الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة بين نقد النزعة الابستيمولوجية و التحديدات اللغوية في فلسفة ريتشارد رورتي

محمد ادريسي

2017 / 3 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحقيقة بين نقد النزعة الابستيمولوجية و التحديدات اللغوية في فلسفة ريتشارد رورتي :
سوف أستعير قولا لبوانكاريه عندما قال في كتابه قيمة العلم " أنّ الحقيقة هي بمثابة شبح " من المستحيل الإمساك بها ، ففي اللحظة التي نعتقد أننا أمسكنا بها، تاخذ ألوانا وصيغا أخرى، فالحقائق غالبا ما تكون مشدودة إلى طبيعة المادة التي نشتغل عليها، فهي المحدد الرئيسي و السمة الواشمة للحقيقة التي تتماشى معها، بلغة كوهن كل براديغم و كل مادة لها حقيقتها التي تصبو إليها، لكن إذا تحدثنا بلغة مهدمة للفلسفات النسقية، هل يمكن القول أن الغاية و الهدف هو اللاحقيقة و اللامعنى؟
ينصب عمل رورتي بدرجة كبيرة على تقويض إدعاءات الإبستيمولوجيا الغربية، و العمل على إماطة اللثام على براديغم ظل يتغنى بمفاهيم من قبيل " المطلق " ، " الماهية " ، " الحقيقة " ... هذه المفاهيم لم تضف في اعتقاد رورتي أي شيء إلى المجهود الفلسفي المبذول بل إنّها عرقلت مسار البحث الفلسفي و قادته إلى وجهات لم تثمر، إنّ زحزحة أسس الفكر المطلق هو في صميمه هزة ستصيب نظرية المعرفة في صيغتها الديكارتية و الكانطية، و ستعلي من مقام فلسفات أخرى، الفلسفات التي ترى انّ الوسيط بين اللاحقيقة أو بالأحرى الحقيقة و المعنى هو اللغة، و اللغة هي من يسمح لنا بمغازلة الحقيقة بكيفيات مختلفة ولغات متعددة، و هذا الأمر هو ما يفقد الحقيقة حقيقتها .
إن أساس انتقال رورتي من الابستيمولوجي إلى اللغة أو بالأحرى صوب الهيرمينوطيقي، يقوم على خلفية أنّ الحياة أهم و أعظم من المعرفة، و هو انتقال من نظرة عقلانية إلى أخرى شاعرية، و أنّ ما في الخطاب أهم و أكبر بكثير من المعرفي و الأذاتي، و كأنّ ريتشارد يريد العودة باللغة إلى مرحلتها الأولى الطبيعية الخالية من المفاهيم العقيمة " إنّ الفلسفة ينبغي أن تفهم قبل كل شيء، ليس بوصفها البحث الإبستيمولوجي عن الحقيقة و لكن بوصفها البحث الهيرمينوطيقي لأشكال جديدة وهامة للقول "1
إنّ البحث في طبيعة المعرفة و ماهيتها، أو البحث عن الحقيقة لم ينتهي إلى حل الإشكالات المطروحة المتعلقة بإقرار أو إنكار لحقيقة ما نعرفه وما لا نعرفه، فقد نسي الإنسان الباحث عن الحقيقة بكل الوسائل، وسيلته المثلى في سبيل الحقيقة، أغفل الإنسان حقيقته و هو الذي بحث عن حقيقة كل شيء من الأشياء القريبة و البعيدة عنه من أصغر العوالم التي تحيط به إلى أعظم الأكوان التي يعتبر نفسه جزءا بسيطا من مكوناتها، تجاهل الإنسان حقيقته الناطقة و بعد أن فشل في بلوغ مراده من الأنطولوجيا و الإبستيمولوجيا يعود إلى جوهره الإنساني الناطق الذي به يصف الحقيقة و يعبر و يفصح عنها و لما كان رورتي يرفض أن " تسلك الفلسفة الطريق المضمونة العلم أي تلك الطريق التي رسمت مع أفلاطون و ديكارت و كانط ، و هي ذاتها الفلسفة العادية التي تماثل فلسفة الرياضيات و الفيزياء و ليس فلسفة الذوق و الشعر، فهي بالتالي عقيدة لبناء و تشييد حصون مغلقة للحقيقة و اليقين و ليس فلسفة مفتوحة للابتكار و التنشئة و الإصلاح "2
إنّ أية معرفة تقتضي بالضرورة تدخلا لغويا سواء كان تعبيرا بالرموز أو بالصور، بمعنى أن المسار الذي يخدم الحقيقة هو مسار وصفي، آي انتقال من المعرفة إلى اللغة " لا نستطيع التقدم خطوة خارج اللغة وأننا لا نستطيع أبدا إدراك الحقيقة ما لم يتوسط ذلك وصف إنساني "3 ، فاللغة هي ذلك الفهم الذي يجعل الإنسان في المقام الأول كموجود،بلغة هايدجر " اللغة هي مسكن الكائن " و هذا القول كان محل إعجاب و جذب لفلسفات متعددة كالبرغماتية، و التحليلية و الوجودية، و التي اتخذت من اللغة موضوعها الأول، هذا ما يظهر في تقدير رورتي من أن " ديوي يكون سعيدا و هو يرى أنّ القرن العشرين قد انتقل في وقت قصير إلى إهمال الحديث عن الطبيعة أو الواقع الهائي، و هذا الأمر راجع في جزء منه إلى التفوق المتنامي للغة كموضوع، و الذي تزامن مع الاعتراف المتزايد من جراء قدرتنا على وصف الشيء نفسه بكيفيات مختلفة بحسب الغايات ، و قدساعدنا هذا على جعل البرغماتية عذبة اكثر بوصفها مذهبا لنسبية الأحكام المعيارية مقارنة مع الأهداف "4 ، بمعنى أنّ اللغة أصبحت تعطي إمكانيات متعددة للتعبير عن موضوعات العالم، لأنه لا توجد حقائق بل توجد تاويلات ، فالفلسفة اللغوية هي التي ترى أن" المشكلات الفلسفية تحل إما من خلال إ إعادة صياغة اللغة أو من خلال فهم أعمق للغة التي نستعملها"5
بمعنى أن اللغة أصبحت هي الموجه لحل كل القضايا، و أيضا المنعرج اللغوي كان له دور في التمييز بين البراغماتيين و تصنيفهم إلى كلاسيكيين [ بيرس، ديوي، جيمس ]، و جدد [ كواين، وبونتام، وديفيدسون ورورتي ]، فاللغة حسب الاتجاه الثاني هي أداة جمالية لخلق جديد و تشكيل الذات وفق شروط جديدة تعارض الذات المتمركزة حول سلطة العقل" فاللغة ليست تقمصا أو تجسيدا للعقل أو تعبيرا عن ماهية إنسانية عميقة "6 بل هي أداة استطيقية ورموز تفكك كل الخطابات، و ما المراجعات التي يقوم بها الإنسان في جميع المجالات ما هي إلاّ وصف متجدد للخطاب الوجودي في كل تجلياته، إذ يجب أن نستدير نحو الرواية ضد النظرية " و هذا إقرار بمعقولية الأدبا و الشعراء الذي مكنوا الإنسانية من الاضطلاع على حرياتها وذلك من خلال لغات متعددة في الوصف و إعادة الوصف، و من خلال الخيال و الإبداع، و هذا تجاوز للغة المفهومية المنحدرة من سلالة سقراط، و يتماشى مع معطيات الفكر النتشوي .
فالمنعرج اللغوي هو تبني منطق المنطوقات و تجاوز البراديغم الغربي المحمول على نعش الحقيقة والعقل،وهو أيضا قلب للموازين، فالمنطق مثلا كان له مبتغى في مجموعة من الفلسفات، سيصبح وسيلة لخدمة اللغة، و هذا معناه أنّ رورتي وإن كان يرفض اللغة الابستيمولوجية الصارمة التي تبحث في الحقيقة إلاّ أنّه لا يرفضها إن كانت خادمة للغة.
هذه الرؤية نابعة من التحليل المستند على المنطق مع فريجه وراسل وكارناب و الذي يهدف إلى التخلص من الغموض و الالتباس القائم في اللغة ذاتها بحيث تغدو سليمة و يصبح تصورنا للعالم من منظور معرفي دقيقا،فالفرع الذي يندرج تحت اسم فلسفة اللغة له مصدرين " أحدهما يرجع غلى جنس المشكلات المعالجة من طرف فريجه و التي ناقشها فتجنشتاين في الرسالة و كارناب في المعنى والضرورة، هذه المشكلات تمس سؤالا هاما يتمحور حول معرفة كيفية تنظيم أو تنسيق مفاهيم المعنى و المرجع بشكل يسمح في نفس الوقت بالإفادة من المنطق الكمي و الحفاظ على حدوسنا الموجهة صفة عامة إلى إحداث مقاربة واضحة و مُرضية لشبكة تتشكل من مفاهيم الحقيقة، المعنى... "7 فالمنعرج اللغوي من داخل الفلسفة التحليلية عامة و الفكر الرورتي خاصة هو تحويل البراديغم الفلسفي من الوعي باتجاه العلامة ،ومن الفكر المجرد إلى الرمز و العلامة، هي نفس الرؤية التي تبناها فرانك صاحب كتاب ما هي البنيوية الجديدة؟ و هو في تقدير رورتي يسير في اتجاه المنطوق و الملفوظ، و يؤسس للمواقف الافتراضية التي تربط بين القصد و الصوت.
في الختام أقول اللغة تقول لكي لا تقول، و لا حقائق خارج حدود المنطوق، و اللاتواصل هو نوع من التواصل، والصمت ضجيج من الكلمات، فالحقيقة قول وفعل وصمت.




المراجع المعتمدة :
1. محمد جديدي : الحداثة و ما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، الجزائر، سنة 2005، ص 230.
2. المرجع نفسه ، ص 226.
3Richard Rorty, L’espoir au lieu du savoir, introduction au pragmatisme, p59 .
4Richard Rorty , Dewey entre Hegel et Dewey , novembre 1992, paris, pp 68-69.
5Richard Rorty , metaphysical difficultés, p3 .
6Richard Shusterman, vivre la philosophie : Pragmatisme et art de vivre, p 125.
7Richard Rorty , l’homme spéculaire, p278.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عودة محتجزين إسرائيليين من غزة تفتح باب الاحتمالات في الحرب


.. مصر تندد بالهجوم الإسرائيلي على مخيم النصيرات وتطالب بوقف ال




.. القنبلة الأميركية GBU 39.. سلاح إسرائيل الفتاك في غزة! | #ال


.. انهيار أرضي مفاجئ يؤدي إلى ابتلاع طريق سريع في ولاية #وايومن




.. قتلى بقصف إسرائيلي على مدينة غزة ومخيم البريج| #الظهيرة