الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة الإسلامية وبناء الحضارة

سعادة أبو عراق

2017 / 2 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لدولة الإسلامية وبناء الحضارة
لو سألت أحد المنظرين للدولة الإسلامية، أو أحد المناصرين لهذه الفكرة، هل ستبني الدولة الإسلامية المنتظرة حضارة إسلامية ؟ لقال على الفور نعم بكل تأكيد، ولكن لو سألته عن مفهوم الحضارة أو تعريفها، لوجدته يتلكأ ويبحث في أرجاء دماغه إن كان من شيء يسعفه في هذا المقام.
كل المشتغلين بالفلسفة ليسوا اقل تلكؤا منه، فلا احد يعرف كيف تنشأ حضارة ما ولا كيف تنهار، هناك تحليلات وهناك تفسيرات، لكنها محاولات للفهم، كما نحاول البحث عن سبب كسر الجرة، ربما نعرف، لكن معرفتنا هذه لا تفيدنا في صنع جرة جديدة .
إن صعود دولة ما أو إمبراطورية ما، لا ينبئ عن قيام حضارة، فهذا كما لو يهديك صديق شجيرة ويقول لك إنها تطرح ثمرا جيدا، فلن تتأكد من ذلك إلا بعد أن تزرعها وتنمو ثم تعاين ثمرها، إن كان جيدا أو غير جيد، والدول هنا كالشجر، والحضارة كالثمر الذي يطرحه الشجر، فالحضارة مرتبطة بالدولة كما هي الثمرة مرتبطة بالشجرة، كل شجرة لها طرحها وكل دولة لها حضارتها. ولا يمكن لنوعين من الشجر أن يطرحا نفس الثمر. ولا يمكن لحضارتين أن تكونا متشابهتين، ولكن يمكن أن تكونا متكاملتين .
ولنترك هذا التشبيه الذي يفتح أمامنا سبل القول، ولنقل عن إمبراطورية المغول التي اكتسحت العالم لكنها لم تبدع حضارة متواضعة، بينما دولة صغيرة مثل أثينا فإنها أنتجت حضارة عظيمة ما زالت مثمرة حتى اليوم، وقد يقول قائل على الفور أن المغول قوم من البدو الهمجيين شأنهم شأن الفايكنغ الهمج الذين أجهزوا على الدولة الرومانية كما أجهز المغول على الخلافة في بغداد، لكن أما كان بوسعهم إقامة حضارة ؟ لا ندري فالحضارة ليست مرتبطة باتساع الدولة أو صغرها إنما مرتبطة بروحها فدولة ذات روح عسكرية قتالية ( أوليغاركية ) في إسبرطة لم تصنع حضارة مثل دولة مدنية في أثينا .
والحضارة هي بناء ولنقل إنها مثل حائط أو درج حجري صاعد، تم بناؤه من الأسفل إلى الأعلى، فمنذ أن قامت التجمعات البشرية الأولى، بدأ إرساء الدرجات الأساس، فلنقل أن فكرة بناء عريش من القش والأغصان ومكسو بالطين بدلا عن المغارات التي التجئوا إليها وسكنوا بها، كانت فكرة حضارية مبدئية، هذه الفكرة كانت صالحة لأن تحتذى وتطور من قبل أجيال وأقوام آخرين، إذن فهي المدماك الأول أو الدرجة الإولى، أما الدرجة الثانية فهي استعمال الحجر في البناء والدرجة الثالثة الحجر والطين وهكذا.
إذن نفهم من هذا أن الحضارة تراكمية، يستطيع أن يشارك بها أي قوم، ليس هناك من جينات وراثية تجعل من قوم حضاريين ومن قوم آخرين غير حضاريين، كما لا يمكن لقوم الادعاء بأنهم ابتنوا حضارتهم من الصفر، بل اخذوا من غيرهم وأضافوا للحضارة درجات جديدة وعلواً آخر، وإذا ما عرجنا على حضارتنا العربية الإسلامية، من غير ما ندخل في المزايدات أو نتلقاها سنجد ما يلي :
كان للعرب ما قبل الإسلام شيئا من الحضارة ، مكنتهم من أن يتشربوا العقيدة الإسلامية جيدا، ويفهمون رسالة الإسلام، لم يكونوا في مرحة الصفر أو أدنى كما يحلو للبعض تصويرهم، ونمت حضارتنا بعد ذلك وفق سنن بناء الحضارات بعد ثلاثة أجيال أو أربعة، بعدما اختلط العرب بأقوام كثيرة أهمها الفرس والروم والهنود، وديانات مسيحية ويهودية وبوذية وهندوسية، وأخذوا من أصحاب هذه الحضارات الكثير في جميع المجلات، و لم تبدأ حضارتنا نموها إلا بعد أن توفرت أدواتها، أولها الحبر والورق أي بعد أن ابتدأ المسلمون يدونون أفكارهم في كتب، وكان أول كتاب ألف في العربية هو كليلة ودمنة ، وكونه مترجما، يصبح دليلا على التلاقح مع الحضارات أخرى .
والمستنبت الأول لحضارتنا، كان في الكوفة والبصرة وخصوصا لعلوم اللغة والدين، وكما هو دائما إذا ما تجمع في الذهن علوم كثيرة، فإنه يفرز الفلسفة، أي علم الكلام كما أسموها، والتفلسف أو علم الكلام يفرز بالضرورة علوما جديدة لأنها توسّع في الفكر وتصوّب الرؤية، إذن فالعلاقة بين التفلسف والعلوم علاقة جدلية، وهذا التفلسف العربي أنتج علوما ذهنية كالرياضيات والكيمياء والفلك والطب وغيرها، وأصبحت دار الحكمة في بغداد كما هي مكتبة الكونغرس اليوم .
ووجدنا في القاهرة مماثلة حميدة من قبل الدولة الفاطمية, إذ ابتنوا الجامع الأزهر وبيت الحكمة صنواً لدار الحكمة في بغداد، وكان جامعة بالمعنى الحديث للجامعات، فقد أنجبت ابن الهيثم وابن يونس المنجم وعلي بن الرضوان وجذبت ناصر خسرو والحسن بن الصباح أما في الأندلس فكانت حالة أخرى متقدمة بابن رشد وابن طفيل وابن حزم وغيرهم.
ولكن لا نعلم ما الذي جعل الفقهاء يعادون التفكير الفلسفي الذي هو أس العلوم, وهذه الإبداعات العلمية، ويعمدون على قتل هذا الجانب المشرق من الحضارة، وما الذي دفع بالغزالي لأن يقول عن العلوم أنها( فرض كفاية) و لم يحدد مقدار هذه الكفاية، ففهمها المغرضون على أن لا ضرورة لها، لا أن نتعلمها أو نعلمها لأجيالنا، بالإضافة للمقولة التي ما زالت إلى اليوم منذ مناظرة أبي سعيد السيرافي ومتى بن يونس بأن من( تمنطق فقد تزندق)، والأكثر إيلاما أن الأيوبيين لم يكتفوا بتحويل الأزهر من تدريس المذهب الشيعي إلى الفقه الشافعي بل ذهبوا يدمرون بيت الحكمة، إذ صاروا يعطون كتب (بيت الحكمة) للجنود كرواتب وأعطيات ، وهم يعلمون أن الجنود لا يقرؤون بل يستعملون جلود الكتب لصنع أحذية لهم .
وربما نظن أن السبب كامن في سيطرة المشتغلين بالفقه على الحياة الثقافية وإبعاد من لا يكون في سياق فكرهم من علماء الطبيعة، اعتمادا على رأي الإمام الغزالي، واعتمادا أيضا على قول السيرافي الذي أكده ابن تيمية، وما زال يأخذ به إلى اليوم قطاع واسع من السلفيين والوهابيين والتيارات الدينية الأخرى، ونظن أيضا أن الحروب الداخلية وتفتت الدولة لإقطاعيات متناثرة والحروب مع الصليبيين والتتار، استنزفت خيرات البلاد وجعلت الإمكانيات المتواضعة متوجهة للمجهود العسكري إذ لم يبق ما يصرف منه على علوم الفيزياء والكيمياء والفلك والجغراقيا والطب والفلسفة وغيرها ممن تحتاج إلى تفرغ وتمويل .
وبناء على هذه الأرضية من المعلومات والأفكار والرؤى، سنرى في هذا الكتاب إن كان بإمكان دولة دينية أو غيرها بقادرة على صنع حضارة عربية حديثة في المدى المنظور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا


.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم




.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا


.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است




.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب