليس هو من كتب الرسالة الأولى: فبين أسلوبي الكتابة في الرسالتين بون شاسع. ولقد ظهر بالفعل في الكنيسة في عصورها الأولى من بين العلماء المسيحيين من حاول إثبات أن بطرس لم يكتب الرسالة الثانية. والنزاع حول هذا الأمر في أيامنا هذه هو أقل منه فيما يتعلق بالرسائل الرعوية. إن الكتاب المسمى بـ«رسالة بطرس الثانية» كتبه بعد وقت طويل من وفاة بطرس شخص ما أزعجه أن يرى بعض الناس ينكرون اقتراب حلول نهاية الزمان (بوسع المرء أن يتفهم وجهة نظر هؤلاء المتشككين كلما مرت السنين)؛ وقد أراد هذا المؤلف أن يحرر هؤلاء الناس من مفاهيمهم الباطلة، وقد فعل ذلك عبر الزعم بأنه ليس سوى سمعان بطرس، اليد اليمنى ليسوع.
أما الكتاب المعروف باسم «رسالة بطرس الأولى» فسخونة النزاع حوله بين العلماء هي أشدُّ أوارا منها في شأن رسالته الثانية. لكن مرة أخرى أقول: كيف لصياد بسيط الحال ينحدر من ريف الجليل أن يطور مهاراته بغتةً في الصياغة الأدبية باللغة اليونانية؟ يدافع البعض أحيانا بقولهم إن بطرس قد استأجر شخصا آخر ليكتب الرسالة بدلا منه، ربما سيلفانوس، على سبيل المثال، الذي ورد اسمه في الرسالة (5 : 12 ). لكن الرسالة ذاتها لا تنطق بهذا. ولو كان شخص آخر هو من كتب الرسالة، ألا يمكن أن يكون هو، وليس بطرس، المؤلف الحقيقي؟ إن الاستخدام الذي تبدو عليه سيماء الحنكة للعهد القديم في هذا الكتاب تفترض أنه مهما يكن من ألفه، فهو حاصل على تعليم عال ومتمرس بعكس سمعان بطرس. ومن الجدير بالذكر أننا نمتلك عددا كبيرا من الكتب التي يعود تاريخها إلى زمان المسيحية الأولى وتدعي أن بطرس هو مؤلفها فيما ليس له بها أي علاقة- لدينا، لا على سبيل الحصر، إنجيل بطرس ورسالة بطرس إلى يعقوب، والعديد من «أعمال»(Acts) بطرس، وثلاثة أسفار رؤوية مختلفة تنسب لبطرس. لقد كان تزوير الكتب ونسبتها إلى بولس صناعة منزلية رائجة.
الخاتمة: من كتب الكتاب المقدس؟
أعود الآن لسؤالي الأصلي: من كتاب الكتاب المقدس؟ من بين سبعة وعشرين كتابا يتكون منها العهد الجديد، لدينا ثمانية كتب فحسب نحن على يقين تام من أنها كتبت بيد مؤلفيها الذين تنسب هذه الكتب إليهم عبر التقليد: إنها رسائل بولس السبع غير المتنازع عليها ورؤيا يوحنا، والتي يمكن أن نصنفها ضمن الكتابات مجهولة المؤلف، وذلك لأنها لم تزعم أنها كتبت بيد «يوحنا» محدد؛ وهذا قد اعترف به حتى بعض كتَّاب الكنيسة الأولى.
إن ما سردته من آراء حول مؤلفي أسفار العهد الجديد لا يحسب ضمن الآراء المتطرفة داخل الدوائر العلمية. ولا شك أن ثمة نزاعات بين العلماء حول هذا الكتاب أو ذاك. فقد تجد بعض العلماء المنحكين يعتقدون أن بولس كتب الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي، أو أن يعقوب أخا يسوع كتب رسالة يعقوب، أو أن بطرس هو مؤلف رسالته الأولى. لكنَّ غالبية علماء النقد قد ساورتهم الشكوك طويلا حول نسبة هذه الكتب، ويكاد ألا يكون هناك أي نزاع حول بعض أسفار العهد الجديد، مثل الرسالة الأولى إلى تيموثاوس ورسالة بطرس الثانية. فهذان الكتابان لم يكتبهما مؤلفاهما المفترضان.
لقد ثارت الشكوك حول تأليف الكتابات التي أصبحت جزءًا من القائمة الرسمية لأسفار الكتاب المقدس في عصر الكنيسة الأولى، ولكن العلماء في العصور الحديثة والتي تبدأ من القرن التاسع عشر قد زادوا الحجج الأصلية قوة باستدلالاتهم المقنعة. وحتى في يومنا هذا ينفر الكثير من العلماء من مجرد تسمية الوثائق المزورة التي يشتمل عليها العهد الجديد بالكتابات المزورة- فما نتحدث عنه هنا، في نهاية المطاف، هو الكتاب «المقدس». لكن الحقيقة هي أنه مهما يكن تعريفك لمصطلح «التزوير»، فهو ينطبق على هذه الكتابات. لقد كتبت أعداد كبيرة من الكتب في عصر الكنيسة الأولى بمعرفة مؤلفين ادعوا زورا أنهم رسل المسيح لكي يغرروا بقرائهم فيقبلوا كتبهم والآراء التي كانوا يمثلونها.
هذا الرأي الذي يشتمل على القول بأن العهد الجديد يحوي بين جلدتيه كتبا ألفت بأسماء غير حقيقية يجري تدريسه في كل مؤسسات التعليم العالي الرئيسة تقريبا باستثناء المدارس الإنجيلية في العالم الغربي. إنها وجهة النظر التي يجري تعليمها في كل مناهج التدريس الأساسية لمادة العهد الجديد والتي تشرح في هذه المؤسسات. إنها الرؤية التي تدرس في المعاهد اللاهوتية والمدارس الدينية. إنها المادة العلمية التي يدرسها القساوسة عندما يجري تأهيلهم من أجل الخدمة في الكنيسة.
ولماذا لا ينتشر العلم بهذا الأمر على نطاق أوسع؟ ولماذا لا يعرف ذلك الفرد القابع على مقاعد إحدى مقصورات الكنيسة، ناهيك عن الأشخاص العاديين في الشارع، شيئا عن هذا؟ لا شك أن تخمينك للإجابة صحيح مثلما هو تخميني لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاهن الأبرشية الكاثوليكية الوحيد في قطاع غزة يدعو إلى وقف إط


.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع




.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية


.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-




.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها