الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فى ذكرى إعدام الجعد بن درهم

كريم عامر

2006 / 1 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


" .......
...... أيها الناس :-
ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإنى مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليماً ، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيرا !!! " .
إختتم خالد بن عبدالله القسرى خطبته فى يوم عيد الأضحى بهذه الكلمات ، قبل أن يترجل من فوق منبره ، شاهراً سيفه ، ميمماً وجهه شطر أسيره " الجعد " الذى كان مقيداً فى أصل المنبر ، ليضع سيفه على عنقه بكل قسوة ويذبحه - تماما - كما يفعل الناس بأضحياتهم على مرأى الآلاف من أهل مدينة الكوفة الذين إحتشدوا لأداء صلاة العيد بمسجدها الجامع فى الشهر الأخير من عام مائة وأربع وعشرون من الهجرة( 15 / 10 / 742 من الميلاد ) ، ولم يكن للجعد ذنب عوقب لأجله سوى أنه أعمل عقله فى النصوص ، ورفض منها كل مالم يحظى من عقله بالقبول ، فكان جزاؤه هذا العقاب الهمجى البشع ، والذى يعد أنموذجا للمعاملة السيئة التى كان المفكرون والعلماء يتلقونها فى العصور المظلمة للدولة الإسلامية ، والتى إتضحت أبعادها - جليا - فى مصرع الحلاج والجعد بن درهم والجهم بن صفوان ....... وقائمة المغدور بهم تطول ! .
لهذه القصة إرتباط ذهنى عميق لدى بالشهر الأخير من العام الماضى - على وجه الخصوص - حيث كنت على مداره أتلقى التهديدات تلو التهديدات من قبل بعض المتطرفين الإسلاميين ، لا سيما وأن موضوعها فى الأعم الأغلب كان " الذبح " !! ، خاصة وأن موسم عيد الأضحى كان على الأبواب ، ويبدو أن عمى البصائر الذى يعانيه هؤلاء قد أعاقهم كثيرا عن التمييز بين الإنسان والبهائم التى يذبحونها يوم العيد !! ، والجدير بالذكر هنا أن قصة إعدام الجعد - تلك - ألفيتها تتردد مرار على ألسنة بعض أئمة المساجد ممن ينتمون إلى بعض التنظيمات المتطرفة فى خطب الجمع والأعياد ، وكأنها تمثل تهديدا يرسله هؤلاء المتعطشون للدماء البشرية من فوق منابرهم إلى كل من تسوِّلُ له نفسه أن يحذو حذو الجعد ويعمل عقله فى النصوص الدينية بأن مصيره لن يختلف كثيرا عن مصير هذا الرجل .
ويعد تكرارهم الممل لرواية هذه الحادثة تأكيدا لحقيقة الإرتباط الذهنى - لديهم - بين ذبح الأضاحى وقتل الإنسان ، وهو الأمر الذى يمكن أن تفسره إحدى الأساطير الدينية السماوية التى تحكى قصة النبى إبراهيم الذى تلقى أمرا مباشرا من ربه بذبح ولده !!! ، وتزعم هذه الأسطورة أن الإبن إستجاب لرغبة والده على الفور عندما نمى إلى علمه أن هذا الأمر قد صدر من عند الله ، ولكن لحسن طالع الفتى ( والذى لا يزال الخلاف حول هويته محتدما بين بنى إسماعيل وبنى إسحاق ) إفتداه الله فى اللحظة الأخيرة بكبش أقرن نزل عليه من السماء ليذبح عوضا عنه !!! .
عندما يصدر أمرٌ من الله للإنسان بذبح أخيه الإنسان ، عندها يجب أن نعتقد أن هناك ثمة خطأ ما ، فخالق هذا العالم - على إفتراض وجوده - لا يمكن أن يكون سفاحا أو شريرا وسفاكا للدماء ، إنه لا يمكن أن يكون بهذه الدرجة من الفظاعة والوحشية ، ذالك أن الوحوش والمخلوقات الشريرة والمحرضة على الشر لا تمتلك عقلا ، وهو بعظمة خلقه وتمام تدبيره وجمال صنعته يوحى لنا أن لديه عقلا لا مثيل له ، ولا يمكن لصاحب هذا العقل - وهذا كله مبنى على فرض وجوده - أن يعمل على تخريب ماصنعته يداه وهو بكامل إرادته وقواه العقلية على أشدها .
لقد أُعدِمَ خالد بن عبدالله القسرى بعد قتله للجعد بوقت قصير بعد أن حُبِسَ وصودرت أمواله بأمر من الخليفة الأموى الوليد بن يزيد بن عبدالملك ، ولكن لنفترض أن الفرصة قد أتيحت لنا للقاءه مرة أخرى وسؤاله عن السبب الحقيقى وراء إعدامه للجعد بهذا الأسلوب البشع المهين سنجده يجيب على الفور : " إن مانفذه هو حكم الله " !! .
يمكن لخالد أن يستدل على مشروعية ما إقترفته يداه بالآية القرآنية " .... قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ماحرم الله ورسوله .... " ، ويمكنه أن يتوصل إلى ذات الحجة عن طريق الآية " .. من يطع الرسول فقد أطاع الله ... " حيث أن محمدا نبى الإسلام قد صرح بوجوب قتل المرتد بقوله " من بدل دينه فاقتلوه " ، ولذا فإن خالدا إذا مثل أمام محكمة إسلامية بسبب جريمته تلك والتى إرتكبها وهو فى أوج سلطانه كوالٍ للكوفةِ ، فإن القاضى سيخرجه من هذا المأزق كما الشعرة من العجين - كما يقولون - لأنه لم يفعل شيئا خارج إطار أحكام الشريعة الإسلامية التى أوجبت على الإمام ( الحاكم ) قتل المرتد بضرب عنقه بحد السيف ، ولذا فإن براءة ساحة خالد ستصبح أمرا حتميا لا مفر منه ، بل سيوصى القاضى بوضع تمثال له فى أكبر ميادين عاصمة الدولة الإسلامية - بالطبع إن كان مذهب القاضى يبيح صناعة التماثيل - ، وسيعلن كبطل شعبى إسلامى مناضل ضد الكفر والزندقة ، ومدافع عن الإسلام ضد اقاويل وشبهات المارقين من الملاحدة !! .
لكن الأمر سيختلف - بطبيعة الحال - إذا مثل خالد أمام محكمة علمانية ، تتخذ من حقوق الإنسان مرجعا أساسيا ووحيدا لأحكامها ، فأمامها - بالطبع - سيختلف مصير خالد بالمرة ! .
إن الحجج التى يمكن لخالد أن يسوقها لتبرئة ساحته أمام المحكمة الإسلامية لن تقنع - بالطبع - القاضى العلمانى فى المحكمة الأخرى ، ذالك أنها ليست سوى حجج وأقاويل عنصرية بها ما بها من تحريض على سفك دم الآخر المختلف فى العقيدة ، وهو أمر لا يمكن التسامح معه فضلا عن الأخذ به أمام هذه المحكمة ، ولذا فإن حكم الإدانة سيكون أمرا حتميا لأن خالداً قد سلب إنساناً مثله الحق فى الحياة ، وتعدى على حريته فى التفكير دون قيود ، وإستكثر عليه إعتقاد مايمكن لعقله أن يتقبله .
تمر علينا - هذه الأيام - ذكرى ذبح الجعد فى يوم فرحة المسلمين بعيد الأضحى ، وفى ذات الوقت تتعالى أصوات صليل سيوف السفاحين من أمثال خالد القسرى مطاردةً كل صاحب عقل وقلم ، مهددة إياه بالقتل إن لم يكف عن إستخدام عقله ويسارع إلى تحطيم قلمه لينضم إلى قطيع الماشية البشرية التى يقودونها بعد أن سلبت منها عقولها وإستبدلت بمجموعة من النصوص الدينية التراثية الجامدة التى تحيل الإنسان إلى بهيمة بشرية لا تفقه فى لغة الحياة سوى القتل والسلب وإغتصاب وسبى النساء .
إن الجعد بن درهم هو واحد من مئات المفكرين والعلماء والباحثين على مر التاريخ الإنسانى الذين تعرضوا لأبشع أساليب الإضطهاد وأسوأ صور التعذيب البدنى والنفسى وأزهقت أرواح العشرات منهم لكى يعبدوا لنا بدمائهم وأجسادهم الطريق نحو التحرر الكامل من القبضات الحديدية على رقاب البشر من قبل التحالف القائم منذ قديم الأزل بين الحكام من جهة ورجال الدين من جهة أخرى .
لقد كان الجعد وأقرانه بمثابة شموع مضيئة ، أصرت على أن تحترق حتى النهاية لتضىء للأجيال اللاحقة طريقها ، ولم يضع أحتراق هذه الشموع هباءاً ، بل كان له بالغ الأثر فى ظهور العديد من المدارس الفكرية الجدلية التى تعتمد العقل مرجعاً وحيداً لآرائها ، والتى كانت - ولا تزال - منارة فكرية شامخة وحائط صد عنيد ضد الأفكار الإجرامية الرجعية المتطرفة التى أكل الزمان عليها وشرب ، ولقد خرجت هذه المدارس للإنسانية العديد من المفكرين المستنيرين العظام الذين لازالت آثارهم باقية بين أيدينا شاهدة على ماكابده هؤلاء العظماء من عناءٍ ومشقةٍ لكى يضيئوا للبشرية طريقها نحو المستقبل .
مهما أطنبنا فى الحديث عن الجعد وعن أقرانه الذين واجهوا خطر الموت فى سبيل نشر أفكارهم الحرة بيننا ، فإننا سنعجز - حتما - عن إيفاءهم مايستحقونه ، ولكن علينا أن نتذكر فى مثل هذه الأيام من كل عام أن أحد المفكرين العظام تم ذبحه يوم العيد مثل الخراف على يد أمير الكوفة قبل أكثر من ثلاثة عشر قرنا لأنه عارض النص الدينى وتمرد عليه بعقلهِ وقلمهِ ولسانهِ ، ربما نكون بذالك قد أدينا قدرا ضئيلا من واجبنا تجاه هذا الرجل الذى راح ضحية التطرف الدينى الذى لا يزال ضحاياه يتساقطون يوما بعد يوم .
فى ذكرى الجعد ، أدعو كل أصحاب العقول المستنيرة والأقلام الحرة والأذهان الناضجة إلى الوقوف بكل حزم وعزم وقوة فى وجه الإرهاب والتطرف كى نساهم معا فى القضاء على أفكار البقية الباقية من أنصار خالد بن عبدالله القسرى التى لا تزال تعيث بيننا فساداً ، ولكى نرد بهذه الوقفة الإعتبار إلى كل صاحب عقل وقلم تعرض للإهانة من أجلهما .
عبدالكريم نبيل سليمان
13 / 1 / 2006
الإسكندرية / مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah