الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الموقف الفلسفي، أو الموقف من الحقيقة .

عزالدين جباري
(AZEDDINE JABBARY)

2017 / 2 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في الموقف الفلسفي، أو الموقف من الحقيقة.
الموقفُ لغةً مكان ُالوقوف،والفيلسوف يقف في مكان البين-بين، لايستطيع أن يغادر أرض الذاكرة، ولا يقوى على الابتداع من فراغ.
يقول " هوسرل " في مقدمة كتابه (التأملات الديكارتية) : [ إن أي شخص يريد حقا أن يصير فيلسوفا، يتوجب عليه ولو مَرّةً واحدة، أن يرتد إلى ذاته، وأن يهدم في صميم نفسه كل العلوم التي تقبلها حتى اللحظة الراهنة، ثم يسعى إلى إعادة بنائها من جديد. إن الفلسفة – الحكمة، على نحو ما، هي مسألة شخصية لكل فيلسوف.] .
إن الفيلسوف، كالشاعر، أداتُه اللغة، واللغة شبكة هائلة من المشاعر والرؤى والعلاقات بين الأنا والذوات الأخرى، ومملكة من الأصوات والمفردات لها ظلال وألوان ومستويات عدة من الدلالات الظاهرة والمطمورة، والأكثر أو الأقل طمورا، والتي تتقلب كالأرض في سن المحراث، بفعل التأمل والتفكير، وبتأثير من حال المبدع، من شعوره ولاشعوره، في موقف الإبداع.
يمكننا القول إذا، إن الموقف الفلسفي هو موقف إبداع، غير أنه موقف إبداع بشري، لاقِبَلَ له بالغيب، ولا مَنْفَذ له لأقطار السماوات والأرض، إنه ليس موقف خَلْق، إنه فقط موقف تَحَرٍّ واستدلال من أجل إدراك " الحقائق " . فالفيلسوف شخص اندهش من وطأة وجوده في العالم، وأدرك بذلك علاقات جديدة تربط بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة، وأدركه النزوع إلى التعالي.
إن السؤال الذي يفرض نفسه على كل ذي قول يدعي أنه قول أول، أي قول فاتح طريقَه نحو الحكمة، والمعرفة الأصيلة، هو كالآتي : كيف يطمئن القائل لحقيقة قوله؟ ثم حين يدعو إلى هذه الحقيقة، كيف يدعي بكل امتلاء ويقين، أن ما يعبر عنه من مفردات القول هو عين الحقيقة وأسها؟
إن الفيلسوف إذ ينطلق من ميراث اللغة، وينقر عن الشوارد في طبقات التاريخ، وينبهر بسحر الكلمات، إنما هو مأخوذ؛ مأخوذ في "متاهة" اللغة، ومنزوع من يقينه، وشارد في الطريق.
ولعلنا لا نفارق الحقيقة إذ نقول، إن موقف الفيلسوف هو موقف أدعى إلى الشفقة، ذلك أنه لم يعد قادرا على الاستمرار عما كان عليه. ويذكرنا هذا الملحظ، بلحظة الحقيقة عند "كانط" حين أيقظه الفيلسوف الإسكتلندي " ديفيد هيوم" من سباته الدوغمائي، وذلك على إثر أبحاث كشف من خلالها "هيوم" وَهْمَ الضرورة في العلاقة العلية بين السبب والمسبب، وأرجع ذلك إلى مجرد العادة.
يتحرر الفيلسوف من العادة النفسية، ومن الدوكسا الدوغمائية، فيجد كل شيء يحتاج إلى إعادة تسمية، وإعادة ترتيب، وإعادة توزيع للسلط.
إنه موقف يقترب من الجنون؛ فالمجنون هو مَن يؤمن بوجود قوانين أخرى للعب غير القوانين المتعارفة المعهودة، فيتحدث من خلالها، وبها يحاجج، وينفعل من جرائها، في وحدة وعزلة داخل الجماعة.
الإبداعية بين التكرارية و الإطلاق :
إن الإنسان يضطر إلى صوغ الكلام، ثم إعادة النظر في هذا الكلام، وفي كلام غيره، وهو على امتداد الآماد واقع لا محالة في التكرار. وهو إذن كائن محدود، يحده المكان، ويحصره الزمان، ويتأثر بالغير، ومن أجل ذلك، فإنه حين يموت يضع حدّاً لكلماته. ثم بعد حين يتلقفها غيره بادئا من موقف الحقيقة الأول. إن الحقيقة دائما حقيقة فرد من الأفراد، وحقيقة حقبة من الآماد تتجلى للوعي الإنساني في كل مرحلة من الزمان. ولذلك اختلف الفلاسفة في تسميتها، وفي التعرف على جوهرها، وفي منهجية إدراكها، فهي "الروح المطلق" عند "هيجل" ومنهجه الجدل العقلي، وهي "الشيء في ذاته" عند "كانط" ومنهجه تحليل العقل ونقده، وقبلهما رآها أفلاطون غائبة في عالم المُثُل، واصطنع منهج الجدل الصاعد والنازل، وبعد ردح طويل، أسقطها "هيدجر" إلى دنيا الوجود، وعالم الإنسان، وهو ما أسماه الوجود-هناك، أو الوجود-في-العالم، وقد اتبع المنهج الفينومنولوجي الذي نقله من عالم الظواهر إلى البحث في أساس علاقة الموجود بالوجود.
إن الإبداعية مطلقا، التي لا تستند إلى التكرار،لا تكون إلا لمن لا يفنى، ولمن لايفتأ يأتي بالجديد، وهو أمر ليس في مُكنة البشر، ومصداق هذا الزعم قوله تعالى : [قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]. (الكهف الآية 109)؛ وذلك لأن البشر لا يطيقون الإقامة في الوعد، ولأن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى التآنس الاجتماعي، فالكائن الذي يفكر في وَعْدٍ يكون خيرا للبشر، لايُقيم فيه، بل إن أغلب الفلاسفة عاشوا حياة مِلؤها الدسائس والمؤامرات المُحاكة من الحُساد والغيورين مثلما صار إليه الوضع مع سقراط و ابن رشد و اسبينوزا وغيرهم. فهو يَفِرُّ من جحيم الواقع لينسج حكاية الرؤيا، ولذلك فهو موصول بواقع اجتماعي يحياه، ومحكوم بمادة تجربته. ومن أجل كل هذا، لايمكن أن نجعل منه نبيا يكرز فوق عرش الحكمة، ولايمكننا إلا أن نجعله كبير المُحاوِرين.
لقد جسد سقراط قمة التعبير الفلسفي، لأن الفلسفة جدل ومحاورة، هي بناء تفاعلي ينشد الإنسان، وينشد العرفان. إنها بتعبير ما، عرفان إنساني، عرفان محكوم بأفق البشرية، بأفق الزمان والمكان، وذاكرة الفرد والمجتمع والعولمة والتاريخ؛ محكوم بالشرط الإنساني، بوعي الموجود الإنساني ولا وعيه. فإذن، لا تصلح المعرفة الفلسفية لأن تكون إطارا مغلقا للحقيقة. إنها الثقب وليست أبدا وعاء.
حين يضيق الواقع بتناقضاته، تتصدى له العبارة الفلسفية مُفكِّكة لأصوله، ومحللة لبنائه الخِطابي، مُحْدِثةً شرخَ الشرنقة. هكذا كان ديدن "سقراط"، يحاور مُخالفيه، فيعاود البحث في مفاهيم العدالة والشجاعة وغيرها من القيم العليا التي بدأ الزيف يَعْدِنها وينطلي على عقول الناس، فيُجَلّي بمبرد فكره الغشاوات، ويَبري الحقيقة بلسان القول.
إن التفكيك بهذا المعنى أداة الفيلسوف الأولى، بيد أن الفلاسفة الكبار أدركوا أنها أداة توطئة، وليست أداة بناء، ولذلك آثر بعضهم الموت في سبيل تأسيس منطقٍ للحقيقة على الموت في موقف المتشكك، أو المُنكِر اللاأدري، أو في موقف الجهل المركب الذي يجفل منه، ويحارب من أجل القضاء عليه. يقول "كانط" في هذا الصدد، مادحا علمنا بالجهل : [ إن علمنا بجهلنا يفترض أننا حَصَّلْنا علما يجعلنا متواضعين، وبالمقابل فإن اعتقادنا بأنّا عالِمين ينفخ في غرورنا. ] (اقتباس مشهور من كتاب المنطق 1800).
لقد قضى سقراط ، وهو يدرك أن الصدق هو أس الحقيقة، فلم يُؤْثر الفرار، إذ لو فَرَّ لسقطت الحقيقة في قِمْع المصلحة، وحُكِم عليها بالهوان. لم يُدرك سقراط الحقيقة، ولم يدّعها يوما، ولكن أَقَرّ بأن المعرفة بالجهل أسمى تعبير عن المعرفة الإنسانية، فكلما أدرك الإنسان حقيقة "الأشياء"، كلما أدرك مقدار جهله، وآثر جهة التواضع. فليس ثمة وعي مطلق بحقيقة الأشياء، وإنما هناك فقط حقيقة "هذا الشيء"، ثم "هذا الشيء"، ثم ربط العلاقة. أو كما يقول "هوسرل" : ( كل وعي هو وعي بشيء ما ).
إن الفيلسوف الحق، هو الفيلسوف المتواضع، وهو عندي سقراط العظيم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البريك العنابي.. طبق شعبي من رموز مدينة عنَّابة الجزائرية |


.. بايدن يعلن عن خطة إسرائيلية في إطار المساعي الأميركية لوقف ا




.. ارتفاع حصيلة الضحايا الفلسطينيين إثر العمليات الإسرائيلية في


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات بالمحافظة الوسطى بقطاع غزة




.. توسيع عمليات القصف الإسرائيلي على مناطق مختلفة برفح