الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول كتابة التاريخ العراقي السياسي المعاصر

جعفر المظفر

2017 / 1 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


حول كتابة تاريخ العراق السياسي المعاصر
جعفر المظفر
بعض الدراسات التي تناولت تاريخ العراق الحديث منذ تأسيس دولته الملكية في بداية العشرينات وحتى اللحظة الراهنة كانت حملت عقلية الرواة أكثر مما تحمل عقلية المكتشفين. كانت سردية ولم تكن بحثية. وكانت توصيفية لأحداث وظواهر على السطح ولم تكن تنقيبية عن جذور تلك الظواهر وأسبابها. كانت أحادية الرأي المتأسس على الميل السياسي ذا الإنتماء الفئوي وكأنها صحيفة أعمال لحزب أو فئة وليس تعبيرا عن رؤى متفحصة وأحكام مستنتجة, وكانت تقريرية وليست إستقرائية, وذات طابع وعظي وليست ذات طابع جدلي.
وحتى تلك التي كتبها متمردون على أحزابهم فقد كتبوها من واقع ردة الفعل المنفلتة عن روح النقد البناء وكأنها محاولة لجلد الذات والتقرب إلى الخصم والحصول على صك الغفران.
وإذ نحن نقر بأهمية كتابة السير الذاتية كوسيلة توثيق عن مرحلة, يصدرها شاهد من أهلها, فإننا نتطلع لأن تأتي تلك الشهادة موسومة بقدر اعلى من عمق التنقيب وروح الإكتشاف مستخدمة النص السردي لخدمة التحليل الذي يستهدف وضع اليد على الخطأ والعلة, إذ حتى على صعيد فن الرواية والقصة فإن التمَيُز يكمن في فحوى ومضمون الرسالة التي يريد الكاتب إيصالها من خلال الحدث والحوار, لأنه صاحب رسالة وليس مجرد حكواتي.
وحتى المنهج الأكاديمي في كتابة التاريخ, فهو, على الرغم من أهميته وجدواه, ذا تأثير سلبي إذا ما تم من خلاله إصطياد التاريخ ووضعه في جهاز فحص النتائج ذا الطبيعة القياسية, فالتاريخ ليس تلميذا في حضرة أساتذة يلقون عليه المواعظ وإنما هو المعلم الذي يوجب على الباحث أن يدخل إلى قاعته وهو يحمل كراس التلمذة مستنفرا كل عقله لفهم ما يقوله, ثم يُخضِع بعد ذلك ما يقوله للوصول إلى نتائج ستكون أكاديمية بعد أن يتم إكتشاف قوانينها ومغازيها, وليس قبل ذلك أبدا.
جميل ان تكون للباحث أدواته ومناهجه. فسر ماركس التاريخ طبقيا, وفسره فرويد جنسيا, وفسره بن خلدون إجتماعيا. كل ذلك عظيم على سبيل الإستكشاف لا على سبيل التقرير الذي كأنه ينتهي إلى إكتشاف سر الأسرار, فالتفسير الحصري سيكون أحادي المنهج والرؤيا, وهو صحيح بحدود كونه منهجا من المناهج, لا لكونه منهج المناهج. هذا الأخير هو الذي يجمع ويفاعل ما بين المناهج ويتفاعل مع التاريخ كمخلوق حي وليس كروبوت مبرمج, ففي التاريخ هناك غرائز بالمعنى الفرويدي, وهناك طبقات إجتماعية بالمعنى الماركسي, وهناك صراع حضري بدوي بالمعنى الخلدوني, وهناك صراع معرفي بالمعنى السقراطي, وآخر أخلاقي بالمعنى الإفلاطوني, وآخر ديني بالمعني النبوي.
كل هذه المناهج يجب ان تكون حاضرة ليس على شكل خلطة سحرية وإنما بمعنى التهيؤ لتفسير اللحظة على ضوء تفضيل رؤيا منها على غيرها تبعا لظرف وقيم كل مرحلة, على أن يكون الباحث جاهزا لإقتناص لحظته الفاعلة التي يمكن من خلالها إيجاد تفسير ذا خصوصية عالية يتأسس على حقيقة أن لكل مجتمع ظروفه الخاصة التي تحتم على الكاتب أن يجد لها مكانا في مساحة التأسيس للتفسير والإستنتاج.
لا عيب في دراسة التاريخ أكاديميا وإنما العيب هو في الإعتقاد أن بإمكان التاريخ ان يكون أكاديمي النزعة. أكاديمية الدراسة توعز لنا بجدوى سمو مهنية البحث وحياديته على الإسقاط الذهنية الشخصية. إن وجوب أن تكون للمفكر رؤيا تحتم عليه أن لاتكون حياديته مجرد سردية روائية تتقدم فيها ذاتية الحدث على ذات الباحث أو تتدخل ذات الباحث بالطريقة التي تلغي إستقلالية الحدث وحركيته الداخلية المستقلة لصالح ذات الكاتب التي لا ترى الحدث كما حدث وإنما كما كان يجب ان يحدث في مخيلته.
إن الطريق إلى العالمية هو أن تذهب إلى باريس من خان الخليلي وإلى نيويورك من درابين الحيدرخانة وإلى جنيف من سوق الحمدية وإلى موسكو من البتاوين, ولا تسلك الدرب المعاكس فتسقط بذلك ثقافة إستحقت عالميتها, من خلال حقيقة كونها بنت رحمها الخاص, على مجتمع آخر له نشأة وسياق مختلف.
وحذارِ حذارِ من تفسير التاريخ أو حتى روايته على طريقة قال فلان نقلا عن فلان, فالنقل دون العقل هو عِلَّة العلل, وعلينا أن نعي ان ما من أمة تتمكن على بناء مستقبل متماسك بتاريخ مفكك, أما أولئك الذين يحاولون إستدعاء التاريخ, بحجة أننا كنا, فعليهم أن يذهبوا إلى التاريخ حاملين دواة الحاضر وقلم المستقبل, لا العكس, ليتفحصوا على ضوئهما كيف يمكن ان يكون الإستدعاء أو هل أن هناك سببا له أو جدوى منه.
إن ذلك سيضمن لهم عدم وضع التاريخ في موقع الخصومة مع المستقبل فيكونوا كالموتى الأحياء أو كالأحياء الموتى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كريات شمونة في شمال إسرائيل.. مدينة أشباح وآثار صواريخ حزب ا


.. مصر.. رقص داخل مسجد يتسبب بغضب واسع • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الألغام.. -خطر قاتل- يهدد حياة آلاف الأفغان في الحقول والمدا


.. ماذا رشح عن الجلسة الأخيرة لحكومة غابرييل أتال في قصر الإليز




.. النظام الانتخابي في بريطانيا.. خصائص تجعله فريدا من نوعه | #