الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسرح بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الفنية

ابو الحسن سلام

2017 / 3 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لمسرح بين الحقيقة التاريخية والاجتماعية والحقيقة الفنية

أ.د/ أبو الحسن سلاّم

التاريخ والدراما

لا يبتعد الهدف الذي وضعه أرسطو للدراما المسرحية كثيراً عن الهدف الذي وضعه للتاريخ إلا من زاويتين : أن أحدهما يروي ما وقع نثرا أوشعرا ( التاريخ) والأخر يروي ما يحتمل وقوعه شعرا أو نثرا ، أما الأخرى فاختصاص الشعر بالتعبير عن الحقيقة الكلية ، بينما يقتصر التاريخ على التعبير عن الحقيقة الخاصة " إن مهمة الشاعر ليست رواية ما وقع فعلا، بل ما يمكن أن يقع ، على أن يخضع الممكن إما لقاعدة الاحتمال وإما قاعدة الحتمية ، إد ليس بالتأليف نظما أو نثرا يفترق الشاعر عن المؤرخ ، فأعمال هيرودوت كان يمكن أن تصاغ نظما ولكنها – مع دلك – منثورة ، بيد أن الفرق الحقيقي يكمن في أن أحدهما يروى ما وقع ، والآخر بروي ما يمكن أن يقع . وعلى هدا فإن الشعر يكون أكثر فلسفة من التاريخ وأعلى قيمة منه ؛ لأن الشعر عندئد يميل إلى التعبير عن الحقيقة الكلية ، العامة بينما التاريخ يميل إلي الخاص "

نفهم من تفربق أرسطو للتاريخ وللشعر بكل أنواعه الغنائي منها والملحمي القصصي والتعليمي منها والدرامي أن كتابة التاريخ تتقيد بما كان من وقائع وأحداث وأشخاص وعلاقات ، سواء كتب نظما بالشعر أم كتب بلغة النثر ؛ بينما تتقيد الكتابة الشعرية بما يحتمل وقوعه ؛ باعتبار الشعر تعبيرا ، والتاريخ ليس كدلك .

وتبعا لهدا التفريق تصنف الملحمة بإعتبارها قصة تروي تاريخ ما وقع في ماضي أمة من الأمم ، سواء كتبت شعرا أم نثرا , وهنا تظهر إشكالية تعرض الكتابة الدرامية المستلهمة لحدث تاريخي، سواء كتبت شعرا أم نثرا ؛ حيث بتحير الكاتب الدرامي سواء كتب للمسرح أو لفن الشاشة بين كيفية التوفيق بين الحدث أو الوقائع المستلهمة من التاريخ ومهارة التعبير عنها بشروط الدراما .
و لا يبتعد ذلك الهدف أيضاً عما رأى ابن خلدون في مقدمته عن هدف للتاريخ ، فالمؤرخ عند أرسطو يكتب الحادثة كما وقعت ، أما الشاعر غنائياً كان أم ملحمياً أم درامياً فإنه يكتب الحادثة المحتمل حدوثها أو المحتمل ؛ إعمالاً لخياله ، أو استلهامه التاريخي أو التراثي حيث يعيد تصويرها وفق الاحتما ، غير أن المؤرخ يستعمل لغة الفعل الماضي دائماً بأساليب الحكي بالسرد الوصفي للأفعال وللعلاقات وللأماكن وللعصور والأزمان المنصرمة وكلها أو أغلبها يكون محمولاً على صوت المؤرخ نفسه ، فرواية الحادثة أو الواقعة هي روايتها التي عاينها زمن حدوثها ومكان حدوثها وقد أناب نفسه لتأريخها ؛ إن لم يكن قد كلف من قبل حاكم أو صاحب سلطان بكتابة حوادث وقعت في عصره كتابة يجب أن تتسم بالموضوعية .

ولاشك أن الهدف من كتابة حوادث التاريخ هو الاعتبار كما يرى ابن خلدون في مقدمته وفي كتاب (ديوان العبر في المبتدأ والخبر) فعن طريق السجل التاريخي لأمة من الأمم يحفظ تراث الأمة وتراتبية قيمها وثقافاتها وأنسابها ومناط صعودها ومناط هبوطها ، نهوضها انكساراتها معاركها وحروبها وحالات سلمها ، أحوال اقتصادها وتجارتها وعلاقاتها مع دول الجوار أو علاقاتها مع القبائل الأخرى إن اقتصر التأريخ على قبيلة ما والمسرح يستهدف اعتبار متلقييه وجمهوره عندما يطهره من عاطفتي الشفقة والخوف على شخصية نبيلة تقف موقف الصراع مع الآلهة وتعرف أنها مقضي عليها لا محالة لعدم تكافؤها مع الآلهة الطرف الآخر في الصراع المأساوي أو عندما يطهر الجمهور من الصفات المرذولة والأفعال التي تحط من شأن الإنسان قولاً أو فعلاً أو طبقة أو جنساً في الصراع الكوميدي ومفارقاته . ففي كلتي الحالين يتطهر الجمهور وبذلك يتحقق الاعتبار الذي يرى ابن خلدون أنه الهدف الذي ينشده التاريخ
ومع أن المؤرخ يلزم نفسه في كل ما يسجل أو يؤرخ بالحقيقة التاريخية أو الاجتماعية لعصره – قدر استطاعته وكفاءته وأمانته – إلاّ أن الأديب شاعراً كان أم قاصاً أم مسرحياً يلزم نفسه بحقيقة أخرى هي الحقيقة الفنية ، حتى عند تعرضه مسرحياً لحادثة أو لشخصية تاريخية ، وهي لا تتمثل هنا في صدق روايته التاريخية وإنما يتجسد في صدق تعبيراته الفنية في الحقل الذي شمر له وعكس ذاته أو طبعه بطابع ذاته وطابع ذات مجتمعه وعصره وثقافته وجمهور فنه.

ولقد كتب وليم شكسبير أعمالاً مسرحية استمدت أحداثها والكثير من شخصياتها من تاريخ اسكتلندا ومن تاريخ بريطانيا والدانمارك مثل (هاملت) و ( مكبث) و (هنري الثاني ) و(هنري الخامس) (هنري الثامن) و (ريتشارد الثاني) و (ريتشارد الثالث( و( الملك جون) و(الملك لير (أو من تاريخ الرومان أو مصر مثل ( أنطونيو وكليوباترا) و( يوليوس قيصر) و(تيتوس اندرونيكوس) أو (كريولانوس) أو مثلما فعل كتاب مسرحيون مصريون كألفريد فرج في (سليمان الحلبي) و (سقوط فرعون) و(الزير سالم) وكما فعل علي أحمد باكثير في (الفلاح الفصيح ) وفي (اخناتون ونفرتيتي) وكما فعل مهدي بندق في (مقتل هيباشيا) وفي (السلطانة هند) وفي (غيط العنب) وفي (آخر أيام اخناتون) وفي (حتشبسوت بدرجة الصفر) وفي (بسماتيك) وكما فعلت آجاثا كريستي في مسرحيتها (أخناتون) وتوفيق الحكيم في (أهل الكهف) و(السلطان الحائر) وشوقي عبد الحكيم في (حسن ونعيمة ) وفي (شفيقة ومتولي) وكما فعل سعد الدين وهبة في (المسامير) وفي (راس العش) ونجيب سرور في (ياسين وبهية) ويسري الجندي في (الهلالية) وفي (عنتر) وشوقي في (مجنون ليلى) و(قمبيز) و(علي بك الكبير) و(مصرع كليوباترا) وكما فعل عزيز أباظه في (قيس ولبنى) وكما فعل محمد أبو العلا السلاموني في (رجل في القلعة) وفي ( الثأر ورحلة العذاب) وكما فعل د. أنس داود في (المتنبي) وفاروق جويده في (الوزير العاشق) (دماء على أستار الكعبة) و (الخديوي) وصلاح عبد الصبور في (مأساة الحلاج) وكما فعل برخت في (محاكمة لوكوللوس) و(كريولان) وفي (جان دارك) وكما فعل ت.س. إليوت في (جريمة قتل في الكاتدرائية) وجان أنوي في (بيكيت أو شرف الله) وألبير كامي في (كاليجولا) أو عبد الرحمن الشرقاوي في (الحسين ثائراً) وفي (الحسين شهيداً) وفي (عرابي زعيم الفلاحين) أو جورج بوشنر في (موت دانتون) أو هاوبتمان في (النساجون) أو جورج برنارد شو في (قيصر وكليوباترا) أو في (القديسة جون) أو (سالومي) أوسكار وايلد أو (سالومي) محمد سلماوي وغيرهم.
لقد استلهم هؤلاء الكتاب حوادث من التاريخ وشخصياته وكتب كل منهم ما كتب مستلهماً من حوادث التاريخ وشخصياته ما يمكن أن يسقطه على واقعه الاجتماعي وعصره لأنه وجد في الحدث التاريخي الذي تخيره والأماكن والأزمنة التي وقع فيها الحدث المستلهم من التاريخ ما يقارب حدثاً واقعياً حدث أو يحدث في مجتمعه وفي عصره ، ورغبة منه في أن يعتبر قومه (جمهور مسرحه) من الحدث التاريخي الذي أعاد تصويره بما يتوافق مع أسلوب الكتابة الدرامية أو المسرحية ليس هروباً من ردود فعل السلطة الحاكمة في مجتمعه ولكن لبريق الحادثة التاريخية المستلهمة ولما يبدو فيها من غرابة ومن ناحية ثانية فإن الصورة البعيدة التي ينظر إليها المشاهد أو المتلقي تكون موضع النظر وجذب الانتباه ومن ناحية ثالثة فإن الإنسان لا يمكنه مشاهدة صورة هو نفسه أحد مكوناتها غير أن الاستلهام المكاني لقصر تاريخي أو قلعة أو أثر من أثار القدماء لا يمكن أن يحل بحال محل الأثر التاريخي الحقيقي ولا سسسيمكن أن يطابقه ، لاعتبارات كثيرة أهمها إطار العرض المسرحي في دار عرض مغلقة أو حتى في الهواء الطلق ، إلاّ إذا تم العرض في حديقة تاريخية أو قلعة كقلعة قايتباي مثلاً (كما فعل أبو الحسن سلاّم في( حلم ليلة صيد ) أو على سطح مركب كبير مثلما فعل فهمي الخولي مخرج ( سالومي) أو ليلى أبو سيف في قلعة صلاح الدين في عرض (الأم شجاعة) أو عرض شهرزاد) لوليد عوني في محكى قلعة صلاح الدين فالصرح الأثري الحقيقي في مثل تلك العروض يشكل الخلفية الأقرب إلى الحقيقة "للمنظر" ومكان عرض الحدث أو إعادة عرضه ومع وضع المصمم الشينوجرافي لبعض الموتيفات والعناصر الجزئية المكملة والمحققة لمصداقية التشخيص ومقتضيات البيئة ولوازمها التعبيرية ، فسيظل العرض محافظاً على الحقيقة الفنية لا الحقيقة التاريخية ، وليس معنى ذلك أن فنان المسرح كاتباً كان أم مخرجاً أم ممثلاً أم مصمماً يعمل على تزييف التاريخ في واقعة أو شخصية ولكنه يبتكر حدثاً موازياً وفق حبكة ثانية كما فعل أحمد شوقي في (مصرع كليوباترا) إذ نسج قصة حب موازية لقصة حب (أنطونيو لكليوباترا) فجعل (هيلانة) جارية (كليوباترا) تقع في غرام (حابي) الوطني المعارض للملكة (كليوباترا) وابتكر ألفريد فرج في مسرحية سليمان الحلبي شخصية (حداية الأعرج ) شيخ منصر الناحية في موازاة شيخ المنصر الفرنسي المستعمر (كليبر) ليجسد تيمة نهب الشعب من عصابات الداخل ومن عصابة المستعمر الفرنسي الغازي معا. وحاكمت طبقات الشعب من الباعة والحرفيين الامبراطور الروماني (لوكوللوس) في العالم الآخر على إرسال أبنائهم إلى حروب متتالية دون أن يعود على هؤلاء الفقراء شيء منها سوى فقدان أبنائهم الذين جعلهم وقوداً لحروبه التي أراد أن يثبت فيها بطولات فارغة بأرواح الطبقات الفقيرة .

غير أن هناك النزعة الطبيعية في الأدب والفن ترى بذل الجهد في صدق التصوير والتجسيد الطبيعي المطابق أو الذي يأمل التطابق مع صورة الواقع الحياتي الفعلي المعيش وتمثله أعمال الفرنسي إميل زولا والمخرج الفرنسي أندريه أنطوان وتمثله مسرحية) النساجون) للألماني هاوبتمان ، وكما فعل من قبل في نهاية القرن الثامن عشر دوق ساكس ميننجن الذي يعده أكثر الباحثين أول مخرج مسرحي حقيقي ، إذ سعى في عروضه إلى تجسيد الحقيقة التاريخية في تصميم الأزياء وفي تصميم المناظر والملحقات ومع ذلك فإن عنصر الإمتاع إن لم يتحقق في العمل الأدبي أو المسرحي فلسوف يفقد خاصيته بوصفه فناً، فبالصدق التاريخي أو الواقعي الاجتماعي تتحقق للمسرح مصداقيته وقدرته على الإقناع ، وبالصدق الفني يتحقق للمسرح نصاً وعرضاً قدرته على الإمتاع الذي يشكل الوسيلة الوحيدة إلى وجدان المتلقين (الجمهور). وتلك هي المعادلة الصعبة أمام فنان المسرح كاتباً وممثلاً ومخرجاً ومصمماً شينوجرافياً وموسيقياً. كما يشكل بحثها بحثاً مسرحياً على المستوى النظري والتحليلي في العروض مشكلة حقيقية يجتهد الباحث الحقيقي في حلها.
ومن الأسف أن إنتاج الأعمال المسرحية والسينمائية في مصر قد انحسر إن لم يكن قد تم نسيانه كلية ، تبعاً لتغير العصر وضغوط تيار الخصخصة حتى في مظاهر الطبيعة وفقاً لمخطط خارجي يفرضه طغيان العولمة الاقتصادية والثقافية الأمريكية بوجه خاص نفياً لهويتنا أو دفعاً حاضاً على نفيها إلى العدم ، مع أن الشعوب الأجنبية في الغرب والشرق مغرمة أيما غرام بآثارنا وتراثنا الأمر الذي يمكن أن ينشط الحركة السياحية في مصر، ويشكل حاجز وقاية ضد ضغوط الخصخصة العولمية ومن الأسف كذلك أن انحسر الإنتاج المسرحي أيضاً لأعمال مستلهمة للتاريخ والتراث المصري أو العالمي بسبب فداحة التكلفة الاقتصادية من ناحية وانصراف فلول الطبقة الوسطى أو النذر القليل المتبقي منها عن الثقافة عن الآداب والفنون بعد أن كانت تشكل أهم جمهور المسرح والثقافة في مصر – وبذلك انحسرت فنون أخرى لا يقوم المسرح بدونها مثل الفنون التشكيلية مع أنها في نظري من أهم عوامل خروج المسرح المصري من أزمته الإبداعية، فلقد خرج المسرح الأوروبي والعالمي من عنق زجاجة الإبداع بفضل عمل فنانين تشكيليين بولنديين منن أمثال (كانتور – باربا – شاينا – مونجييك) مخرجين لعروضهم المسرحية . وهو مثل يمكن للمسرح المصري احتذاؤه إذا أراد له ناسه المتحكمون في إدارته أن يعود للثراء الإبداعي عرضاً وتشكيلاً وتأثيراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض


.. واشنطن وبكين.. وحرب الـ-تيك توك- | #غرفة_الأخبار




.. إسرائيل.. وخيارات التطبيع مع السعودية | #غرفة_الأخبار


.. طلاب بمعهد ماساتشوستس يقيمون خيمة باسم الزميل الشهيد حمزة ال




.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟