الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دماء على كرسي الخلافة -23-

علي مقلد

2017 / 5 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يتباكى المسلمون على المذابح التي ارتكبت بحقهم قديما وحديثا ، ويصنعون منها "كربلائيات" و"بكائيات" شعرية ونثرية ، ويتهمون الآخر المعادي ، بالمؤامرة على الإسلام والمسلمين ، ويتناسون عن جهل أو عمد ، ماذا جنت سيوف أسلافهم على الآخر ، وماذا جنت سيوفهم على أبناء ملتهم ، فالقارئ للتاريخ يعلم أن المعارك البينية التي دارت رحاها بين المسلمين من أجل السلطة ، راح ضحيتها الملايين من المسلمين ، والملايين رقم غير مبالغ فيها بالمرة ، فيكفي أن تعرف عزيزي القارئ أن بعض معارك المسلمين على السلطة ، أسفرت عن مقتل نحو ربع مليون في عدة أيام ، وهذه الأرقام المخيفة المفزعة، المرعبة ، تكررت كثيرا في التاريخ الإسلامي ، كلما تنازع شخصان على الحكم ، انفجرت شلالات الدماء .. وما زالت تلك الدماء تنزف تحت راية "الخلافة الإسلامية" حتى أصبحت تلك الكلمة ملعونة ومجرمة أينما نوجه وجوهنا صوب المشرق والمغرب.
كنا قد وقفنا في المقال السابق ، عند المعارك الدامية التي دارت رحاها بين الثائرين على ملك بني أمية بقيادة عبد الرحمن الأشعث الكندي ، وجيش الحجاج بن يوسف الثقفي أمير العراق واليد اليمنى لعبد الملك بن مروان ، ورأينا كيف أراد الخليفة الأموي التضحية بأميره لإنقاذ ملكه ، لكن بن الأشعث الذي ذاق حلاوة لقب الخليفة ، رفض ومن ورائه العلماء والفقهاء عرض بن مروان ،، وبنظرة سريعة على العرض الأموي للثوار ، نرى أن المتصارعين على السلطة دائما ما يدخلون في معادلة صفرية ، وهي "كل شئ أو لا شئ" ، فثورة بن الأشعث والفقهاء بدأت أساسا ضد تجبر الحجاج ثم تفاقمت المطالب فعزلوا الخليفة وعينوا خليفة غيره ، ورفضوا كل الحلول الوسط التى كانت جل أحلامهم في البداية لكن بريق السلطة في عيون هؤلاء كان له أثر السحر .
يقول بن كثير في كتابه الشهير " البداية والنهاية" : " تقدم عبد الله بن عبد الملك بن مروان وعمه محمد ، فنادى عبد الله : يا معشر أهل العراق ، أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وإنه يعرض عليكم كيت وكيت ، فذكر ما كتب به أبوه معه إليهم من هذه الخصال ، وقال محمد بن مروان : وأنا رسول أخي أمير المؤمنين إليكم بذلك، فقالوا : ننظر في أمرنا غدا ، ونرد عليكم الخبر عشية ، ثم انصرفوا ، فاجتمع جميع الأمراء إلى ابن الأشعث ، فقام فيهم خطيبا ، وندبهم إلى قبول ما عرض عليهم من عزل الحجاج عنهم ، وبيعة عبد الملك ، وإبقاء الأعطيات ، وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج ، فنفر الناس من كل جانب ، وقالوا : لا والله لا نقبل ذلك، نحن أكثر عددا وعددا ، وهم في ضيق من الحال ، وقد حكمنا عليهم وذلوا لنا ، والله لا نجيب إلى ذلك أبدا ، ثم جددوا خلع عبد الملك بن مروان ثانية ، واتفقوا على ذلك كلهم ، وبالطبع الخليفة الثوري بن الأشعث نزل على رغبتهم.
فلما بلغ عبد الله بن عبد الملك وعمه محمد بن مروان ما وصل إليه أمر خصومهم من رفض الصلح والتمادي في الحرب ، قالا للحجاج : شأنك بهم إذا ، فنحن في طاعتك كما أمرنا أمير المؤمنين ، وهنا جاءت الفرصة مرة أخرى للحجاج ليثأر من أمير جيشه الذي انقلب عليه ، فتولى بنفسه أمر الحرب وتدبيرها ، فجعل على ميمنته عبد الرحمن بن سليمان الكلبي ، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي ، وعلى الخيل سفيان بن الأبرد ، وعلى الرجالة عبد الرحمن بن حبيب الحكمي
أما في الناحية الأخرى فجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي ، وعلى الميسرة الأبرد بن قرة التميمي ، وعلى الخيالة عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة ، وعلى الرجالة محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري ، وعلى القراء" حفظة القرآن" جبلة بن زحر بن قيس الجعفي ، وكان في القراء سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وكميل بن زياد ، وأبو البختري الطائي وغيرهم من مشاهير الفقهاء والمحدثين .
ولما كان الحال كذلك تخندق كل فريق في ناحية ، متربصا بالطرف الآخر ،ونشبت بينهما حرب أشبه ما تكون بحرب الاستنزاف لمدة عام ، حتى دخلت سنة 83هـ والجيشان بينهما مبارزات فردية كل يوم، وأحيانًا تحمل مجموعة من هذا الجيش على الآخر والعكس، حتى إن جيش ابن الأشعث كسروا أهل الشام -وهم جيش الحجاج- بضعًا وثمانين مرة ينتصرون عليهم، ومع هذا فالحجاج ثابت في مكانه لا يتزحزح عن موضعه الذي هو فيه ، فقد كان له خبرة كبيرة بالحروب ففي أثناء القتال كان يتقدم قليلاً فقليلاً وشيئًا فشيئًا، وإذا تقدم شبرًا لا يتزحزح عنه، وما زال هكذا حتى قرر القيام بعمل ينهي هذه الثورة العاتية .
هنالك أمر الحجاج جنوده بالحمل مرة واحدة ، على موضع قوة جيش ابن الأشعث ، وهم كتيبة القراء خاصة أن هؤلاء الفقهاء وحفظة القران كانوا هم شعلة الحماس في جيش بن الأشعث ، لذلك ركز الحجاج هجومه على هذه الكتيبة حتى قتل منهم خلقًا كثيرًا ، ويرى المؤرخون أن هزيمة تلك الكتيبة كانت سببا رئيسيا في هزيمة، باقي الجيش الذي اضطرب نظامه واختلت صفوفه وفرت عناصره في كل اتجاه، خاصة بعدما فر ابن الأشعث من أرض المعركة، ثم أتبع الحجاج الفارين وأمعن فيهم القتل حتى قيل أنه قد قتل منهم مائة وثلاثين ألفًا آخرهم سعيد بن جبير.
بعدما أضاع أرواح آلاف البشر ، بسبب انقلابه على الأمويين لم يجد ابن الأشعث مفرا من الهرب للنجاة بنفسه ، وكأن هؤلاء الذين قتلوا من أجله لا ثمن لهم ،وأن روحه فقط هي الغالية ، ولم يكن هناك أمامه ملاذ سوى "رتبيل" ملك الترك ، الذي كان ابن الأشعث يقاتله من قبل ، وينهب ماله ويسلب ملكه ، لكن في الصراع على السلطة كل شئ وارد.
لكن الحجاج لم يكن ليترك بن الأشعث ليهنأ بالحياة مهما كلفه الأمر ، فأرسل إلى "رتبيل " يتوعده ويتهدده ويقول له: "والله الذي لا إله إلا هو، لئن لم تبعث إليَّ بابن الأشعث لأبعثن إلى بلادك ألف ألف مقاتل وأخربنها"، فأرسل رتبيل إلى الحجاج يشترط عليه ألا يقاتله عشر سنين ، وألا يؤدي له في كل سنة إلا مائة ألف من الخراج فوافق الحجاج على هذه الشروط .
بطبيعة الأمر إذا كان أبناء الدين الواحد والعرق الواحد ، يتقاتلون ويذبحون بعضهم على السلطة ، فليس على عدوهم المشترك من حرج في أن يصطاد في المياه العكرة ، ويتربح من صراعهم على السلطة ، لذلك ضحى رتبيل بابن الأشعث، وهنا أدرك عبد الرحمن أن الأرض ضاقت عليه بما رحبت ، وأنه واقع في قبضة عدوه لا محالة ، فآثر الانتحار على أن يسلم نفسه لعدوه ، وبالفعل قطعت رأسه بعدما ألقى بنفسه من فوق سور عالي ، وأرسلت للحجاج الثقفي ليتشفي في مقتل أمير جيشه، وكان ذلك سنة خمس وثمانين للهجرة.
مما يذكر أن ثورة بن الأشعث استمرت قرابة الأربع سنوات كان ينادي خلالها بخليفة المسلمين ، وخاض خلال السنوات الأربع أكثر من ثمانين معركة ضد الحجاج، كلها كانت لصالح عبد الرحمن إلا أنه هُزم في دير الجماجم ، بعدما أسفرت ثورته عن مقتل مئات الآلاف من المسلمين.
في المقال القادم نقلب صفحات التاريخ ، لنشاهد مجازر أخرى ارتكبها المتصارعون على السلطة من أجل "كرسي الخلافة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah