الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد نظرية الفعل التواصلي الهابرماسية

عبد العالي كركوب

2017 / 4 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


شكل النقد محطة أساسية في الفكر الفلسفي، إن لم نجزم بأن النقد هو أساس تطور الفلسفة واستمرارها... والنقد ليس وليد الفلسفة المعاصرة، بل كان حاضرا في الفلسفات السابقة؛ حيث نجد في الفلسفة اليونانية نقد أرسطو لنظرية المعرفة عند أفلاطون، وفي الفلسفة الإسلامية نذكر السجال الفكري الذي دار بين الغزالي وكتابه "تهافت الفلاسفة" وبين ابن رشد وكتابه "تهافت التهافت"، أما في الفلسفة الحديثة فنذكر نقد التجريبيين (فرنسيس بيكون، دافييد هيوم...) لأولوية العقل كأساس للمعرفة التي دافع عنها ديكارت، وتعويض العقل بالتجربة والحواس كأساس للمعرفة.

ويقصد بمفهوم النقد ذلك الفحص والتحليل المعمق الذي يهدف إلى تجاوز فكرة ما أو تعديلها... وارتبط هذا اللفظ بالفلسفة الألمانية سواء مع كانط أو هيجل أو ماركس... حيث يتضح بأن هذه الفلسفة بنيت على النقد مدشنة بذلك تيارا فلسفيا سمي ب"الفلسفة النقدية"، ومن أبرز ممثليها المعاصرين نجد رواد مدرسة فرانكفورت، ومن بينهم ممثل الجيل الثاني "يورغن هابرماس" صاحب نظرية الفعل التواصلي.

و إذا كان هابرماس بنى نظريته على نقد ممثلي الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت إضافة إلى اتجاهات فلسفية أخرى، كفلسفة الوعي، ومفهوم الصراع في الفلسفة الماركسية... فإن نظريته بدورها تعرضت للنقد من طرف مفكرين وفلاسفة آخرين، نذكر من أهمهم: جون فرنسوا ليوطار، نيكلاس لوهمان، و شانتال موف.

1) نقد جون فرانسوا ليوطار لمفهوم الإجماع الهابرماسي:
يعتبر الفيلسوف الفرنسي جون فرانسوا ليوطار (1924-1998) من الفلاسفة المعاصرين، وأحد ممثلي فلسفة الاختلاف و أبرز منظري فلسفة ما بعد الحداثة، ولقد قدم نقدا لنظرية الإجماع لدى هابرماس، التي تنبني في أساسها على نظرية الفعل التواصلي. ويتمثل نقده في كتابين أساسيين، وهما: "التنازع" و "حقبة ما بعد الحداثة". فإذا كانت نظرية الإجماع الهابرماسية تهدف إلى تحقيق إجماع مشترك بين المتخاطبين بصدد قضايا معينة تكون محطة نقاش و تداول،(1) فإن ليوطار يؤكد على أن الاختلاف هو الذي ينتج الإبداع أما الإجماع فهو يقتله، يقول ليوطار في هذا الصدد: " إن الاختلاف أقدر على الابتكار من الإجماع" (2) كما يذهب أبعد من ذلك حين يعتبر الإجماع إرهاب عقلاني، يقول مانفرد فرانك في كتابه حدود التواصل: الإجماع و التنازع بين هابرماس و ليوطار: " هناك أمل يحدو ليوطار و نود أن نأخذه محمل الجد، لا باعتباره حجة بل باعتباره إعلانا عن موقف حياتي، و هو بالأخص الأمل في الابتكار أي في تغيير الأنظمة الترميزية المتصلبة و يضيف إلى ذلك قوله (ليوطار) بأن اختلاف الناس بحكم الطابع الإبداعي الذي يوجِد تغيير المعنى، يفرز اقتضاءات أكثر جدوى من كلية الإجماع الذي تفضي إليه المناقشة" (3) و المقصود بهذا القول أن ليوطار حاول تجاوز النظرة الثابتة للتواصل عموما و للإجماع بشكل خاص، و التي تفضي إلى الانغلاق و التقوقع، و ما يساهم في هذه الحالة هو اعتماد أخلاقيات المناقشة التي لا تقبل التحريف أو التغيير باعتبارها أخلاقيات كونية، و عوض ذلك يقر ليوطار أن الاختلاف هو أساس الإبداع داخل العملية التواصلية، و هنا إشارة إلى حضور مفهوم الصراع أو التنازع، الذي سبق لهابرماس أن عوضه بمفهوم الحوار في نقده للفلسفة الماركسية.

2) نقد نيكلاس لوهمان لنظرية التواصل الهابرماسية:
غير بعيد عن الطرح الذي توقفنا عنده مع ليوطار، يقدم نيكلاس لوهمان (1927-1998) انطلاقا من كتابه "الأنساق الاجتماعية" نقدا لنظرية التواصل عند هابرماس.. و يتمثل هذا النقد في اعتباره أن التواصل لا يجب أن ينبني على مبادئ أنطولوجية، كما أن التواصل يجب ألا يهدف إلى الإجماع، لأنه عبارة عن لعبة يقوم على الاختلاف بين المعلومة و التوصيل، و بالتالي "فالتواصل كإختلاف هو إبداع أما التواصل كإجماع فهو قتل للإبداع".(4)
و يؤكد لوهمان على عكس هابرماس دائما أن التواصل يقوم على الصراع الذي يحافظ على مرونة النظام و قابليته المستمرة للتعلم. و يختزل لوهمان التواصل في كونه تفاعل لثلاث عناصر، و هي: الإخبار، الخبر أو المعلومة، و الفهم. و بالتالي فرغم أن الخبر واحد فإن عمليتي الإخبار و الفهم تختلفان من شخص إلى آخر، مما يجعل التواصل قائم على الاختلاف و ليس الإجماع.

3) نقد شانتال موف لنظرية التواصل الهابرماسية في شقها السياسي.
أعادت المفكرة البلجيكية المعاصرة شانتال موف (1943 – …..) التفكير في مفهوم "السياسي" و "ما بعد السياسي" في نقدها للديمقراطية الليبرالية التي يعتبر هابرماس أحد المنظرين لها و المدافعين عنها، فأكدت - و على عكس هابرماس - أن التنظير الليبرالي الحالي لا يميز بين الخطاب الأخلاقي و الخطاب السياسي (5) و أن الإجماع الكلي يعد منظورا ضالا... كما أقرت بأن المجال التواصلي، و المجال السياسي بالخصوص تسوده التعددية و التنازع و الصراع، فالمجتمع الديمقراطي - حسب شانتال موف - لم يعد بالإمكان تصوره كمجتمع من شأنه أن يحقق حلم الانسجام و الشفافية المثالية، و لا يمكن أن ينال طابعه الديمقراطي إلا من خلال غياب أي فاعل اجتماعي ينسب لنفسه تمثيل الكل.
و أكدت شانتال موف في ذات السياق، أن الممارسة السياسية تكمن في تشكيل الهويات، و أن الهدف ليس القضاء على السلطة، و إنما خلق أنماط من السلطة تتماشى مع القيم الديمقراطية.
و عموما، فشانتال موف انطلقت في نقدها لهابرماس من مرجعية الفكر ما بعد الحداثي من جهة، حيث جاءت ضرورة استخدام الأدوات النظرية التي وضعتها التيارات المختلفة لما يمكن أن يسمى ما بعد الحداثة في الفلسفة و الاستيلاء على نقدهم للعقلانية و الذاتية. (6) كما استندت أيضا على الفكر الماركسي في دفاعها عن مفهوم الصراع و الجدل، و إن كانت لم توظفهما صراحة حيث عوضتهما بمفهوم التعددية و التنازع...

و لكي لا يفهم موقف شانتال موف خارج سياق ما نحن بصدده، أذكر بأن هابرماس أسقط نظريته في الفعل التواصلي على المجال السياسي، حيث تحدث عن مفهوم الفضاء العمومي و الديمقراطية التشاورية التي تستثمر أخلاقيات المناقشة (و هنا يتمثل الجمع بين ما هو سياسي و ما هو أخلاقي الذي دعت شانتال موف إلى الفصل بينهما) فأعطى الأولوية لمفهوم الإجماع و الحوار متجاوزا مفهوم التنازع و الصراع... و يهود موقفه هذا كما أشرت في البداية إلى نقده للتصور الماركسي الذي يجعل من الصراع محرك التاريخ و أساس الانتقال من مجتمع ذو طبيعة محددة إلى مجتمع آخر تختف بنيته التحتية و الفوقية على ما كان من قبل.

و في الأخير، أود أن أوضح أن نقد نظرية الفعل التواصلي لهابرماس، لم يكن الغرض منها التنقيص من قيمتها أو إبراز عيوبها، و إنما شكلت منطلقا للحديث عن نظريات فلسفية تواصلية و سياسية أخرى، اعتمدت مفاهيم جديدة...
و بالنسبة للانفتاح عن المجال السياسي، فهذا تأكيد على أن النظريات التواصلية تهم العلاقات التواصلية للمتخاطبين المنتمين لمجتمع سياسي، اجتماعي، اقتصادي، و ثقافي... لذا فالحديث عن التواصل هو حديث عن كل أشكال وأنماط و مواقع التواصل...


الـــهــــوامــــش:

1) محمد، الأشهب، الفلسفة و السياسة عند هابرماس: جدل الحداثة و المشروعية و التواصل في فضاء الديمقراطية، منشورات دفاتر سياسية، 2006، ص. 40

2) محمد، الأشهب، مرجع سابق، ص. 41

3) مانفرد، فرانك، حدود التواصل: الإجماع و التنازع بين هابرماس و ليوطار، ترجمة عز العرب حكيم بناني، دار افريقيا للشرق، 2003، ص. 27

4) رشيد، بوطيب، ، مفهوم التواصل في الفلسفة: من الحقيقة إلى الاختلاف (هابرماس و لوهمان) aljabriabed.net/n88_08boutayeb.htm (تاريخ المطالعة: 10.5.2015)

5) Chantal mouffe, the return of de political, first published, by verso, 1993, p. 148

6) Chantal mouffe, the return of de political, first published, by verso, 1993, p. 10








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التعبئة الطلابية التضامنية مع الفلسطينيين تمتد إلى مزيد من ا


.. غزة لأول مرة بدون امتحانات ثانوية عامة بسبب استمرار الحرب ال




.. هرباً من واقع الحرب.. أطفال يتدربون على الدبكة الفلسطينية في


.. مراسل الجزيرة: إطلاق نار من المنزل المهدوم باتجاه جيش الاحتل




.. مديرة الاتصالات السابقة بالبيت الأبيض تبكي في محاكمة ترمب أث