الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإسرائيليات بين الإسلام والمسيحية ج1

خالد سلامة

2017 / 4 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الإسرائيليات

المراد بالإسرائيليات ومدى الصلة بينها وبين القرآن:
لفظ الإسرائيليات وإن كان يدل بظاهره على اللون اليهودى للتفسير، وما كان للثقافة اليهودية من أثر ظاهر فيه، إلا أنَّا نريد به ما هو أوسع من ذلك وأشمل، فنريد به ما يعم اللهون اليهودى واللون النصرانى للتفسير، وما تأثر به التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية.
وإنما أطلقنا على جميع ذلك لفظ "الإسرائيليات"، من باب التغليب للجانب اليهودى على الجانب النصرانى، فإن الجانب اليهودى هو الذى اشتهر أمره فكثر النقل عنه، وذلك لكثرة أهله، وظهور أمرهم، وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام إلى أن بسط رواقه على كثير من بلاد العالم ودخل الناس فى دين الله أفواجاً.
كان لليهود ثقافة دينية، وكان للنصارى ثقافة دينية كذلك، وكلتا الثقافتين كان لها أثرفى التفسير إلى حد ما.
أما اليهود، فإن ثقافتهم تعتمد ألو ما تعتمد على التوراة التى أشار إيها القرآن بقوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} ودلَّ على بعض ما جاء فيها من أحكام بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}..
وكثيراً ما يستعمل المسلمون واليهود أنفسهم لفظ "التوراة" ويطلقونه على كل الكتب المقدَّسة عند اليهود فيشمل الزبور وغيره. وتسمى التوراة بما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها: العهد القديم.
وكان لليهود بجانب التوراة سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ عن موسى بطريق الكتابة، وإنما تحمَّلوها ونقلوها بطريق المشافهة، ثم نمت على مرور الزمن وتعاقب الأجيال، ثم دُوِّنت وعُرِفت باسم التلمود، ووُجِد بجوار ذلك كثير من الأدب اليهودى، والقصص، والتاريخ، والتشريع، والأساطير.
وأما النصارى فكانت ثقافتهم تعتمد - فى الغالب الأهم - على الإنجيل، وقد أشار القرآن إلى أنه من كتب السماء التى نزلت على الرسل فقال: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} وغير هذا كثير من آيات القرآن التى تشهد له بذلك.
والأناجيل المعتبرة عند النصارى يُطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل، اسم: العهد الجديد. والكتاب المقدّس لدى النصارى يشمل: التوراة والإنجيل ويُطلق عليه: العهد القديم والعهد الجديد.
وكان طبيعياً أن يُشرح الإنجيل بشروح مختلفة، كانت فيما بعد منبعاً من منابع الثقافة النصرانية، كما وُجِدَ بجوار ذلك ما زاده النصارى من القصص، والأخبار، والتعاليم، التى زعموا أنهم تلقوها عن عيسى عليه السلام، وهذا كله كان من ينابيع هذه الثقافة النصرانية.
إذن... فقد كانت التوراة المصدر الأول لثقافة اليهودية الدينية، كما كان الإنجيل المصدر الأهم لثقافة النصارى الدينية.
وإذا نحن أجلنا النظر فى التوراة والإنجيل نجد أنهما قد اشتملا على كثير مما اشتمل عليه القرآن الكريم، وبخاصة ما كان له تعلق بقصص الأنبياء عليهم السلام، وذلك على اختلاف فى الإجمال والتفصيل، فالقرآن إذا عرض لقصة من قصص الأنبياء - مثلاً - فإنه ينحو فيها ناحية يخالف بها منحى التوراة والإنجيل، فتراه يقتصر على مواضع العظة، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل، فلا يذكر تاريخ الوقائع، ولا أسماء البلدان التى حصلت فيها، كما أنه لا يذكر فى الغالب أسماء الأشخاص الذين جرت على أيديهم بعض الحوادث. ويدخل فى تفاصيل الجزئيات، بل يتخيَّر من ذلك ما يمس جوهر الموضوع، وما يتعلق بموضع العبرة.
وإذا نحن تتبعنا هذه الموضوعات التى اتفق فى ذكرها القرآن والتوراة، أو القرآن والإنجيل، ثم أخذنا موضوعاً منها، وقارنا بين ما جاء فى الكتابين وجدنا اختلاف المسلك ظاهراً جلياً.
فمثلاً قصة آدم عليه السلام، ورد ذكرها فى التوراة، كما وردت فى القرآن فى مواضع كثيرة، أطولها ما ورد فى سورة البقرة، وما ورد فى سورة الأعراف. وبالنظر فى هذه الآيات من السورتين، نجد أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة، ولا لنوع الشجرة التى نُهِى آدم وزوجه عن الأكل منها، ولا بيَّن الحيوان الذى تقمصه الشيطان فدخل الجنة ليزل آدم وزوجه. كما لم يتعرَّض للبقعة التى هبط إليها آدم وزوجه وأقام بها بعد خروجهما من الجنة... إلى آخر ما يتعلق بهذه القصة من تفصيل وتوضيح.
ولكن نظرة واحدة يجيلها الإنسان فى التوراة يجد بعدها أنها قد تعرَّضت لكل ذلك وأكثر منه. فأبانت أن الجنة فى عدن شرقاً، وأن الشجرة التى نُهيا عنها كانت فى وسط الجنة، وأنها شجرة الحياة، وأنها شجرة معرفة الخير والشر، وأن الذى خاطب حواء هو الحيَّة، وذكرت ما انتقم الله به من الحيَّة التى تقمصها إبليس، بأن جعلها تسعى على بطنها وتأكل التراب، وانتقم من حواء بتعبها هى ونسلها فى حبلها... إلى آخر ما ذُكر فيها مما يتعلق بهذه القصة.
ومثلاً نجد القرآن الكريم قد اشتمل على موضوعات وردت فى الإنجيل، فمن ذلك قصة عيسى ومريم، ومعجزات عيسى عليه السلام، كل ذلك جاء به القرآن فى أسلوب موجز، يقتصر على موضع العظة، ومكان العبرة، فلم يتعرَّض القرآن لنسب عيسى مفصَّلاً، ولا لكيفية ولادته، ولا للمكان الذى وُلِدَ فيه، ولا لذكر الشخص الذى قُذِفت به مريم، كما لم يتعرض لنوع الطعام الذى نزلت به مائدة السماء، ولا لحوادث جزئية من إبراء عيسى للأكمة والأبرص وإحياء الموتى..
مع أننا لو نظرنا فى الإنجيل لوجدناه قد تعرَّض لنسب عيسى، ولكيفية ولادة مريم له، ولذكر الشخص الذى قُذِفت به مريم، ولنوع الطعام الذى نزلت به مائدة السماء ولحوادث جزئية من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى، ولكثير من مثل هذا التفصيل الموسَّع الذى أعرض عنه القرآن فلم يذكره لنا.
وبعد... فهل يجد المسلمون هذا الإيجاز فى كتابهم، ويجدون بجانب ذلك تفصيلاً لهذا الإيجاز فى كتب الديانات الأخرى، ثم لا يقتبسون منها بقدر ما يرون أنه شارح لهذا الإيجاز وموضِّح لما فيه من غموض؟.. هذا ما نريد أن نعرض له فى هذا البحث، ليتبين لنا كيف دخلت الإسرائيليات فى التفسير، وكيف تطوَّر هذا الدخول، وإلى أى حد تأثر التفسير بالتعاليم اليهودية والنصرانية.
* *
* مبدأ دخول الإسرائيليات فى التفسير وتطوره:
نستطيع أن نقول: إن دخول الإسرائيات فى التفسير، أمر يرجع إلى عهد الصحابة رضى الله عنهم، وذلك نظراً لاتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل فى ذكر بعض المسائل كما تقدَّم، مع فارق واحد، هو الإيجاز فى القرآن، والبسط والإطناب فى التوراة والإنجيل. وسبق لنا القول بأن الرجوع إلى أهل الكتاب، كان مصدراً من مصادر التفسير عند الصحابة، فكان الصحابى إذا مَرَّ على قصة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلاً إلى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن منها ولم يتعرض له، فلا يجد مَن يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا فى الإسلام، وحملوا إلى أهله ما معهم من ثقافة دينية، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار والقصص الدينى.
غير أن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شئ، ولم يقبلوا منهم كل شئ، بل كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحاً للقصة وبياناً لما أجمله القرآن منها، مع توقفهم فيما يُلقى إليهم، فلا يحكمون عليه بصدق أو بكذب ما دام يحتمل كلا الأمرين، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا}.. الآية.
كما أنهم لم يسألوهم عن شئ مما يتعلق بالعقيدة أو يتصل بالأحكام، اللّهم إلا إذا كان على جهة الاستشهاد والتقوية لما جاء به القرآن. كذلك كانوا لا يعدلون عما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك إلى سؤال أهل الكتاب، لأنه إذا ثبت الشئ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لهم أن يعدلوا عنه إلى غيره، كما كانوا لا يسألون عن الأشياء التى يُشبه أن يكون السؤال عنها نوعاً من اللهو والعبث، كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف، والبعض الذى ضُرِب به القتيل من البقرة، ومقدار سفينة نوح، ونوع خشبها، واسم الغلام الذى قتله الخضر.. وغير ذلك، ولهذا قال الدهلوى بعد أن بيّن أن السؤال عن مثل هذا تكلف ما لا يعنى: "وكانت الصحابة رضى الله عنهم يعدون مثل ذلك قبيحاً من قبيل تضييع الأوقات".
كذلك كان الصحابة لا يُصَدِّقون اليهود فيما يخالف الشريعة أو يتنافى مع العقيدة. بل بلغ بهم الأمر أنهم كانوا إذا سألوا أهل الكتاب عن شئ فأجابوا عنه خطأ، رَدُّوا عليهم خطأهم. وبيَّنوا لهم وجه الصواب فيه، فمن ذلك ما رواه البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلى يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه". وأشار بيده يقللها.
فقد اختلف السَلَف فى تعيين هذه الساعة، وهل هى باقية أو رُفِعَت؟ وإذا كانت باقية، فهل هى فى جمعة واحدة من السنة أو فى كل جمعة منها؟ فنجد أبا هريرة رضى الله عنه يسأل كعب الأحبار عن ذلك، فيجيبه كعب: بأنها فى جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا ويبيِّن له: أنها فى كل جمعه، فيرجع كعب إلى التوراة، فيرى الصواب مع أبى هريرة فيرجع إليه.
كما نجد أبا هريرة أيضاً يسأل عبد الله بن سلام عن تحديد هذه الساعة ويقول له: أخبرنى ولا تضن علىّ، فيجيبه عبد الله بن سلام بأنها آخر ساعة فى يوم الجمعة، فيرد عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة فى يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصادفها عبد مسلم وهو يُصَلِّى" وتلك الساعة لا يُصلَّى فيها؟ فيجيبه عبد الله بن سلام بقوله: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو فى صلاة حتى يُصلِّى"؟... الحديث.
فمثل هذه المراجعة التى كانت بين أبى هريرة وكعب تارة، وبينه وبين ابن سلام تارة أخرى، تدلنا على أن الصحابة كانوا لا يقبلون كل ما يقال لهم، بل كانوا يتحرون الصواب ما استطاعوا، ويردُّون على أهل الكتاب أقوالهم إن كانت لا توافق وجه الصواب.
ومهما يكن من شئ فإن الصحابة - رضى الله عنهم - لم يخرجوا عن دائرة الجواز التى حدَّها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما فهموه من الإباحة فى قوله عليه السلام: "بلِّغوا عنى ولو آية، وحَدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج، ومَن كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
كما أنهم لم يخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا... الآية" ولا تعارض بين هذين الحديثين، لأن الأول أباح لهم أن يُحَدِّثوا عما وقع لبنى إسرائيل من الأعاجيب، لما فيها من العبرة والعظة، وهذا بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوباً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعقل أن يبيح لهم رواية المكذوب.
قال الحافظ ابن حجر فى الفتح عند شرحه لهذا الحديث: "وقال الشافعى: من المعلوم أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى: حَدِّثوا عن بنى إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوِّزونه فلا حَرَج عليكم فى التحدث به عنهم. وهو نظير قوله: "إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تُصَدِّقوهم ولا تُكَذِّبوهم"، ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه".
وأما الحديث الثانى، فُيراد منه التوقف فيما يُحدِّث به أهل الكتاب، مما يكون محتملاً للصدق والكذب، لأنه ربما كان صدقاً فيُكَذِّبونه، أو كذباً فيُصَدِّقونه، فيقعون بذلك فى الحَرَج، أما ما خلفا شرعنا فنحن فى حِلٍّ من تكذيبه، وأما وافقه فنحن فى حِلٍّ من تصديقه.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم" : "أي: إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً، لئلا يكون فى نفس الأمر صدقاً فتكذِّبوه، أو كذباً فتصدِّقوه، فتقعوا فى الحَرَج، ولم يرد النهى عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه. نبَّه على ذلك الشافعى رحمه الله"...
ثم قال: طوعلى هذا نحمل ما جاء عن السَلَف من ذلك".
وأما ما أخرجه الإمام أحمد، وابن أبى شيبة، والبزار، من حديث جابر ابن عبد الله: "أن عمر بن الخطاب أتى النبى صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب فقال: "أمتهوكون فيها يا بن الخطاب؟والذى نفسى بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فَتُكَذِّبوا به، أو بباطل فَتُصَدِّقوا به، والذى نفسى بيده، لو أنَّ موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعنى" فلا يعارض ما قلناه من الجواز، لأن النهى الوارد هنا كان فى مبدأ الإسلام وقبل استقرار الأحكام. والإباحة بعد أن عُرِفت الأحكام واستقرَّت، وذهب خوف الاختلاط.. قال الحافظ ابن حجر فى الفتح: "وكأن النهى وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، فلما زال المحذور وقع الإذن فى ذلك، لما فى سماع الأخبار التى كانت فى زمانهم من الاعتبار".
ويمكن أن ندفع ما يُتوهم من التعارض بما نقله ابن بطال عن المهلب أنه قال: "هذا النهى إنما هو فى سؤالهم عما لا نص فيه، لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص ففى النظر والاستدلال غنىً عن سؤالهم، ولا يدخل فى النهى سؤالهم عن الأخبار المصدِّقة لشرعنا، والأخبار عن الأمم السالفة". ومن هذا كله يتبين لنا: أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث الثلاثة، كما يتبين لنا المقدار الذى أباحة الشارع من الرواية عن أهل الكتاب.
ولسنا بعد ما فهمناه من هذه الأحاديث، وما عرفناه من حرص الصحابة، على امتثال ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، نستطيع أن نقر الأستاذ "جولدزيهر" والأستاذ أحمد أمين على هذا الاتهام الذى وجَّهاه إلى ابن عباس خاصة، وإلى الصحابة عامة، من رجوعهم إلى أهل الكتاب فى كل شئ، وقبولهم لما نهى الرسول عن أخذه من أهل الكتاب، وقد ذكرنا كلامهما ورددنا عليه عند الكلام عن ابن عباس، كما ذكرنا الأثر الذى أخرجه البخارى عن ابن عباس، وفيه يُشدِّد - رضى الله عنه - النكير على مَن يأخذون من أهل الكتاب ويُصدِّقونهم فى كل شئ، فهل يُعقل بعد هذا، وبعد ما عرفناه من عدالة الصحابة وحرصهم على امتثال أوامر الله ورسوله، ومراجعة أبى هريرة لكعب الأحبار وعبد الله بن سلام، أن نعترف بتهاون الصحابة ومخالفتهم لتعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم!! اللهم إنَّا لا نقر ذلك ولا نرضاه.
وأما ما ذكره الأستاذ "جولدزيهر": من أن ابن عباس كان يرجع لرجل يسمى أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدى فى تفسير القرآن، فعلى فرض صحة ذلك. فإنّا لا نكاد نُصدِّق أن ابن عباس كان يرجع إليه فى كل شئ، بل كان يرجع إليه فيسأله عن أشياء لا تعدو دائرة الجواز، وليس من شك فى ذلك بعد ما عرفتَ من شدة نكير ابن عباس على مَن كان يرجع لأهل الكتاب ويأخذ عنهم.
وأما ما اعتمد عليه هذا المستشرق فى دعواه هذه، من أن الطبرى سعند تفسيره للفظ "البرق" فى قوله تعالى فى الآية من سورة الرعد: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً}.. نسب إلى ابن عباس أنه قال: إنَّ أبا الجدل يقول: إن معناه المطر فهو اعتماد لا يكاد ينهض بهذه الدعوى، لأن ما رواه ابن جرير رواه عن المثنى، قال: حدَّثنا حجاج، قال: حدَّثنا حماد، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن عباس قال: كتب ابن عباس إلى أبى الجلد يسأله عن البرق فقال: البرق: الماء" وهذا إسناد منقطع، لأن موسى بن سالم أبا جهضم لم يدرك ابن عباس، ولم يكن مولى له، وإنما كان مولى العباسيين، وروى عن أبى جعفر الباقر الذى كان بعد ابن عباس بمدة طويلة ولعل ما قاله ابن جرير من أنه مولى ابن عباس هو منه، أو لعله خطأ وقع أثناء الطبع.
ثم إنَّ سؤال ابن عباس عن معنى البرق، ليس سؤالاً عن أمر يتعلق بالعقيدة أو الأحكام، وإنما هو سؤال يرجع إلى تعرف بعض ظواهر الكون الطبيعية، وليس فى هذا ما يجر إلى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فى نهيه عن سؤال أهل الكتاب. على أن الحديث ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس صدَّق أبا الجلد فيما قال، وكل ما فيه: أنه حكى قوله فى البرق. وأما ما نُسِب لعبد الله بن عمرو بن العاص من أنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يُحدِّث منهما، فليس على إطلاقه، بل كان يُحَدِّث منهما فى حدود ما فهمه من الإذن فى قوله عليه السلام: " حَدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج" كما نص على ذلك ابن تيمية.
هذا هو مبلغ رجوع الصحابة إلى أهل الكتاب وأخذهم عنهم. أما التابعون فقد توسَّعوا فى الأخذ عن أهل الكتاب، فكثرت على عهدهم الروايات الإسرائيلية فى التفسير، ويرجع ذلك لكثرة مَن دخل مِنْ أهل الكتاب فى الإسلام، وميل نفوس القوم لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فظهرت فى هذا العهد جماعة من المفسِّرين أرادوا أن يسدُّوا هذه الثغرات القائمة فى التفسير بما هو موجود عند اليهود والنصارى، فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض، ومن هؤلاء: مقاتل بن سليمان (المتوفى سنة 15 هـ) الذى نسبه أبو حاتم إلى أنه استقى علومه بالقرآن من اليهود والنصارى وجعلها موافقة لما فى كتبهم، بل ونجد بعض المفسِّرين فى هذا العصر - عصر التابعين - يصل بهم الأمر إلى أن يصلوا بين القرآن وما يتعلق بالإسلام فى مستقبله، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل، والتنبؤ بما يطويه الغيب، فهذا مقاتل بن سليمان، كان يرى أن قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذالِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً}. يرجع إلى فتح القسطنيطنية، وتدمير الأندلس وغيرها من البلاد، فقد جاء عنه أنه قال: وجدتُ فى كتاب الضحاك بن مزاحم فى تفسيرها: "أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف، وأما خراسان فهلاكها ضروب... ثم ذكر بلداً بلداً. وروى عن وهب بن منبه: أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر، ومصر آمنتة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى، فتُحِت قسطنطينية على يد رجل من بنى هاشم، وخراب الأندلس من قِبَل الزنج، وخراب إفريقية من قِبَل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراق العراق من الجوع. وخراب الكوفة من قِبَل عدو يحصرهم ويمنعهم من الشراب من الفرات، وخراب البصرة من قِبَل الغراق (الغرق)، وخراب الأيلة من عدو يحصرهم براً وبحراً، وخراب الرى من الديلم، وخراب خراسان من قِبَل التبت، وخراب التبت من قِبَل الصين، وخراب الهند واليمن من قِبَل الجراد والسلطان، وخراب مكة من قِبَل الحبشة، وخراب المدينة من قِبَل الجوع".
ثم جاء بعد عصر التابعين مَن عظم شغفه بالإسرائيليات، وأفرط فى الأخذ منها إلى درجة جعلتهم لا يردُّون قولاً. ولا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يُروَى لهم وإن كان لا يتصوره العقل!!. واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات، والولع بنقل هذه الأخبار التى أصبح الكثير منها نوعاً من الخرافة إلى أن جاء دور التدوين للتفسير، فَوُجِد من المفسِّرين مَنْ حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيلى، الذى كاد يصد الناس عن النظر فيها والركون إليها.

مقالة ابن خلدون فى الإسرائيليات:
قال :
...... وقد جمع المتقدمون فى ذلك - يعنى التفسير النقلى - وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود. والسبب فى ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم. وإنما غلبت عليهم البداوة والأُميَّة، وإذا تشوقوا إلى معرفة مما تتشوق إليه النفوس البَشرية فى أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومَنْ تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من "حِمير" الذين أخوذا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التى يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفى أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يُرجع إلى الأحكام فيتُحرَّى فيها الصحة التى يجب بها العمل، وتساهل المفسِّرون فى مثل ذلك، وملأوا الكتب بهذه المنقولات، وأصلها - كما قلنا - عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بَعُد صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات فى الدين والمِلَّة، فتلقيت بالقبول من يومئذ..." ) انتهى.
ومن هذا يتضح لنا أن ابن خلدون أرجع الأمر إلى اعتبارات اجتماعية وأخرى دينية، فعد من الاعتبارات الاجتماعية غلبة البداوة والأُميِّة على العرب وتشوقهم لمعرفة ما تتشوَّق إليه النفوس البَشرية، من أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، وهم إنما يسألون فى ذلك أهل الكتاب قبلهم.
وعدَّ من الاعتبارات الدينية التى سوَّغت لهم تلقى المرويات فى تساهل وعدم تحر للصحة "أن مثل هذه المنقولات ليست مما يرجع إلى الأحكام فيُتحرَّى فيها الصحة التى يجب بها العمل".
وسواء أكانت هذه هى كل الأسباب أم كانت هناك أسباب أخرى، فإن كثيراً من كتب التفسير قد اتسع لما قيل من ذلك وأكثر، حتى أصبح ما فيها مزيجاً متنوعاً من مخلفات الأديان المختلفة، والمذاهب المتباينة.

أثر الإسرائيليات فى التفسير:
ولقد كان لهذه الإسرائيليات التى أخذها المفسِّرون عن أهل الكتاب وشرحوا بها كتاب الله تعالى أثر سئ فى التفسير، ذلك لأن الأمر لم يقف على ما كان عليه فى عهد الصحابة، بل زادوا على ذلك فرووا كل ما قيل لهم إن صدقاً وإن كذباً، بل ودخل هذا النوع من التفسير كثير من القصص الخيالى المخترَع، مما جعل الناظر فى كتب التفسير التى هذا شأنها يكاد لا يقبل شيئاً مما جاء فيها، لاعتقاده أنَّ الكل من واد واحد. وفى الحق أنَّ المكثرين من هذه الإسرائيليات وضعوا الشوك فى طريق المشتغلين بالتفسير، وذهبوا بكثير من الأخبار الصحيحة بجانب ما رووه من قصص مكذوب وأخبار لا تصح، كما أن نسبة هذه الإسرائيليات التى لا يكاد يصح شئ منها إلى بعض من آمن مِنْ أهل الكتاب، جعلت بعض الناس ينظر إليهم بعين الاتهام والريبة.

قيمة ما يُروى من الإسرائيليات:
تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى أقسام ثلاثة، وهى ما يأتى:
القسم الأول: ما يُعلم صحته بأن نُقِل عن النبى صلى الله عليه وسلم نقلاً صحيحاً، وذلك كتعيين اسم صاحب موسى عليه السلام بأنه الخضر، فقد جاء هذا الاسم صريحاً على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند البخارى أو كان له شاهد من الشرع يؤيده. وهذا القسم صحيح مقبول.
القسم الثانى: ما يُعلم كذبه بأن يناقض ما عرفناه من شرعنا، أو كان لا يتفق مع العقل، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته. القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثانى، وهذا القسم نتوقف فيه، فلا نؤمن به ولا نُكذِّبه، وتجوز حكايته، لما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم"، وقولوا آمنا بالله وما أُنِزلَ إلينا..." الآية.
وهذا القسم غالبه مما ليس فيه فائدة تعود إلى أمر دينى، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب فى مثل هذا اختلافاً كثيراً، ويأتى عن المفسِّرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون فى مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعصا موسى من أى الشجر كانت، وأسماء الطيور التى أحياها الله لإبراهيم، وتعيين بعض البقرة الذى ضُرِب به قتيل بنى إسرائيل، ونوع الشجرة التى كلِّم الله منها موسى.. إلى غير ذلك مما أبهمه الله فى القرآن ولا فائدة فى تعيينه تعود على المكلَّفين فى ديناهم أو دينهم.
ثم إذا جاء شى من هذا القبيل - أعنى ما سكت عنه الشرع ولم يكن فيه ما يؤيده أو يفنده - عن أحد من الصحابة بطريق صحيح، فإن كان قد جزم به فهو كالقسم الأول، يُقبل ولا يُرد، لأنه لا يعقل أن يكون قد أخذه عن أهل الكتاب بعد ما علم من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تصديقهم. وإن كان لم يجزم به فالنفس أسكن إلى قبوله، لأن احتمال أن يكون الصحابى قد سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه منه، أقوى من احتمال السماع من أهل الكتاب، ولا سيما بعد ما تقرر من أن أخذ الصحابة عن أهل الكتاب كان قليلاً بالنسبة لغيرهم من التابعين ومَن يليهم.
أما إن جاء شئ من هذا عن بعض التابعين، فهو مما يُتوقف فيه ولا يُحكم عليه بصدق ولا يكذب، وذلك لقوة احتمال السماع من أهل الكتاب، لما عُرفوا به من كثرة الأخذ عنهم، وبُعد احتمال كونه مما سُمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا لم يتفق أهل الرواية من علماء التفسير على ذلك، أما إن اتفقوا عليه. فإنه يكون أبعد من أن يكون مسموعاً من أهل الكتاب، وحينئذ تسكن النفس إلى قبوله والأخذ به.

موقف المفسِّر إزاء هذه الإسرائيليات:
علمنا أن كثرة النقل عن أهل الكتاب بدون تفرقة بين الصحيح والعليل دسيسة دخلت فى ديننا واستفحل خطرها، كما علمنا أن قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم" فاعدة مقرَّرة لا يصح العدول عنها بأى حال من الأحوال، وبعد هذا وذاك نقول: إنه يجب على المفسِّر أن يكون يقظاً إلى أبعد حدود اليقظة، ناقداً إلى نهاية ما يصل إليه النقاد من قدة وروية حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن، ويتفق مع العقل والنقل، كما يجب عليه أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان فى سُّنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل القرآن، فمثلاً حيث وجد لقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} مجمل فى السُّنَّة النبوية الصحيحة وهو قصة ترك "إن شاء الله" والمؤاخذة عليه فلا يرتكب قصة صخر المارد.
كذلك يجب على المفسِّر أن يلحظ أن الضرورى يتقدَّر بقدر الحاجة، فلا يذكر فى تفسيره شيئاً من ذلك إلا بقدر ما يقتضيه بيان الإجمال، ليحصل التصديق بشهادة القرآن فيكف اللسان عن الزيادة.
نعم... إذا اختلف المتقدمون فى شئ من هذا القبيل وكثرت أقوالهم ونقولهم، فلا مانع من نقل المفسِّر لهذه الأقوال جميعاً، على أن ينبه على الصحيح منها، ويبطُل الباطل، وليس له أن يحكى الخلاف ويُطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، لأأن مثل هذا العمل يُعَد ناقصاً لا فائدة فيه ما دام قد خلط الصحيح بالعليل، ووضع أمام القارئ من الأقوال المختلفة ما يسبب له الحيرة والاضطراب.
على أن من الخير للمفسِّر أن يعرض كل الإعراض عن هذه الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يُعَد صارفاً عن القرآن، وشاغلاً عن التدبير فى حكمه وأحكامه، وبدعى أن هذا أحكم وأسلم.
هذا.. وقد يشير إلى ما قلناه من جواز نقل الخلاف من المتقدمين على شريطة استيفاء الأقوال وتزييف الزائف منها وتصحيح الصحيح، وأن من الخير أن يمسك الإنسان عن الخوض فيما لا طائل تحته، ما جاء فى الآية [22] من سورة الكهف من قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً}.. فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - كما يقول ابن تيمية - على الأدب فى هذا المقام، وتعليم ما ينبغى فى مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضَعَّف القولين الأوَّلين، وسكت عن الثالث، فدلَّ على صحته، إذ لو كان باطلاً لرده كما ردَّهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عِدَّتهم لا طائل تحته، فيقال فى مثل هذا: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم}.. فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فَلَهذا قال: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً}.. أى لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلى رجم الغيب".

أقطاب الروايات الإسرائيلية:
يتصفح الإنسان كتب التفسير بالمأثور، فلا يلبث أن يلحظ أن غالب ما يرى فيها من إسرائيليات، يكاد يدور على أربعة أشخاص، هم: عبد الله ابن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبِّه، وعبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج.. وهؤلاء الأربعة اختلفت أنظار الناس فى الحكم عليهم والثقة بهم، فمنهم من ارتفع بهم عن حد التهمة، ومنهم من رماهم بالكذب وعدم التثبت فى الرواية .

أسباب تفشي الإسرائيليات :
ساعد على انتشار الإسرائيليات هذه أمور:
أولًا: قوة الإسلام، وانتصاره، وسرعة انتشاره في أرض الله، ومدى اقتناع الناس بكتابه، وسماحة شريعته، وعدالة أهله، كل هذا أزعج أعداء الإسلام، وبخاصة اليهود، فأخذوا يدبرون له الكيد والمكر بكل سلاح وبكل وسيلة، يريدون أن يوقفوا مسيرة الإسلام المباركة، وأن يصرفوا الناس عنه، فتنوعت أساليبهم، وتعددت وسائلهم؛ ليصلوا إلى أغراضهم الدنيئة، فنفثوا سمومهم بالوضع والكذب والاختلاق والدس في المرويات الإسلامية عن رسول الله، وعن صحابته، وعن التابعين -رضي الله عنهم أجمعين-.
واليهود أصحاب ألسنة أحلى من العسل -كما يقال- هم أصحاب إعلام، لكن قلوبهم مليئة بالسواد من شدة الحقد على الإسلام وأهله، فكانوا يؤلفون القصة ويحبكونها حبكًا تامًّا، ويثيروا الفتنة والفُرقة في خبثٍ ومهارةٍ بين الناس، وينشرون ذلك بين العامة، وينسبونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أن تظاهر منهم نفر للدخول في الإسلام، وقلوبهم خاوية، بل تشيعوا لآل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-وصدورهم طاوية على الحقد على رسول الله، وعلى أهل بيته، وعلى المسلمين عامة.
هؤلاء نراهم سكبوا الدموع أسًى وحزنًا مظهرين تأثرهم بما حصل لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبالغوا في ذلك في تقديرهم وتقديسهم لآل البيت، فوصلوا بهم إلى أن رفعوا منزلتهم إلى مرتبة النبوة، وصوروا أبا بكر وعمر وعثمان بأنهم سطوا على حقوقهم، واعتدوا على ما لهم من حقوق، واغتصبوا الخلافة التي زعموا أنها حق لعلي وذريته من بعده، فوضعوا في ذلك أحاديث غريبة، ونسجوا قصصًا عجيبةً معظمها منتزع من أصل يهودي.
روى صاحب (العقد الفريد) عن الشعبي أنه قال لمالك بن معاوية: أحذرك الأهواء المضللة، وأحذرك شر الرافضة، فإنهم يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود الإسلام وأهله، وكما يبغض النصارى الإسلام وأهله، إنهم لم يدخلوا في الإسلام رغبةً فيه، ولا خوفًا أو رهبةً من الله، ولكن كُرهًا لأهل الإسلام وبغيًا عليهم، وقد حَرَّقهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وذلك أن محبة الرافضة محبة لليهود، قالت اليهود: لا يكون الملك إلا في آل داود. وقالت الرافضة: لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه.
السبب الثاني في تفشي الإسرائيليات وانتشارها: كثرة القصاصين، القصاصون الذين يجلسون ويقصون على الناس السيرة والتاريخ والقَصص، كثر هؤلاء كثرة أزعجت علماء المسلمين، كما أزعجت بعض أولي الأمر منهم، والقصاصون -بطبيعتهم- يستميلون قلوب العامة ويستهونهم بالغرائب والعجائب والفرائد، فاختلقوا بعض القصص الباطل وروجوا البعض الذي نقلوه، وفي هذا الكثير من الإسرائيليات، والكثير من الخرافات، والكثير من الأباطيل، لكن عامة الناس تلقف هذا بجهلٍ أو بحسن نية، ولم يعلموا أن هذه من الأكاذيب.وفي القصاصين ومدى تأثيرهم على العامة ذكر ابن قتيبة، قال: إنهم كانوا يميلون وجوه العوام إليهم، ويشدون انتباههم بالمناكير والأكاذيب والغريب من الأحاديث. والعوام الذين يقعدون عند القصاص من شأنهم أن يصدقوا هذا، وهذا فيه عَجب، وكلام غريب على العقول، أو فيه كلام فيه ترقيق للقلوب، فكانوا يحبون هذا، وينزفون العيون، ويدمعون لذلك، فإذا ذكر الجنة قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران، وفيها وفيها، وفيها من اللؤلؤ، وفيها من القصور، وفيها سبعون ألف قبة، وفي كل قبة سبعون ألف فراش، وفي كل فراش سبعون ألف كذا وكذا، هذه الأخبار المكذوبة كانت تستهوي كثيرًا من العوام، ولا يزال هكذا في السبعين ألفًا والسبعين والسبعين، كأنه يرى أنه لا يمكن أن يكون العدد إلا بهذا، فيصدقه الكثير من الناس.
اشتهر من المفسرين بالقصص والإسرائيليات أيضًا أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي النيسابوري، الذي عاش في القرن الرابع والخامس، توفي عام أربعمائة وسبعة وعشرين، كتابه (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) وكتابه الآخر (العرائس الحِسان في قصص الأنبياء) كلا الكتابين مليء بالقصص والحكايات التي تستهوي عوامَّ الناس، وكتاب الخازن أيضًا نقل منه الكثير والكثير، مما لا يمت للحقيقة بصلة.
ثالثًا: من الأسباب: بعض الزهاد والمتصوفة، قد استباح لأنفسهم وضع الأحاديث والقصص في الترغيب والترهيب، وتأولوا الحديث المتواتر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن كذَب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعدَه من النار)) وقالوا: إنما نكذب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نكذب عليه؛ أي: لترويج دينه، والانتصار لشريعته، لا للطعن فيها، وهذا منهم حصل مبالغةً وهذا كله كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء كان كذبًا له أو كذب عليه، فألفوا قصصًا كثيرة، وقالوا: نحن نقولها كذبًا لرسول الله لا عليه، وهذا خطأ.
رابعًا: من الأسباب: نقل كثير من الأقوال والآراء المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين من غير تثبت أو تحرٍّ عن رواتها، فمن ثم التبس الصحيح بالسقيم، لما نقلوا أقوال وآراء لا سند لها، وخلطوها بما له سند؛ التبس على الناس، واختلط الحق بالباطل، وصار كل من يقع على رأي يعتمده ويورده، ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلًا، دون أن يكلف نفسه مئونة البحث عن منشأ الرواية، وعمن رويت، ومن الذي رواها.
قال ابن الصلاح في كتابه (علوم الحديث): وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل القرآن الكريم سورةً سورةً. وقد بحث عن هذا الحديث، وعرف مخرجه حتى انتهى إلى مَن اعترف بأنه هو وجماعة قد وضعوه وكتبوه كذبًا وألفوا ذلك، وهذا الحديث ربما نورده في العبارات، وهو شامل لكل سور القرآن الكريم، وهو حديث معروف أنه مكذوب وموضوع عن أبي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
خامسًا: من الأسباب التي ساعدت على تفشي الإسرائيليات: النقل على أهل الكتاب، أهل الكتاب أصحاب ثقافة، أسلم منهم عدد كبير، منهم الصحابة، ومنهم التابعون، ومشهور منهم: عبد الله بن سلام، وتميم بن أوس الداري، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وأمثالهم، وهؤلاء جميعًا قد حملوا من المرويات المكذوبة والخرافات الباطلة الموجودة في التوراة وشروحها، وكتبهم القديمة التي تلقَّوْها عن أحبارهم ورهبانهم جيلًا بعد جيل، رووا لنا كثيرًا من القصص والحكايات التي لا تصح.
هذه الإسرائيليات منها ما يتعلق بأصول الدين والحلال والحرام، وهي التي جرى العلماء من الصحابة والتابعين على التثبت منها، والتحري عن رواياتها، ومنها ما كان يتعلق بالقصص والملاحم، وبدء الخليقة، وأخبار الأمم الماضية، والفتن، وأسرار الكون، وأحوال القيامة، كل هذا نقل عن هؤلاء، هذه الإسرائيليات رواها أهل الكتاب الذين أسلموا، إما أنهم لا يعرفون حقيقتها، أو ورثوها عن كتبهم السابقة، أو رووها للتحذير منها، وإن كانوا لم ينصوا على ذلك، فتلقفها الرواة ونشروها بين الناس، وتوارثتها الأجيال، ومُلِئت بها كتب التفسير.
هذه الإسرائيليات التي رواها أحد الكتاب الذين أسلموا، إما لأنهم لا يعرفون حقيقتها، أو ورثوها عن كتبهم السابقة وملئت بها الكتب الإسلامية، ومنها كتب التفسير كما قلت.
سادسًا: ولعله السبب الذي نختم به: وجود عددٍ غير قليل من الخطباء غير المؤهلين علميًّا في المساجد، والذين يغترفون معلوماتهم من أي منهلٍ، ويتلقفون أي حادثةٍ أو قصةٍ، ويلقونها على أسماع الناس من غير أن يتثبتوا أو يتعرفوا على حقيقة ما يقرءون ويبلغون، فيكونوا سببًا واضحًا في نشر الإسرائيليات بين المسلمين، وهذا هو الضلال المبين.
أما أثر الإسرائيليات وخطورتها على المسلمين، فإن هذا يتلخص فيما يلي:
أولًا: هذه الإسرائيليات أحدثت أثرًا سيئًا، ينعكس على الإسلام والمسلمين للأسباب الآتية:
أولًا: أنها تفسد على المسلمين عقائدهم بما تنطوي هذه الإسرائيليات من أباطيل وأكاذيب في حق الله، بما لا يليق بذاته سبحانه، وبما يرد في حق الملائكة، وفي حق الأنبياء والرسل، بما يتنافَى مع العِصمة لهم، وبعض هذه الإسرائيليات كان يصور هؤلاء الرسل صورة استبدت بهم شهواتهم، وملذاتهم ونزواتهم، فأوقعتهم في قبائح وفضائح ما ينبغي أن تليق بهم. من أمثلة ذلك: ما جاء في كتب السابقين في (سفر التكوين) مما لا يليق بجلال الله وكماله، في قصة نوح يقولون: "ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور في أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال الرب: أمح عن وجه الأرض هذا الإنسان".
كلام ما ينبغي أن يتفوه به بشر، وهذا يعبر عن أن الله -جل وعلا- ندِمَ على خلق الإنسان، وكأنه لا يعلم الأمور قبل حدوثها، ومثل هذا أباطيل طفحت بها الكتب.
ومن أمثلة ذلك: ما يروى في قصة أيوب -عليه السلام- من أنه ألقي على مزبلة لبني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده، وتنهش منه. هذا كلام لا يليق بنبي كلفه ربه أن يكون بين الناس مبشرًا ونذيرًا.
هذه الإسرائيليات نستطيع أن نقول:
ثانيًا: إن وجودها في كتب التفسير كاد يذهب الثقة في علماء السلف، من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن التابعين؛ حيث أسند من هذه الإسرائيليات المنكرة شيء كثير إلى سلفنا الصالح الذين عرفوا بالثقة والعدالة، واشتهروا بين المسلمين بعلم التفسير وعلم الحديث، واعتبروا مصادر ومراجع لهذه الأمة، فاتهامهم بهذه الإسرائيليات من أبشع التهم، التي لا تنبغي، ولا تليق.
ولذلك عدهم بعض المستشرقين ومن سار في ركابهم من المسلمين مدسوسين على الإسلام، فعلًا هذا الكلام الذي نسب إليهم يجعل الناس يتشككون فيهم، وقد صرف قلوب الأمة عن سلفنا الصالح لمثل هذه التهم التي لا تنبغي، ولا تليق، وهذا يقصد منه التشكيك في علماء الإسلام، والذين تحملوا عبئ تبليغه إلى المسلمين، فيطعنون بهذا في سند الخبر الإسلامي، ويفقدون الناس الثقة في الدين الإسلامي نفسه، ويبعدون الناس عن اتباعه والالتزام والتمسك به.
ثالثًا: إن هذه الإسرائيليات في التفسير كادت تصرف الناس عن الغرض الصحيح، والهدف المنشود الذي أُنزِلَ القرآن من أجله، وهو هداية الناس وتوجيههم إلى ربهم وعبوديتهم لله -سبحانه وتعالى- فإن هذا ألهى الكثيرَ عن التدبر في الآيات، وأبعدهم عن الانتفاع بمواعظ الآيات القرآنية العظيمة.
رابعًا: إن الإسرائيليات قد صورت الإسلامَ في صورة دين خرافي يعنَى بِتُرهات وأباطيل وأكاذيب لا سند لها من الصحة، ولكنها نسج عقولٍ ضالةٍ وخيالات جماعات مضللة، وهذا يشكك في علماء الإسلام وقادتنا من السلف الصالح -رضوان الله عليهم- وتصورهم بأنهم لا هَمَّ لهم إلا الأباطيل، فنفقد الثقة في هؤلاء.
مثلًا: ما رواه وهب بن منبه أنه قال في قصة آدم: "لما أهبط الله آدم من الجنة، واستقر جالسًا على الأرض، عطس عطسةً فسال أنفه دمًا، فلما رأى سيلان الدم من أنفه، ولم يكن رأى قبل ذلك دماء، هاله ما رأى، ولم تشرب الأرض الدم فاسود على وجهها كالحُمم، ففزع آدم من ذلك فزعًا شديدًا، فذكر الجنة وما كان من الراحة، فخر مغشيًّا عليه، وبكى أربعين عامًا، فبعث الله إليه ملكًا، فمسح ظهره وبطنه، وجعل يده على فؤاده، فذهب عنه الحزن، فاستراح مما كان يصيبه".
هذه روايات وأمثالها مما يروى في قصة أيوب، وقصص كثير من الأنبياء، هذه أكاذيب، وألقيت من بني إسرائيل على أمة الإسلام، فكانت آثارها سيئة، وكانت خطورتها شديدة.

___________

المراجع
كتاب التفسير والمفسرون
المؤلف: الدكتور محمد السيد حسين الذهبي (المتوفى: 1398هـ)
الناشر: مكتبة وهبة، القاهرة
عدد الأجزاء: 3 (الجزء 3 هو نُقول وُجدت في أوراق المؤلف بعد وفاته ونشرها د محمد البلتاجي)

كتاب الدخيل في التفسير
كود المادة: GUQR5333
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية

كتاب غرائب التفسير وعجائب التأويل
المؤلف: محمود بن حمزة بن نصر، أبو القاسم برهان الدين الكرماني، ويعرف بتاج القراء (المتوفى: نحو 505هـ)
دار النشر: دار القبلة للثقافة الإسلامية - جدة، مؤسسة علوم القرآن - بيروت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي


.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ




.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها


.. فتوى تثير الجدل حول استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه النقال




.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بعيد الفصح في غزة