الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النّقد الذاتيّ ما بعد الخراب

يوسف أحمد إسماعيل

2017 / 5 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


سألتْ الكاتبة السّورية يسرا السّعيد على صفحتها في الفيسبوك: حين تنتهي الحرب ماذا سنكتبُ على هذه الصّفحات الزّرقاء؟؟ وأسمح لنفسي بالتّحوير قليلاً لأقول: بعد الخراب الكبير ماذا سنكتب؟! لأننا بعد الحرب يمكن أن نعود إلى حياتنا الروتينية، ونكتب مرة أخرى عن الحب، والأحلام، وعن العادات والتّقاليد، مع الحفاظ، باحترام كبير، على الموروث التّاريخيّ المتماهي بالمقدّس؛ لنبقى نعتزُّ بثقافتنا النُّخبويّة، فنتباهى بها أمام الآخر، وندينُه إنْ دعت الضرورة. وذلك لأنّ الحرب تستحضر نقيضها السّلام؛ والسلام، في ظلّ الثقافة الشّفويّة، استرخاء للأمل، وأحلامِ اليقظة.
ونحن مِن المجتمعات التي مازالت ذات ثقافة شفويّة؛ ولذلك فإنّ ما بعد الحرب، لدينا استرخاءٌ للأمل، وأحلام اليقظة. ولكنْ إذا سألنا: بعد الخراب الكبير ماذا سنكتب؟ نكون قد أدركنا، بدءاً، أنّ الحرب أنتجت دماراً فاجعاً ومَهُولاً وشاملاً، هو أوسع من الحرب وأكثر عمقاً من حيث الأثر، والنتائج، والأسئلة الموجَّهة لما قبل الحرب، ولما بعدها. وهذا التّوصيف يستدعي توجيه البوصلة المشرِّحة، والكاشفة، والجريئة، والصادقة، لأسباب ذلك الخراب الشّامل؛ أي إلى الشّخصيّة الشفويّة التي نتسم بها، وأدّت إلى ذلك الخراب العام. ومِن أقسى مظاهره خراب البِنية الاجتماعية بمجملها؛ أمّا خراب الحجر فستتكفل به الأجيال القادمة، والشّركات الاستثمارية الاحتكارية المحليّة والدوليّة. وعلى الجيل الراهن ألا ينتظر كثيرا أمام باب المسجد الكبير، أو مدخل سوق الصِّيّاغ، أو خان الشُّونة ليعيد لنفسه المتعة المتدفقة من مسامات الحجر، فالوقت لن يحتمل انتظاره، بل سيدير له ظهره، ويمط له لسانه هازئا.
ولكيلا نكون محطّ استهزاء الوقت، والبشر، والحجر، علينا أنْ نغادر تلك النزهات، ونترك الفضاء للأجيال كي تعيد إليها الجمال، وننشغل بفجيعة الخراب. فنحن، بوصفنا وعيا جمعياً تراكمياً عِبر التاريخ المنقضي، مَن تسبَّب به، ونحن مَن عاشه، ونحن مَن حصد نتائجه! ولكي نخفِّف من كتلة توريثه للأجيال القادمة علينا أنْ نعيد توجيه البوصلة المشرِّحة لوعينا الجمعيّ الشّفويّ، تفادياً لإعادة إنتاج ذاك الخراب في المستقبل، وربما بصور أكثر بشاعة وبدائية.
والنظرة الشّاملة إلى التشرذم الاجتماعيّ السّوريّ المتجلِّي بالسّلوك، والتّصريح، والتّعبير، والمواقف عند المدنيّين السّوريين، ولا أقول عند مَن لجأ إلى السّلاح من جميع الأطراف، فذاك أمره مقضيٌ في " مزبلة الجريمة الإنسانية"، نلاحظ عدم الاعتبار مِن الخراب! بل التنصّل من المسؤولية، وتحميلها للآخر المختلف في الرأي، أو الموقف، أو الانتماء الإثنيّ. وهذا يعني، في حدّه الأدنى، عدم القدرة على النّقد الذاتيّ. والثقافة التي لا تمتلك في أنساقها القدرة على النظر إلى الذات بوصفها كينونة مستقلّة، يمكن النظر فيها ومراجعتها، عن الجماعة هي ثقافة شفويّة، لم تمتلك بعدُ خصائص الوعي الكتابيّ الذي يمجّد العقل، والاستقلاليّة، والفردانيّة بوصفها وعياً يفصل بين الذّات والموضوع، ويحيل إلى الّتبصّر والّتأمّل بعقل تفكيكيّ وتركيبيّ.
ولذلك، فإنّ الإجابة عن سؤال الكاتبة "حين تنتهي الحرب ماذا سنكتب على هذه الصفحات الزرقاء؟" تتمثّل في ضرورة البحث في تفكيك البِنية الثقافية الشّفويّة التي تلفّ وعينا الجمعيّ، وتحاصر أنساقنا الثقافيّة إلى حدّ التماهي بالمقدّس. وأولى صور التفكيك تلك، يجب أنْ تركّز على الفصل بين الفرد وانتمائه الجماعيّ البدائيّ، إنْ كان قبَلياً أو طائفياً أو دينياً، أو قومياً، ليتحوّل انتماؤه إلى وجوده الإنسانيّ أولاً، والوطنيّ ثانياً. وبما أنّ الوعي حالة شموليّة يتداخل في تر كيبها الخاصّ بالعامّ، والاجتماعيّ بالسّياسيّ، والايديولوجيّ بالأسطوريّ، والاعتقاد الشّعبيّ بالخطاب الرسميّ، ومشاعر الطيبة بالعقل والشّكّ، فإنّ تحريره من الشّفويّة يعني نقله من مرحلة البدائيّة (ما قبل الكتابيّة) إلى المرحلة الكتابيّة؛ أي إلى مرحلة التفكير الموضوعيّ.
غير أنّ تلك المواجهة تحتاج إلى الجرأة والوعي التّنويريّ في الوقت ذاته؛ لأنّ تكلفتها كبيرة على المستويَيْن: الفرديّ والاجتماعيّ. وأولى الخسارات هي خسارة الحماية الجماعيّة التي نتمتع بها كذوات، إنْ تمثّلتْ بمجموعة الأصدقاء، أو العائلة، أو القبيلة، أو القرية، أو الجماعة الدينية، أو بصورتها الواسعة والشاملة القابعة في السّلطة البطريركية بمجمل علاقاتها المتداخلة.
وتلك الجرأة متلازمة مع العقل التّنويريّ، وسلطته على الذات؛ فالعقل التّنويريّ يمتاز بالقدرة على المراجعة، وتحسين الأداء، وتجديد القناعات والرؤى، بما يخدم وجوده الإنساني الحضاريّ. وهذا يحتاج إلى جرأة استثنائية، ومن نوع خاصّ لا تتَّسم به الثقافة الشّفوية. وأهمّ صورة من صور تلك الجرأة القدرةُ على تحمّل المسؤوليّة تجاه الخطاب التنويريّ الذي يحمله، ويروم إلى تبليغه، حاملُه، المثقَّفُ العضويّ في مجتمعه.
وحين تتكامل الصورتان: الجرأة والخطاب التّنويريّ، يكون المثقف العضويّ الذي يقود مجتمعه إلى الوعي الكتابي التفكيكيّ قد وضع خطابه وذاته خارج سياق الثقافة الشّفويّة؛ أي في بوتقة الثقافة المضادّة للسلطة البطريركية المتنوعة. ولذلك عليه أنْ يتحمّل من كلّ صور الانتماء الاجتماعيّ في الثقافة الشّفويّة حالات الازدراء، والاستهزاء، والتهميش، والتشويه، والنفي، والإقصاء، بل حتى التهديد بالقتل في قائمة الموتى، أو في سجون الاستبداد، أو في منافي الخيانة العظمى، أو في قائمة المارقين، والمرتدين، أو في قائمة المجانين؛ وتلك لعمري أهون الشّرور وأكثرها أمنًا للروح والجسد والعقل.!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القضية الفلسطينية ليست منسية.. حركات طلابية في أمريكا وفرنسا


.. غزة: إسرائيل توافق على عبور شاحنات المساعدات من معبر إيريز




.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كاليفورنيا لفض اعتصام مؤيد


.. الشرطة تقتحم.. وطلبة جامعة كاليفورنيا يرفضون فض الاعتصام الد




.. الملابس الذكية.. ماهي؟ وكيف تنقذ حياتنا؟| #الصباح