الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرية نداء الوجود

عزالدين جباري
(AZEDDINE JABBARY)

2017 / 4 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ما الحرية؟ الحرية هي انعتاق من قيد، إذ لا تصور لمفهوم الحرية دون تصور لمفهوم القيد، فالحرية فضاء والقيد حيز ضيق. حين تضيق النفس بحضورها تتحرك نحو فضاء أرحب، نحو التحرر من الحضور الضيق إلى التحرك في حضور أرحب، يتجه نحو الاتساع.
فما الحرية إذا ؟ إنها ميدان للفكر تتراءى فيه الذات سارحة نحو مقصد محدد، نحو وجهة لها قبلة معلومة. إن الحرية فهم، والقيد انغلاق. إذا لم تعرف النفسُ معنىً يحررها، تظل راضخة للقيد، أو راضية عنه. فالأصل في وجود النفس الحرية، وزجها في البدن وفي الوجود في العالم قَيْدان، وضعفها أمام إغراء الشهوة، بكافة معانيها، قيد آخر، أو قل هي حجب تستر عنها رؤية الحقيقة، فتظل سادرة، لاهية، مغمورة، إلى أن يفك القيدَ عنها عقلٌ ثائرٌ، أو وازع من خارج، فتبدأ رحلة الشك، ثم تنتهي بالانزياح عن الغمرة، والسعي في اتجاه المعنى المنبلج، حينها يُسَمَّى هذا السعيُ حريةً.
الحرية هنا، هي مجال تحقق الذات الإنسانية الفردية، هي الصيرورة نحو الذات من أجل الامتلاء بمعنى يُجاوز الذات. فلا يُعقَل أن تسعى الذات إلى معانقة ذاتها التي لم تبرح أن أَبِقت منها، فهي تخشى أن تعود إلى القيد من جديد؛ إنها رحلة للمفارقة، وليست لفَّةً للمعانقة .
إن هذا المعنى الذي تسعى نحوه النفس، لِتُعْتق نفسها من الأغلال التي عليها، هو معنى فك رقبة. إن الرقبة هنا مفردة، ولا تزال مفردة ، لأن هذا السعي ذاتي خالص، ولا يمكن أن تعيه أذن لاغية، أو لاهية. فإذا كذب بهذا السعي مكذب فقد لغا سمعه عن هذه الحقيقة، وإن صَدَّق ثم أعرض عنها فهو لاهٍ، لم يُفِقْ، ولم يبرح وَضْعَ الكائن الغُفْل المغمور في بحار من الغفلات والشهوات، أو قل في صور من الحجب تَحُولُ بينه وأن ينفتح على حقيقة الوجود.
إن الوجود أمل مستمر، لذلك قال العارف: " الصوفي ابن وقته ". فالزمان آن لا يزال، سيولة متجهة نحو قِبلة الموعود، لا ماضي فيها ولا حاضر إلا ماضٍ يدفع نحو الأمام، أوحاضر يوغل في الإمكان، فلا توقف ولا قرار حتى يأتي الأمر اليقين، أمر الحرية المطلقة، حرية الروح حين تفارق النفس البدن، وتخلص روحا ونفسا طيبة مطمئنة. إنها المفارقة القصوى.
لا يُرجى خلاصٌ من أوجاع القلب، ولواعج الضمير إلا حين تعرف النفس الدرب، وتتحقق بصحة السعي، نحو كمال المدرَكات، في النفس، والعقل، والعلاقات، وتسخير الطبيعة. ولا كمال هناك إلا أن تصح الوجهة العليا، وهي وجه الله تعالى. فكل سعي لغير ابتغاء وجه الله إنما هو خَبْطُ عشواء مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ ومن تُخْطئ يُعَمَّر فيندمِ.
ما ادَّعاه كبار المتصوفين، مثل الغزالي رحمه الله، من وجود نوعين من العلوم، علومِ مكاشفة، وعلومِ معاملة، هو حق لا يجادل في حقيقته إلا حسيرُ نظرٍ .. غير أننا لا ندعي أننا شممنا له ريحا، اللهم ما يكون من وَجْدِ حلاوة الإيمان، وذوق لذة الذكر في بعض الأحايين.
ولا تصدق قولة المناطقة هنا، من أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، لأن التصور يحيط بالظواهر الخاضعة للقياس، أما عوالم النفس فلا يحيط بها فكر ولا يحدها بيان، كما أن طعم حلاوة السُّكَّر يكفينا لتوهم أصناف أخرى من الأذواق تضرب للحلاوة بسهم، أو تعلو عليها بسهوم.
إن عِلْمَ المكاشفة معنى صحيح، وهو يصح نقطة عليا للحرية، ولكن بخبير بها نترك الإخبار، ورحم الله عبدا عرف قدر نفسه فانزوى إلى ركن مكين.
ولعل علوم المعاملة التي أحيا ذكرها الغزالي هي واجب الوقت، وواجب في كل وقت، إذ هي فروض عين على كل ذي لب وبصيرة، على كل إنسان نازح عن بهيميته، متعال على إنِّيَّته، راغب في وجدان طمأنينة اليقين، و الأنس ببرد القرار. فالدين المعاملة، والحرية اختيار التسامي عن القيد.
انبلاج المعنى
قلنا إن العقل يفك عن الأنا النفسية إسارها، والأغلال التي عليها، فهل يعني ذلك أن النفس أبدا تُغَل؟ أم هي في الأصل كنز مغمور، لا يُمِدُّ إلى الدنيا إلا بحبال، فلا تعي أساسا إلا من وراء حجاب، ولا تنجلي لنفسها إلا إذا تحررت، فيكون تحررها انقشاع غمرتها، وانعتاقَها من شرانق الوهم والحس والتجريد؟
إنها نفس مغلولة، وكذلك هي، أبدا تُغَلُّ. ليس ما يحرر النفس من ألم الضمير، ووجع المعنى، ما تمنحه الظواهر من الأحكام والمقاييس، لأن علمها يصيب ظاهرا من الشيء ولا ينفذ إلى باطنه. إن الظاهر مجرد علامة والباطن هو المعلومُ. وأما العارض للذهن بينهما فعلامات لا تُخرج المعنى الباطن من ستره إلى السفور بل يظل الباطن مُحتجَبا في كنون. ولا يتبقى من سبيل للنفاذ إليه إلا سبيلُ المجاز؛ فالمجاز احتيال لغوي على المعنى الغائب في جوف الباطن. إن ما يمكن تعلمه هو الأعراض، وما يمكن تأويله يظل مجرد تنبؤ واحتمال، لا ضمانة للعقل الذي يُفَتِّقُ المعنى بمشاهدة اليقين.
فما اليقين إذا، إذا كان العلم مجرد ملابسةَ دَوالٍّ لمعان محتمَلة؟ إن المعنى الذي نقصده يتعلق بالشيء الذي تجده النفس، وليس التصور الذي يجده الذهن الذي يقبل القياس والحساب. إننا نتحدث عن المعنى الذي ليس له حساب، عن المعنى الذي يتعلق به السكون واليقين، في مقابل الشعور بالخواء والارتياب.
انكشاف المعنى أو انخداع للوهم
فهل ينكشف المعنى حقيقةً، أي على وجه اليقين؟
يبقى المعنى سلسلة من الدوال تترقى في مدارج لولبية نحو المعنى الباطن حتى تشرق في النفس أساريرُه، وتُمنَح للحاجة بهجتُها، وتنبعث في النفس طمأنينتها التامة.
يمكن للدوال التي تتفاوت درجات وضوحها في الدلالة على المعنى أن تقدم أوجها للمعنى الباطن، فترضى بها النفس على وجه الشمول ولا ترضى عنها غاية الرضا، ذلك الرضا الذي يكسر حدة الحاجة، و يبل لوعة الشوق، فيستمر الحراك الإرادي نحو معنى الكمال، وتكسب الحياة دفقها الحيوي، وحركيتها الواعدة. فالمعنى وعد مثلنا هو الوجود نداء.
إن في الإنسان نزوعا للاستجابة لوعد- ما –هناك، في أرجاء الكون، وفي أسرار النفس. لِمَ كان الإنسان قلقا، يريد أن يَعْلَم ويتعلم، ولم يكتف بوجوده الغريزي، مثل الحيوان؟ لِم يتعالى ويتسامى عن عتبة البهيمية ويُسخر عقله ووجدانه للسؤال؟ إن السؤال هو إجابة لنداء ينبع من الباطن ويتوجه إلى الآخر، كونا ووطنا، ذاتا وعلاقات، كلماتٍ وأشياءَ؛ هو شعور ملازما لنبض الحياة، أي ملازم للنفس مادامت قائمة بالجسد.
إن معنىً ما لا ينكشف إلا عن طريق الاستعارة، فالاستعارة آلية تجعل دوالاًّ تجاور دوال أخرى لتُكسِبها سمات منها، تُضيف إليها تلوينات من السمات الدالة تكون كافية لأن تصيب جوهرها بالتحول، تحيي في النفس حالة من الاندهاش.
لكن البلاغة تتوقف هنا، حيث ميدان العِبارة، فهي تُلَوِّن وتَسِم، لكنها لا تحمل القدرة على الكشف والجلاء، كشفِ الرؤيا وجلاء الهَمّ، لأن مجال الجلاء هو النفس وليس العبارة. إن العبارة ستار يحفظ المعنى من الغياب في رِداه العدم، وهي بتجددها تخرجه من دائرة النسيان. إن عبارة الدائرة هنا استعارة صائبة، أو قريبة من الصواب، لأن النسيان لا يعرف الاضمحلال التام، إذ هو ينزاح فقط عن دائرة الاستشعار والالتقاط، ويدخل حيزا من الوجود المحجوب، ويستمر في تحجبه إلى أن تهتك ستره العبارة، فتجلي منه ألوانا وقسمات وحروفا، ثم تفتح الإرادة على السعي، وعلى الحركة المتجددة إلى أن تبلغ النفس مداها عند آخر دال هو مبلغُها من العلم، أو تكافح المعنى عن طريق المكاشفة الوجدانية، أي عن طريق الذوق، والاستطعام النفسي، والالتذاذ الروحي.
حين يتجلى المعنى في حقيقته فهو لذاذة، وسرور، وطمأنينة. و أما أشكال حضوره فتتنوع من الدال الظاهر البسيط إلى الدال الأكثر دقة و جِدّةً، فالذوق الوجداني. لذلك فالإيمان مثلا قول، وعمل، وصبر، واختبار، ثم حلاوة، ثم يتكرر الدور نفسه مع الجِدة، التي عبرنا عنها بالتلاوين والوسوم التي تسم المعنى المنشود الذي تترصده الخطى، حتى يتحقق اليقين، الذي هو سيد المواجيد، وعمدة الأذواق. ثم لا يلبث هذا اليقينُ يُتَعهد و يُرعى حتى لا يصيبه البِلى، إذ الوجود-هنا هو فعل انعدام مستمر. وكل انعدام يفقد جوهره القائم به، ولا يستمر إيجاده بعد ذلك إلا بفعل الذِّكْر، فالذكر هو مغالبة النسيان السائل مع الزمان. فإذا كان الزمان عدو الوجود، فإن الذكر حياته. وإذا كان الزمان يهوي بالوجود في مهاوي النسيان فإنه لا يُفنيه من الوجود، وذلك أن الوجود قد يستمر غفلا مدة من الزمان في تلكم المهاوي الدوائر- التي قد نسميها دوائر السُّوْء - ثم يُعاوِد إحياءَه و إحلالَه رُتْبَة من الوجود. ومن أجل ذلك فكل تجديد في أمر الدين إنما هو إحياء و رجوع إلى الأصل.
يمكن لنا أن نصوغ منذ الآن قانونا عاما، قد يحتاج إلى مقالة بحُيالها، على الشكل التالي:
التجديد في أمور الدين والنفس والروح والأخلاق والإنسان إحياءٌ، والتجديد في المادة والكم والطبيعة والحساب تراكمٌ يتقدم.
ولنعد إلى قولنا في الوجود والانعدام، فإن قولنا [ الوجود فعل انعدام مستمر ] لا يحمل في مجال النفس دلالة متناقضة . ولقائل أن يتساءل فيقول : ( كيف ينعدم الشيء ويستمر في الوجود؟ ! ) لا بأس أن نُذَكِّر هنا ب" المنطلق الهام "، وهو الرؤيا الكونية، التي لا تتعدى عندي وجهان، وجه يُوَلّي جهة الخلق، ووجه يولي جهة الدهر، فالخَلْقيون يؤمنون بأسبقية العدم وبأن الخالق أوجد الكون بعد أن لم يكن، والدهريون يؤمنون بأزلية المادة، وبأن الوجود الإنساني سابق على تكون ماهيته. إن هذا المنطلق الأول منطلق " هامٌّ "، من فعل هَمَّ الذي يفيد الهَمّ، فمنطلق الهَمِّ ( sorge عند هيدجر) لدى الوجوديين يأتي من جهة الوجه الذي يُوَلّونه بعد الإجابة عن هذا السؤال.
إن الشيء لا ينعدم من ذاته، لأنه لم يوجد من ذاته، فالموجِدُ هو بلغة ابن سينا -ومن جرى على طريقته من الفلاسفة والمتكلمين- واجب الوجود، وبلغة القرآن هو الأول والآخر ، والبارئ والباقي ، فوجود الموجود من الذي برأه أول مرة، وبقاؤه من إبقائه، وعُدمه في كل حين بيده. ولقد شاء الله تعالى حين أراد الخلق أن يُنشئ الكون أن يحكم عليه بأن يكون فقال له : [ كن فيكون ] ، ولا تزال الكينونة حاضرة مستمرة، وإنما الوجود يتعلق بإحضار الكينونة وبالحضور فيها، أو بغيابها ومن ثمَّ السقوط في غمرات النسيان؛ وهذا الكلام وصفٌ في حق المؤمن، أما الشاك والمنكر فإنما يقع في وضع مَنْ يَخْرٍص، أي من يجهل المنطلق والاتجاه، ويكون سقوطه بالانسياق مع زمرة { الذين هم في غمرة ساهون .} الذاريات، الآية 11. فالذكر مراتب والنسيان درجات والغمرة ردهات.
إن الانعدام في الوجود هو انجراف مع تعاقب آنات الزمان، والوجود القريب من الحق هو استحضارُ الشدة في الحضور، الذي يتعين أحوالا سارية، أو باللفظ النبوي الجامع يتجلى نفحاتٍ : [ إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا ] رواه الطبراني في الكبير عن محمد بن مسلمة برقم: 2398 .
هي نفحات تغطي الوجود و ينبغي للإنسان الذي بلغ لحظة السعي أن يتعرض لها. ولعل هذه الاستعارة النبوية في عصرنا الرقمي الذي نحيا فيه لم تعد ملغزة ولا خافية على التمثل، فقد نشبه الأحوال الحضورية والنفحات السارية بشبكة عنكبوتية هائلة، ونشبه القلوب الواعية بالهواتف اللاقطة لشفرات الانفتاح. بيد أن البون شاسع والفرق عريض، فعالم النفس وجلالة الروح تغطيان على سبر العقل وتقسيمه، وتفسحان مأوى لحبور الروح ولتنسم رَوْحِ الحرية. أما آليات التفكيك فهي أغلال تشل حركة الروح وتكبح الانفتاح على عالم النور.
في مجال حرية الروح يكمن دور العقل في فك أغلال النفس حين يتحدث إليها بحقيقة الكبح، حين لا يعود كافيا للنفس الخلودُ إلى الأرض، و يحمى الاضطرار إلى ضرورة تجاوز هذا الكبح وتخطيه، أي إلى ضرورة اقتحام العقبة.
إن لوعة الشوق هي محرك هذه الرغبة وليس العقلُ، إنما العقل أداة فهم وتفسير لما هو قائم صلب، وما عدا ذلك من أمور الغيب إنما حده أن يكون دالا مشيرا، إن له مقاما يقف عنده، هو " الدلالة على " ، و " الإشارة إلى " ، ولا سبيل له ل" الإقامة في " .
ولعل ذلك عائد إلى أنه وعاء لا يقوى على تحمل إبهار نور الوجود، فالعقل يعقل، فإن لم يَقْوَ أن يعقل انبهر وانفرط، وتناثر مثل حبات العقد، فتعتري صاحبَه ألوانٌ من الخبط، والخبال، والجنون.
لكن لوعة الفؤاد إذا صَحَّتْ فإنها تُهَوِّنُ كُلَّ روعة، و السعي إذا استقام فإن النفس تصير معه قابلة لصورٍ من نفحات الوجود بحسب قوة الذكر، و سلامة " الاهتداء "، و صدق " الاتباع " للأسوة الحسنة على نبينا محمد أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
نختم ونقول، إن حقيقة الوجود سعيٌ { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى } النجم، الآية 39. وحاصل السعي بلوغ الجنة، فلمن خاف مقام ربه جنتان، فإن كانت في الدنيا جَنَّةٌ فهي المِنَحُ والعطايا التي يؤتيها رب الوجود لعباده المؤمنين، الذين يسارعون في الخيرات، وأشرفها إرادة القرب من مكان النداء، وابتغاء وجهه، ففيهما محل الهدى والشفاء، وفي الإعراض عن الذكر العمايةُ والوقر { أولئك يُنادَوْنَ من مكان بعيد } فصلت، الآية 44 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا