الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرجعية الدينية والنقد السياسي

علي المدن

2017 / 4 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


-1-
على امتداد العصر الحديث عرف العراق العديد من مواقف المؤسسة الدينية الشيعية ذات العلاقة بالسياسة، وفِي أحداث مشهورة لا داعي لتكرار ذكرها هنا. وبالنظر إلى تاريخ المرجعيات الدينية المعاصرة يمكن عد مرجعية السيستاني الأكثر انفتاحا على المراجعة والنقد، ولا تخلط بين النقد السياسي والنقد الديني. على أن النقد الديني هو الآخر لا يوجد ما يمنع منه في الأعم الأغلب.
مرجعية السيستاني تلتزم بمفهوم الممارسة المدنية للأمة في الشأن السياسي كما أوضحتُ ذلك مؤخرا في سلسلة مقالات نشرتها في صحيفة "المدى" (أيضا نشرتها مجتمعةً على صفحتي في الحوار المتمدن). قلت فيها إن المرجعية تدرك أنها حين تتدخل في السياسة فإنه يجري عليها منطق السياسة. منطق التوافق بين الوسائل والغايات، منطق تناسب الوسيلة ونجاعتها مع الغاية المعلنة. ومن حق أي مراقب، بل من حق أي مواطن، أن يقيّم مقترحاتها وأطروحاتها ومشاريعها ودعواتها السياسية، ويبدي رأيه في مقدار نهوض تلك المقترحات بتحقيق أفضل النتائج السياسية المرجوة.
هذا هو الموقف النظري من علاقة المرجعية بالسياسة. أما تطبيق هذا الموقف وممارسته عمليا، فيحتاج، كما هو الحال مع أي تحليل ونقد سياسي ناضج، إلى دراية مفصلة بالأحداث السياسية وخلفياتها وكواليسها، كما يتطلب قدرا كبيرا من المسؤولية والتثبت والصدق.
المشكلة في السياسة أن المواقف السياسية لا تُفصَل عن تداعياتها وارتداداتها اللاحقة، ويتحمل صاحب الموقف ما يترتب على موقفه من نتائج، تماما كما في القانون، وعلى العكس من الأخلاق!! في القانون لا ينظر القضاء للنوايا والمقاصد، ولا إلى ما هو مضمر في القلب ومخبّأ في الضمير، بل ينظر للفعل وما يليه، للموقف وما جاء بعده، للظاهرة وما تلاها، ويحمل الفاعل مسؤولية الثاني وإن تنصل عنه. أما الأخلاق، فالشخص لا يتحمل من النتائج إلا ما كان واعيا به، قاصدا إياه، ولا يعترف بمسؤوليته الشخصية لمجرد مجيء النتيجة تالية لفعله!! بل لا يتردد في نفي صلته بتلك النتيجة وإنكارها.
وعلى ذلك فإن النقد السياسي ليس نقدا أخلاقيا بالمعنى أعلاه كما يحاول البعض أن يوحي للناس!! ليس حديثا عن نقاء المرجعية ونظافتها أو حرصها وصدقها ... بل هو حول صواب ونجاعة وتناسب مقترحاتها ودعواتها مع غاياتها المعلنة، هذا إذا افترضنا أن هناك توافقا حول تلك الغايات وإلا فإن النقاش يرتقي درجة أخرى في سلم النقد ليشمل الغايات نفسها ومدى تناسبها مع تحقيق ما نريده في حياتنا السياسية ...
السياسة هي جلب المصالح ودرء المفاسد، هذا هو تعريفها عند القدماء، وهو لا يختلف عن تعريفات المعاصرين .. وعليه فمن يضع قدمه في عالم السياسة عليه أن يوطن نفسه على اختلاف التقييمات حول مواقفه السياسية، ويكون مستعدا لسماع أشد وجهات النظر بعدا عن وجهة نظره .. هذا جزء من الترشيد والنصح .. والمرجعية كما تدعو له وتمارسه مع الحكومات، من حق المواطن، أي مواطن، الدعوة له وممارسته مع المرجعية نفسها .. هذا هو "قانون العدالة" على الأقل.

-2-
لقد رأيت أن هناك انقساما حول تقييم موقف السيد السيستاني في بداية العملية السياسية، ولاسيما في دعوته للانتخابات وكتابة الدستور. البعض رأى هذا الموقف متسرعا وفِي غير محله، وبالتالي يحمّل المرجعية نتائج ما آلت إليه الأمور (كصعود الإسلاميين السياسيين وتقسيم البلاد على أسس طائفية). وبعض آخر يرى في موقف المرجعية عكس ذلك، وأنه كان بدافع حفظ استقلالية البلد وصون حقوق شعبه في التعبير عن إرادتهم وسيادتهم على أنفسهم، وأن ما وقع بعد ذلك من أداء سياسي وإدارة لمجريات الأمور لا تتحمل المرجعية مسؤوليته.
وفي وسط هذا التجاذب في الآراء ووجهات النظر يبرز موقف ثالث يحاول أن يمنع من الأساس فتح أي نقاش تكون المرجعية طرفا فيه، لأنه في نظره يقلل من مكانة المرجعية، ويطعن في حكمتها، ويشكك في نزاهتها، ويضعف من هيبتها في قلوب الناس.
جُلّ كلامي موجه لهذا الفريق الثالث، وهدفي هو الدفاع عن شرعية فتح النقاش في أي موضوع سياسي حتى ولو كانت المرجعية طرفا فيه أو كانت على علاقة به.
أما لماذا أنا مهتم بموقف الفريق الثالث؟ فالجواب لأنني أجد فيه (أولا) خطأ منهجيا في فهم وجهة نظر المرجعية عن العمل السياسي، و(ثانيا) تكميما للأفواه وتضييقا على الآخرين في التعبير عن وجهات نظرهم، و(ثالثا) سدا لآفاق المعرفة والبحث والتحليل في الشؤون السياسية التي هي أهم الشؤون العامة وأشدها التصاقا بحياة الناس وأحوالهم ومستقبلهم. و(رابعا) لأن الأطراف المتناقشة لا تتهيأ لها الفرصة للرد على هذا الفريق الثالث، ولأسباب عديدة كعدم الاختصاص في الفقه أو عدم الاطلاع على تفاصيل رأي المرجعية المعاصرة في العمل السياسي أو لاعتبار النقاش في الشؤون السياسية العامة ذات الصِّلة بالمرجعية أمرا مفروغا من شرعيته أو لعدم الاكتراث أساسا بموقف هذا الفريق الثالث والتعاطي معه كتكريس للاعقلانية السياسية التي لا يجب أخذها على محمل الجد أو لغير ذلك من الأسباب.
إن النقاش السياسي لا يتقاطع مع مكانة المرجعية التي تظهر هذا الفريق الحرص عليها، بل إن هذه المرجعية ذاتها لا تطرح نفسها فوق النقد والمراجعة، ولا يُتوقع أن تناقض نفسها فتدعو إلى أن جميع الشؤون السياسية حقوق حصرية للشعب، وتصرح أن دور المرجعية لا يتخطى الإرشاد والنصح، ثم تمنع هذا الشعب من مناقشة تلك الإرشادات والنصائح (وما ينتج عنها) التي تقدمها المرجعية!!!
إن أفضل ما يمكن أن يُفسَّر به موقف هذا الفريق الثالث أنه خلط بين (النقد السياسي والنقد الديني) على اعتبار أن المرجعية هي الأعرف والأدرى بالشأن الديني ولذا يمنع نقدها. أنا ممن يتحفظون من هذا الرأي؛ لأنني لا أرى القضايا الدينية اختصاصا كهنوتيا لفئة معينة، وبالتالي فلا يمكن لشريحة خاصة أن تدعي احتكار النظر فيها، اللهم إلا ما كان يتصل بالتقليد المحض، وفي الأمور الفقهية الشخصية، التي يتَّبع فيه الفرد رأي الفقيه من باب التسليم، دون مطالبته بإيضاح أدلته على هذا الرأي.
وكذا يقال لمن يريد تصوير مراجعة مواقف المرجعية على أنه نقد أخلاقي لها وتشكيك في نزاهتها!!! فهذه أيضا مرافعة ضعيفة ولا معنى لها (وربما هي مجرد تملق نفعي رخيص)، ليس فقط لما تقدم وقلته حول رأي المرجعية في العمل السياسي، والفصل بين الشأنين السياسي والديني، بل وأيضا لأن الأخلاقي في السياسة هو تناسب الوسائل مع الغايات، والتحقيق الأفضل لتلك الغايات في جلب المصالح ودرء المفاسد. النقد الأخلاقي مهمة عسيرة جدا، والناس لم تعد تكرس جهدها للحكم أخلاقيا على أفعال ونوايا الآخرين، بل على فهم "الاحتياجات" التي دفعتهم لاقتراف تلك الأفعال، وتحليل "الظروف" التي تقف خلفها. هذا في الحياة العامة، وبين الناس العاديين. أما في السياسة، فالأمر أولى!! إذ لماذا يهم الحديث عن أخلاقيات الساسة؟؟ وبماذا ينفعنا الحكم عليهم بالحسن والقبح؟!!! كل ما يهم هو برامجهم ومشاريعهم وإداراتهم وما يتصل بحياتنا العامة، وهذه يحكم عليها بالفشل والنجاح، والفائدة والخسارة. إذن فالتشبث بالأخلاق هنا هو غلط مركب في فهم السياسة وفهم الأخلاق وفهم رأي المرجعية وفهم حقوق المواطنين.
ومع أنني انتصر لحرية النقاش وشرعيته في جميع الموضوعات، ومع جميع الأطراف، إلا أن الالتزام بالحدود الموضوعية والانصاف وفهم ملابسات القضايا وخلفياتها وسياقاتها، مما لابد منه في جميع الأحوال. وأن الفهم السليم للأحداث يتطلب عدم الخلط بين الظروف التي أحاطت بالحدث وتلك التي حصلت بعده؛ إذ كما يقال في الفلسفة (التعاقب ليس دليلا على العلية)، فضلا أن يكون (ما حصل تاليا) جزءا من مسؤولية الفاعل المباشر للحدث الأول. وهذا ليس تراجعا عما قلته حول الفرق بين الأخلاق من جهة، والسياسة والقانون من جهة أخرى، حين كتبتُ (المشكلة في السياسة أن المواقف السياسية لا تُفصَل عن تداعياتها وارتداداتها اللاحقة، ويتحمل صاحب الموقف ما يترتب على موقفه من نتائج، تماما كما في القانون، وعلى العكس من الأخلاق!!)، إذ الحديث، كل الحديث، عن كون تلك التداعيات والارتدادات والنتائج هي (فعلا) استجابة مباشرة للحدث الأول وإفراز له، وإلا كان الحديث في السياسة والقانون قائما على الاتهام الاعتباطي والقول الجزاف، وهذا ما لا يقول به عاقل يفهم ما يقول. وما عنيته هو أن المسؤولية في الأخلاق مرتبطة بالإرادة الواعية الحرة وما ينتج عنها قصدا، في حين أن المسؤولية في القانون مرتبطة بالنتائج "المباشرة" للأفعال دون أن يكون للإرادة والقصد تأثيرا فيها.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال


.. قطب الصوفية الأبرز.. جولة في رحاب السيد البدوي بطنطا




.. عدنان البرش.. وفاة الطبيب الفلسطيني الأشهر في سجن إسرائيلي


.. الآلاف يشيعون جـــــ ثمــــ ان عروس الجنة بمطوبس ضـــــ حية




.. الأقباط يفطرون على الخل اليوم ..صلوات الجمعة العظيمة من الكا