الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتابة التاريخ على الطريقة الأرخميدسية

جعفر المظفر

2017 / 1 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كتابة التاريخ على الطريقة الأرخميدسية
جعفر المظفر.
بعض أخطاء الكتابات التاريخية أنها تٌسقط المثال والنموذج على الواقع المتصف بإستثنائياته وبطريقة أكاديمية تتخطى حدود التوصيف وطرق الإستنتاج وكأننا نتصدى لدراسة ظاهرة طبيعية عُرِفت تماما قوانينها وأسبابها وتمظهراتها , حيث منهج الدراسة ووسائلها وآلياتها معروفة وجاهزة بحيث يتحول الكاتب إلى راوية بدلا من باحث, وإلى ناقِل بدلا من صاقِل.
إن دور الباحث يجب ان يتقدم كثيرا على دور الراوية, ولعل من أهم صفاته التهيؤ للحظة الإكتشاف على الطريقة الأرخميدسية. صرخة أرخميدس ما زالت تدوي في رؤوسنا. إنها دهشة الإكتشاف في عقل رجل لم يكن مصابا بمرض الأستاذية. وزن الجسم يعادل وزن الماء المزاح, قانون بسيط بإمكان طفل أن يفهمه في لحظات. لم يكتشف أرخميدس قانونه, المعقد جدا قبل لحظة الإكتشاف, والبسيط جدا بعدها, في مختبره المكتظ بالأجهزة العلمية بل كان توصل إليه وهو يجلس في حوض إستحمامه. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يضع فيها أرخميدس جسده في حوض الماء, كما ولم تكن تلك أيضا مرَّتَه الأولى وهو يتفرج على منظر الماء الذي بدأ يتسرب من حوض السباحة. لكن أرخميدس كان يسبح وقتها في مائَيْن, ماء أفكاره وماء حمامه, وفي لحظة التلاقي بين ماء الأفكار وماء الحمام ولدت اللحظة الفاعلة.
والتاريخ تكتبه في العادة اللحظات الفاعلة لا اللحظات السياقية الهادئة, تكتبه الصيحة التي تلي تأمل اللاهث للمعرفة, الذي يعتقد أن مختبره ليس وقفا على تلك الغرفة المجهزة بآلات البحث وإنما هو يمتد ليشمل غرفة نومه ومعيشته وطعامه وحمامه, فإذا به يكتشف في حوض إستحمامه ما كان قد عجز عن إكتشافه في حوض مختبره.
ومثل أرخميدس إكتشف نيوتن قوانين الجاذبية وهو يجلس متأملا تحت ظل شجرة تفاح, أما التفاحة التي سقطت على رأسه حينها فلم تكن شاردة عن المشهد بل شاردة إليه, حتى كأنها ما سقطت في تلك اللحظة إلا لأنها تريد أن تساعده على إنجاز لحظة الولادة, أو لعلها لم تسقط إلا لأنها شعرت أن هناك قوة كهرومغناطيسية في عقل نيوتن دعتها إلى السقوط لكي تشاركه لحظة الإكتشاف.
لكن لحظة الإكتشاف تلك لم تكن لحظة منفلتة عن سياق, أو أنها كانت منقطعة عن أيام العمل المختبري ولياليه, بل لعلها كانت هي اللحظة الفاعلة التي تجمع ما بين التأمل والأداة, ما بين مختبر أرخميدس وحوض إستحمامه, ما بين معمل نيوتن وشجرة التفاح, ما بين ساعات العمل وسويعات الإستراحة.
حتى في احلامه يتابع الباحث المكتشف مشروعه الإبداعي. وهو لن يبدع ما لم يكن ملتصقا في مشروعه كإلتصاق الجنين في رحم أمه وصولا إلى لحظة الولادة, تلك التي قد تحدث في أي مكان, في حمام سباحة او تحت شجرة تفاح, وليس في الضرورة أمام جهاز سونار أو عدسة مجهر.
والباحث الجيد كالمرأة الحامل, لا يرتاح إلا في ساعة الولادة بعد طول معاناة من ألم المخاض. وحدها لحظة الولادة تخلصه من ذلك الألم. وحدها لحظة النظر إلى وجه المولود تقنعه أن الألم لم يكن مجانيا. وحده التأكد من صحة المولود, إشراقته وسلامته البدنية, تجعله يشعر أن حجم الألم كان مجديا, وإن الألم من أجل الحصول على نتيجة مجدية هو جزء من تلك النتيجة وضمانة للوصول إليها.
تاريخنا السياسي بحاجة إلى باحثين بهذا الوصف. باحثون يقررون الكتابة, لا لأنهم يمتلكون قدرة الوصف وخاصية سرد الأحداث ومناعة وقوة الذاكرة, ولا لأنهم بحكم الإختصاص الأكاديمي أصبحوا مهنيا دون سواهم يمتلكون شرعية الأرخنة السياسية والفكرية, وإنما لأنهم يؤمنون بداية أن البحث في التاريخ وإكتشاف قوانينه هو علم وفن, وهو, شأنه شان العلوم الأخرى, بحاجة إلى مختبر باجهزة وأدوات لتفكيك وتركيب الحقائق بعد إسترجاعها, وغربلة ما تجمع بعد التفكيك للتخلص من العوالق والرواسب ثم إعادة تركيب ما تبقى بإنتظار صرخة الـ (وجدتها), تلك التي قد تنطلق في حوض إستحمام أو تحت شجرة تفاح أو إلى الجوار من جذع نخلة, في لحظة يتقن الباحث جيدا فن إكتشافها.
وإذا ما كان الباحث في الطب أو في الكيمياء أو في علم الفلك بحاجة إلى أداوات تشريح أو مجاهر أو شرائح فحص أو فراجيل او موازين فإن الباحث في التاريخ لا أظنه يعمل بدون تلك الأجهزة والأدوات, بل أراه يجمعها كلها في عقله وذاكرته وبصره, حتى يستطيع أن ينظر للحقائق مهما صغر حجمها ثم يقيس حركيتها وتأثيراتها في العمق قبل ان تنتج الحقائق التي تتحرك على الأرض, فتكون وظيفته إذ ذاك منصبة ليس على توصيف ما يتحرك على السطح بكل وضوح ودقة وإنما لوضع اليد على أسبابها وصولا إلى الصرخة الأرخميديسية.
تاريخنا السياسي والإجتماعي بحاجة إلى مكتشفين مثل بن خلدون, رحالة مثل بن بطوطة, ومنقبين مثل كريمر وطه باقر, ولحظات فاعلة مثل لحظات أرخميدس ونيوتن. هؤلاء كانوا قد واصلوا الليل بالنهار علما وإطلاعا وتنقيب من أجل الوصول إلى لحظة الصرخة الأرخميدسية.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكومة المصرية الجديدة تؤدي اليمين الدستورية | #عاجل


.. إسرائيل تعرض خطة لإدارة قطاع غزة بالتعاون مع عشائرَ محلية |




.. أصوات ديمقراطية تطالب الرئيس بايدن بالانسحاب من السباق الانت


.. انتهاء مهلة تسجيل أسماء المرشحين للجولة الثانية من الانتخابا




.. إيلي كوهين: الوقت قد حان لتدفيع لبنان الثمن كي تتمكن إسرائيل