الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن، والآخر في العالم!

عبد الناصر حنفي

2017 / 3 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع




في مجتمعات "ما تحت الاستعمار" تنغمر "الذات الاجتماعية" داخل عالم يؤسسه ويقوده الآخر الذي يكاد ينفرد بطرح خيارات ورهانات وبرامج هذا العالم، وحسمها في الوقت نفسه، مما لا يدع أمام هذه الذات طريقا إلا الاندماج بصورة متزايدة في هذا العالم الذي يحتل ويهيمن على نسبة تتعاظم أكثر فأكثر مما هو يومي ومعاش، بحيث تنحصر خياراتها بين الانسحاق الكامل أمام الآخر والذوبان فيه، أو الإقامة في عالمه بوصفه الأفق الوحيد المطروح أمامها ولكن مع مواجهة ذلك ومقاومته عبر البحث عما يخصها "في العالم".
وقد تبنت "ذاتنا" هذا الخيار الأخير، بل وطاردته على نحو بات الآن يسد المنافذ أمامنا وكأنه "سم الخياط" الذي يجب علينا أن نلجه كي نستعيد علاقتنا بالعالم.
فمع المرحلة الكولونيالية ذهبت هذه الذات إلى البحث عما يخصها في الزمان (لا التاريخ!) الذي يخلو من ضغوط الآخر، والذي كانت تتجلى عبره وكأنها تهيمن على العالم منفردة، ومن هنا بدأت رحلة إحياء زمانها الخاص الذي تطرح نفسها فيه بوصفها نظير هذا الآخر الآني، بل وأصله الذي منح عالمه فرصة الظهور.
غير أن هذه المواساة النرجسية اللطيفة كان عليها أن تخوض تنازعات حاسمة تتطلب جهودا أعظم بكثير مما يمكن توفره لذات جريحة تبحث عن عزائها عبر التفاف لا يعبأ سوى بارتشاف نشوة التماهي مع وضع أو مكانة الآخر في العالم.
كان على هذه الذات إذا أن تمر بنزاع مع "تاريخها" الذي يحفل بالكثير مما لا يجلب العزاء أو الرضا عن النفس، والذي تم إقصاءه أو استبعاده المرة تلو الأخرى لتجنب الشقاق والجراح التي يثيرها استحضاره، مثلما كان عليها أن تواجه ذهاب الآخر "المستشرق" إلى استحضار المصادر الأصلية لهذا التاريخ وإعادة كتابته، ناهيك عن منازعتها الأصلية مع عالمها المعاش والتي لم تكتمل مواجهتها أبدا!
وعبر هذا الإطار يمكننا رسم "نمط حضور" هذه الذات في العالم، فمع المرحلة الكولونيالية شرعت هذه الذات في بناء عالم لا يوجد إلا على أطراف حضور الآخر، عالم يكاد تعريفه الأساسي ينحصر في غياب الآخر وحضور الذات، وكل ما ينطبق عليه هذا التعريف يصبح جزءا من هذا العالم الذي توسع في البداية على نحو انفجاري، حيث أصبح كل ما يمثل أمام الوعي قابل للانقسام بين ما يخصنا وما يعود إلى الآخر. وهكذا فإن ألعاب الحذف والإضافة المشتقة من هذا التعريف ظلت طوال الوقت بمثابة البديل الذي يطرح حقيقة الذات أمام عالم غير مرضي لا يمكن مواجهته مثلما لا يمكن تقبل وضعنا فيه.
ولكن تحت وطأة الضغط المتزايد والمتنامي لحضور الآخر، بات الهدف الدائم للذات هو خلق تباعد، أو مجرد مسافة مفتوحة -مهما بدت فارغة- بينها وبين هذا الحضور حتى وإن تم ذلك على حساب الإفلات أو الانخلاع مما يخصها بالفعل سواء في التاريخ أو الواقع المعاش، وتلك المرحلة كانت بمثابة المهاد التي استنبتت عبره كافة الاتجاهات الأصولية والراديكالية، والتي كان ضغط الآخر فقط هو ما يمنحها تماسكها الداخلي، وينظم ترابطاتها مع العالم المعاش الذي لم يكن عليها مواجهته بصورة مباشرة مما جعلها تحفظ في تكوينها تناقضات عصية على الرفع أو التجاوز.
أما مع مرحلة ما بعد الكولونيالية، وانسحاب الآخر، وتفكك سيطرته "المباشرة" على الواقع اليومي للذات، فقد كان على فضاءات هذه الذات المشوهة أن تواجه مصيرها، وأن تصطدم فجأة من موقع المسئولية بعالمها المعاش بعد أن انهارت تلك الحواجز التي كانت تتصور أنها تفصلها وتباعدها عنه، ومن هنا تأسست مهمة استبدال العالم، بوصفها الحل لتجاوز تناقضات الذات مع العالم والتي لم يعد من الممكن تجاهلها، وهكذا، فليس على الذات أن تتواءم مع عالمها أو تتلاقى معه حيث يكون، بل عليها أن تجلبه إلى حيث هي، أو بالأحرى إلى حيث يكون جديرا بها! وعلى هذا النحو يحل "تعالي الذات" أمام العالم محل انسحابها منه.
وتلك المهمة -الرومانسية أكثر مما ينبغي- والتي تحفظ التناقض مع العالم وتؤجل مواجهته في نفس الوقت؛ لم تكن مجرد خطاب هامشي لبعض المثقفين الحالمين بقدر ما كانت مطلبا جوهريا يقع في صلب أغلب البرامج الاجتماعية والسياسة. وبعبارة أخرى فمنذ هذه اللحظة باتت تلك الذات المتعالية -ذاتنا- تعيش في عالم مؤقت بصفة دائمة!
ولكن إذا كان هذا التأجيل أو الإرجاء قد منع إسقاط تلك المهمة الحالمة التي باتت تمثل "سم الخياط" في طريقنا نحو العالم، فإنه بالتأكيد لم يحمي "الذات" من الانكشاف أمام عجزها وفشلها المتكرر في إنجازها، وهو ما شق جراحا جديدة أدت إلى استحضار الآخر على نحو أكثر قوة ووضوحا وغضبا، بوصفه المسئول الأصلي عن هذا العالم المحبط والمنغلق أمام جهودنا، مما أفضى إلى تجدد استجابتنا لحالة "الوجود في العالم" بوصفها، أولا وقبل كل شيء؛ منازعة غير منتهية ضد الآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تناور.. «فرصة أخيرة» للهدنة أو غزو رفح


.. فيديو يوثق اعتداء جنود الاحتلال بالضرب على صحفي عند باب الأس




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات القصف الإسرائيلي في جميع مدن ق


.. حماس: تسلمنا المقترح الإسرائيلي وندرسه




.. طالب يؤدي صلاته وهو مكبل اليدين بعدما اعتقلته الشرطة الأميرك