الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضريح ولي الله أكس

صالح حبيب

2017 / 2 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عام 1975 كنت هاويا من هواة علوم الفلك والفضاء في الرعاية العلمية للشباب في بغداد ايام الراحل كامل الدباغ مدير الرعاية العلمية ومقدم برنامج العلم للجميع في تلفزيون بغداد لأكثر من 24 عاما والذي يعد الرجل الأشهر من بين شخصيات العراق.
كانت مجموعة هواة الفلك هي الاقل عددا من ضمن مجاميع الهواة العلمية اذ كانت تضم ثلاث عشرة هاويا.. وفرت لنا الدولة في حينها الاجهزة الاساسية والضرورية لممارسة هواياتنا العلمية وهي اجهزة تلسكوب فائقة الجودة والقدرة البصرية والتقنية لرصد السماء والقمر والكواكب بالنسبة لهواة الفلك على مستوى العالم وهكذا كان بالنسبة لبقية الاقسام.
كشباب صغار تتراوح اعمارنا بين ستة عشر الى عشرين سنة فقد كانت تلك الهواية والارصادات هي عشقنا وعالمنا الرحب الفسيح الذي انهمكنا فيه الى الدرجة التي تنسينا أنفسنا احيانا لأن هذا العالم بما يحتويه من عجائب وغرائب كونية وتكنلوجية بالنسبة لنا كان عالم غريب ومدهش.
وبما ان الرصد الفلكي بالمراقب الفلكية (جمع مرقب) (التلسكوبات) يحتاج أولا الى أرض فضاء وافق مفتوح وثانيا ان يكون بعيدا عن اضواء المدينة فلقد اتجه تفكيرنا الى بناء مرصد لنمارس فيه فعالياتنا في رصد الظواهر الفلكية السماوية والتصوير الفلكي للسماء بكاميرات خاصة لأغراض التصوير الفلكي.
عبارة "مرصد فلكي" تعني ذلك البناء الذي يكون عادة اسطواني وتعتليه قبة على شكل نصف كرة تدور حول نفسها في كل الاتجاهات وفيها بوابات مقطعية تفتح و تغلق على السماء حسب الحاجة لكي توفر منفذا للتلسكوب من خلالها لرصد السماء و يثبت التلسكوب تحت تلك القبة ويكون الراصدين في داخلها.
واحب ان اشير هنا ان المرصد الفلكي و قبته يختلف تماما عما يعرف بالقبة الفلكية او "البلانتاريوم" الذي يوجد مثله في منطقة الزوراء في بغداد – فالقبة الفلكية او البلانتاريوم هي مجرد سينما تعرض على قبتها البيضاء من الداخل نجوم السماء لتحاكي بواسطة الضوء حركة النجوم والكواكب والمجرات على شكل محاكاة للسماء الحقيقية تماما وهدفها تعليمي وتثقيفي لا اكثر، اما المرصد و قبته فهو بناء يضم تلسكوبا لرصد السماء الحقيقية.
لقد كانت لدينا وقتذاك عدة تلسكوبات جيدة ولكننا كنا بحاجة لبناية المرصد، ولكون عملية استيراد بناية مرصد من النوع الجاهز الخاص بالهواة كانت تكلف الدولة مبالغ إضافية تعد بآلاف الدولارات وتتطلب وقتا طويلا يتخلله الكثير من المخاطبات الرسمية وكتابنا وكتابكم وقد تستغرق سنوات بسبب الروتين، فلقد عزمنا على بناء مرصد صغير نستعمله لهذا الغرض نبنيه بانفسنا وننقله الى منطقة مناسبة لكي يحتوينا في داخله مع التلسكوب. وفعلا شرعنا بتصميمه وبنائه في ورشة ميكانيك مركز الرعاية العلمية وانجزناه في زمن قياسي وبشكل متقن. وصار جاهزا للنقل الى خارج بغداد

بسماية
كانت المنطقة التي اخترناها كمكان لمرصدنا هي منطقة تعرف باسم "بسماية" والتي استغلت فيما بعد كمعسكر للجيش الشعبي ثم معسكرا للحرس الجمهوري سمي معسكر النهروان، وتقع هذه القرية الزراعية الصغيرة في الجنوب الشرقي لمدينة بغداد على طريق بغداد-بصرة وعلى مسافة 30 كيلومترا عن مركز مدينة بغداد. وسبب اختيارنا لهذا الموقع كان اولا لبعد المكان عن مركز المدينة و اضوائها وتلوث جوها بالدخان وثانيا والاهم ان المكان كان من ملكا حكوميا لمركز الرعاية العلمية و يحتوي على بناية حديثة تابعة له كانت تستخدم كمركز لبحوث الصواريخ للهواة ومجهزة بكل الاحتياجات الانسانية و السكنية ورغم انها كانت شبه مهجورة ومهملة إلا انه كان هناك حارسا مخصصا بشكل رسمي لحراستها و هو رجل كبير من اهالي القرية وكنا نفكر ان نستغل تلك البناية كمركز لعلوم الفلك والفضاء والرصد الفلكي للهواة الشباب تحت رعاية الدولة ومركز الرعاية العلمية.
وفي يوم نقل المرصد اتفقنا أنا واثنين من الاعضاء على نقل بناء المرصد برمته الى هناك. وكان علينا انجاز عملية نقله بمدة قصيرة.
كان علينا تثبيته فوق تل ملاصق للبناية يرتفع عن الارض عشرة أمتار تنحدر سفوحه بزاوية 35 درجة تقريبا.
كان علينا نقله وتركيب القبة فوقه وتهيئته للعمل بسرعة وقبل ظاهرة الخسوف القمري الذي ننتظر حدوثه في غضون ايام لكي نقوم برصده من مرصدنا الجديد.
ظاهرة الخسوف بالنسبة للاوساط العلمية الفلكية وبالنسبة للهواة تعد حدثا فريدا ومهما يستحق الدراسة والتحضير والاستعداد، فقد كان ذلك الخسوف المنتظر خسوفا كليا كاملا وهو فرصة ذهبية لنا كهواة فلك لكي نعد عن رصدنا تقريرا علميا كاملا نرسله الى الجمعية الفلكية البريطانية.
استأجرنا شاحنة نقل ثقيلة (تريلور) من تلك التي تنقل الآليات الثقيلة و كذلك تجهزنا بكل المعدات اللازمة لنقل البناء بأكمله الى هناك و رفعه الى اعلى التلة. كان المرصد عبارة عن غرفة ثمانية الاضلاع بارتفاع أقل من مترين وتزن قرابة النصف طن وبقطر ثلاثة امتار ونصف فوقها القبة الدوارة النصف كروية على سكة فولاذية بواسطة عجلات صغيرة وهناك فراغ فاصل في مكان التقاء القبة العليا بالبناء قررنا ان نغلقه مؤقتا بشريط من القماش الاسود حتى لا يتسرب اي ضياء الى الداخل يفسد التصوير الفلكي وكان المرصد بكامله بارتفاع حوالي اربعة امتار ونصف من قاعدته الى قمة القبة الدوارة.
قضينا طيلة نهار ذلك اليوم نحن الثلاثة بالتعاون سوية في رفع القبة ذات النصف طن بشق الانفس الى اعلى التل و ثبتناها هناك فانتصبت بشموخ فوق قمته التي تتوسط تلك الارض المنبسطة الواسعة في قرية بسماية والقرى الفلاحية المجاورة لنهر ديالى جنوب شرقي بغداد. خصوصا وأن القبة النصف كروية كانت مغلفة بالألمنيوم العاكس كالمرآة من الخارج فصار شكلها فوق التلة مهيبا و جميلا يتلامع تحت الشمس كأنها مركبة فضائية غريبة بيضاء بقمة فضائية تلصف تحت الشمس.
في الداخل و في مركز ارض المرصد الاسطواني بنينا دكة مكعبة تقريبا على شكل منصة ترتفع عن الارض نصف متر لكي يتم تثبيت قاعدة التلسكوب فوقها وهذه المنصة الكونكريتية لكي تعزل هيكل التلسكوب عن اية اهتزازات تنجم عن حركة الأشخاص حوله.
تركنا المرصد بعد اتمام رفعه وبناء المنصة وعدنا بعد ان تركناه وهو يزهو فوق التل وفي داخله تلك المنصة الصغيرة المكعبة التي تنتظر ان تحمل المرقب الفلكي بعد أيام بعد ان تجف وتتصلب.

يوم الخسوف
اتى اليوم الموعود الذي كنا ننتظره والذي تهيئنا له وخططنا وهو يوم خسوف القمر وحضر كل فريق الرصد الفلكي بسيارات الرعاية العلمي وبدانا بأنزال اجزاء التلسكوب من السيارات لرفعها الى قمة التل وتنصيبها في داخل المرصد استعدادا للظاهرة الفلكية المهمة.. وكانت المفاجأة عند صعودنا الى التلة
كان باب المرصد الأبيض وجدرانه الثمانية ملوثة بالحناء وبصمات كفوف دماء الذبائح والنذور وحول البناء اغصان من الياس وسعف النخيل وكان هناك اعقاب شموع على الأرض أسفل الباب الصغير للمرصد..
وفي عجلات القبة المثبتة على السكة اعلى البناء وعلى مقبض الباب علقت اشرطة من القماش الاخضر (العَلَك كما يسميه العراقيون – بأبدال الكاف بالجيم المصرية)..
وكأن مهرجانا كان قد اقيم هناك حول المرصد في اليوم الذي تلا تنصيبنا له في المكان. ولكن والحق يقال ..كان مهرجانا صغيرا جميلا وبسيطا ببساطة الناس التي احيته حول المرصد.. ولكنه محزن.
حول المرصد كان هناك ايضا آثار اقدام لأحذية ثقيلة، احذية عسكرية.
ماذا حصل هنا ؟
الذي حصل حسب تحليلنا ان الناس البسطاء من اهل القرية المجاورة استيقظوا صباحا فتفاجؤوا بقبة تتلألأ فوق التلة المجاورة لهم لأنهم ناموا في المساء ولم يكن هناك شيئا مختلفا في محيطهم وفجأة في الصباح عندما اشرقت الشمس والقت باشعتها على القبة فتلألات وشاهدوها تتلامع فوق القمة.
زحفوا نحو بناء القبة اثناء غيابنا فنظروا من الفتحة التي تفصل القبة عن البناء ليشاهدوا قبرا صغيرا بالداخل (منصة التلسكوب) فافترضوا ساعتها ان إماما جديدا او وليا من أولياء الله الصالحين قد ظهر قبره فجأة ليعلن عن نفسه وان الملائكة قد بنت فوق قبره قبة وضريح. فبدأت النذور و الصلوات والزيارات و التبرك به وصار مزارا في يوم وليلة..
ولو ترك المكن لشهر آخر لربما كنا سنجد مكانا للوضوء ومكانا لأقامة الصلاة ومكانا لشيخ معلما يستلم النذور والاكراميات.
أما العسكر فقد كان تفكيرهم مختلفا..شكوك في ان يكون هذا هو مركزا للتنصت او للتجسس او اساس لبداية مؤامرة على النظام لإسقاطه. فهذا ديدن الحكومات دائما..
عندما ادركنا ما حصل...ضحكنا تندرا ولكننا شعرنا بالحزن لأننا امام تطبيق عملي لسذاجة شعوبنا وطيبتها الزائدة نتيجة الجهل المقدس.
وانصرفنا الى اجهزتنا لنبدأ رصد الخسوف القمري.

ملاحظة: لم تتسنى لنا الفرصة بعد ذلك اليوم لزيارة المكان لسنين طويلة لأسباب إدارية تتعلق بمركز الرعاية العلمية وانشغالنا بالدراسة. تخرجنا من الاعدادية ثم من الجامعة والتحقنا بالجيش كمقاتلين في الحرب العراقية الايرانية.
كنت في كل مرة التحق الى وحدتي العسكرية في شرق البصرة خلال الثمانينات ارنوا ببصري الى المكان من بعيد وأنا في طريق السفر الى جبهة الحرب وانا أمر من هناك على الطريق الخارجي لبغداد – البصرة فأرى ان القبة كانت لاتزال منتصبة حتى ذلك الوقت تلمع تحت الشمس فوق تلة بسماية وأنها مازالت تعتبر مزارا مقدسا لقبر أحد الاولياء الصالحين. آخر مرة شاهدتها كانت في بداية التسعينات بعد حرب غزو الكويت. وكانت موجودة.
وبعدها لم أصل الى هناك. فمن يعلم؟ لو ذهبت وحكيت الحكاية لأهل تلك الديرة.. لضحكوا علي واتهموني بالكفر وازدراء الاديان. وقد أرجم بالحجارة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - في مكان واحد اجتمع العلم والخرافة والمؤامرة
ليندا كبرييل ( 2017 / 2 / 15 - 09:04 )
تحياتي أستاذ صالح حبيب المحترم

حديث ممتع حقا
من هنا نبدأ !
الذين تحدثنا عنهم في مجموعتك تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والعشرين
أي حماس علمي عظيم هذا..
بالتأكيد لا مجال للمقارنة مع الإمكانيات المتوفرة في الغرب ،فهم يهيئون الطلبة من الحضانة، للتعرف إلى عالم الفضاء المذهل، عن طريق الصور الموضحة، والشروح المبسطة، ثم يتدرجون إلى دخول المراصد الفلكية كجزء من النشاط المدرسي

ما قرأته يؤكد أن عقول أبنائنا العرب لا تقل ذكاء وقوة عن العقل الغربي
نحن ينقصنا ال ..
بلاها أستاذ صالح، لأن ما ينقصنا الكثير ويحتاج إلى مقال
ومع كل هذا النقص تمكنت محموعة من الشباب في عمر مبكر من تصميم وبناء مرصد صغير

ثم تأتي المفارقة الصاعقة عندما نجد الخرافة تشق طريقها في حياة أهلنا
وتجد فكرة التجسس طريقها إلى عقولنا

في لحظة من الزمن وجد العلم نفسه مهددا أمام الخرافة والجهل

لكني أحيي الدولة التي وفرتْ لكم الأجهزة الأساسية لممارسة هوايتكم العلمية
الرائعة
التنوير يبدأ من المدرسة

تحية وسلاما


2 - الاستاذة العزيزة ليندا كبرييل
صالح حبيب ( 2017 / 2 / 15 - 16:40 )
شكرا استاذتنا الغالية على مرورك على الموضوع وابداء الرأي في امكانية العقل العربي للشباب
نعم ان الشاب العربي طماح الى المزيد من المعرفة والعلم والتقدم لأنه يمتلك الاصرار والاندفاع وهذا هو شيء مشترك في كل بلداننا العربية وهذا ما رأيته لديك ايضا من اصرار وعناد من خلال مقالتك الجميلة (كنت بطلة اولمبية ذات يوم) و المفعمة بأصرار الشباب وابداعه وطموحاته كما رأيته عندك وابدعتِ فيه وفي تصوير مشاعر العناد الحقيقية عند الشباب منذ الطفولة لتكبر معه حتى تستحيل الى طموح خلاق.
نعم الدولة في فترة ما من حياة العراقيين كانت تريد ان تنهض بمستوى الشاب العراقي قدر الامكان لتجعله بمستوى بقية العالم لولا طمع الدكتارتورية و هوسهم بالحروب والتسلط الذي افسد الحياة
تحياتي واحترامي لك

اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس