الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دماء على كرسي الخلافة -24-

علي مقلد

2017 / 5 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الصراع على السلطة في الإسلام لم يبق حليفا ولا صديقا ولم يرحم قرابة ولا صهرا ، فكل قائد عسكري من أمراء الحرب الذين يفيض بهم التاريخ الإسلامي يرى في نفسه الأحقية بالسلطة والثروة ، ولو كان ثمن رغبته تلك، آلاف القتلى ومئات الرقاب المنحورة ، وكأن دماء البشر عند هؤلاء "محض غثاء" لا ثمن ولا قيمة لها ، وما زلت أكرر أن نقض ونقد فكرة الخلافة الإسلامية وهدمها من جذورها كفيل بالقضاء على جزء كبير من الإرهاب ، فهي فكرة محورية عند كل الجماعات التي رفعت شعارات براقة للعودة إلى "دولة الإسلام" لكنهم يدعون إلى السلطة ، كما كان يفعل أسلافهم من القتلة الذين ضحوا بأنصارهم وخصومهم من أجل شهوة الحكم.

كنا قد رأينا في المقال السابق ، كيف كبدت ثورة عبد الرحمن بن الأشعث ، التي استمرت قرابة الأربع سنوات ونادي خلالها بالخلافة مئات الآلاف من القتلى في صفوف المسلمين ، واليوم نواصل سيرة الدماء التي سالت على كرسي الخلافة ، حتى نصل لقائد عسكري نشأ في كنف دولة بني أمية، وكان أبوه أحد الفرسان الذين ساندوا ودعموا وحافظوا على ملك الأمويين من الانهيار في مراحل عديدة ، أمام الثورات العاتية التي ضربت ملكهم ، إنه القائد العسكري يزيد بن الملهب بن أبي صفرة ، ومعلوم عند مؤرخي الإسلام أن انضمام المهلب كعسكري مخضرم إلى صفوف الأمويين قادما من معسكر "الزبيريين" كان حدثا فارقا في حروبهم ، خاصة تلك التي قادها بن أبي صفرة ضد ثورات الخوارج المتتالية ،كذلك نصائحه للحجاج التي كانت سببا في هزيمة بن الأشعث ، ولم يدر بخلد المهلب يوما أن قطع دابر أولاده سيكون على يد أحد خلفاء بني أمية .. إنها حرب مسعورة ،كالنار تأكل كل ما يلقى في آتون من حطب .

يقول المؤرخون أن يزيد بن المهلب ، ويكنى بأبي خالد كان أحد الفرسان الشجعان "وكان من أمره أن برز للحروب وله ثماني عشرة سنة بجوار أبيه ، واتخذ ذراعا من حديد مجوفة، فكان يدخل فيها يده اليسرى ، فإذا استجرت الرماح في صدره وجللته السيوف، وضع يده اليسرى على رأسه ثم حمل على جيش خصومه فلا يعود إلا وهو مكلل بالظفر ، وقد اشترك يزيد في حروب والده المهلب ضد الخوارج الأزارقة فيما وراء النهر وأذاقهم ويلات الهزيمة ، فلما أثبت آل المهلب من قوة وعزيمة في الحروب ، تم تولية المهلب على خراسان سنة 78 هـ مكافأة له من عبد الملك بن مروان ، على انتصاراته وإبادة الخوارج وتفريق جمعهم .. مما يذكر أن إقليم "خراسان الإسلامي" يضم آنذاك شمال غرب أفغانستان وأجزاء من جنوب تركمانستان، إضافة لمقاطعة خراسان الحالية في إيران، من مدنه التاريخية: حيرات ونيسابور وطوس التي تعرف باسم مشهد اليوم وبلخ ومرو.

عندما توفي المهلب سنة 82 هـ ، كتب ابنه يزيد إلى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراقين ، يعلمه بوفاة أبيه المهلب، فأقرّه الحجاج على خراسان، لكن الحجاج لم يلبث أن نقم على يزيد ، لأسباب منها أنه لم يكن جادًا في ملاحقة فلول ثورة ابن الأشعث ، كما كان لينًا في معاملة الذين أسروا من القبائل اليمنية ، ويعرف قراء التاريخ الإسلامي أن هناك ضغائن ظلت مستمرة تعلو تارة وتخبو تارة أخرى بين قبائل اليمن القيسية وقبائل الشمال، يضاف إلى ذلك تباطؤ بن المهلب في محاسبة أحد قادة الخوارج موسى بن عبد الله بن خازم وأصحابه الذين خرجوا بجوار بلخ "وهي بلدة صغيرة تقع في أفغانستان حاليا" ، وظن يزيد أن الحجاج لن يقدم على عزله ما دام هؤلاء يرفعون رايات الثورة على الأمويين ، لأن الحجاج لن يجد غيره ولا سيما من القيسية يرضى بمحاربة أبناء جلدته.

مكث الوضع كذلك حتى آخر ولاية عبد الملك بن مروان، عندما استطاع الحجاج إقناع عبد الملك بضرورة عزل يزيد، فعزله وولى أخاه المفضل بن المهلب، ثم لم يلبث أن عزل المفضل، وولى قتيبة بن مسلم الباهلي سنة 86 هـ، واستقدم الحجاج يزيد وسجنه ، وأمر بإخراج إخوته من خراسان، وفرق تجمع القبائل اليمنية الذي كان أبناء المهلب يرأسونه ويستقوون به ، وبالفعل أودع يزيد في السجن ومكث فيه حتى سنة 90 هـ، حين هرب ولحق هو وإخوته بسليمان بن عبد الملك والي "جند فلسطين" آنذاك والذي كان يقيم بالرملة، فاحتفى سليمان بهم، وأكرمهم وتوسط ليزيد عند أخيه الوليد بن عبد الملك، فعفا عنه ودفع عنه المال الذي طلبه منه الحجاج

لما توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك، خلفه سليمان بن عبد الملك الذي ولى يزيد بن المهلب العراق خلفا للحجاج ثم ولاه خراسان، فلما استقر في الحكم غزا الأقاليم المجارة لإمارته واستطاع ضم جرجان وطبرستان "في شمال إيران اليوم" إلى ملكه ، ثم كتب إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك يذكر الغنائم الكثيرة التي حصل عليها ، ويبالغ في الوصف ، ليثبت للخليفة القابع في الشام أنه ذو بأس شديد وأنه ضم أقاليم جديدة ، تدر خيرا وخراجا وسبايا للدولة الأموية ، لكنه دون أن يدري ، أساء إلى نفسه لأن هذه المبالغات ، جعلت الخليفة التالي عمر بن عبد العزيز الذي تولى بعد موت سليمان ، يطالبه بما عنده من غنائم ، فلما لم يف يزيد بما قال ، أمر بن عبد العزيز بعزله وسجنه في حصن حلب بسوريا.

لما مرض عمر بن عبد العزيز مرض الموت ، ويقال أنه سقي السم من قبل قادة البيت الأموي بسبب إصراره عن التراجع عن الغزوات في الشرق والغرب ، مما أدى إلى تراجع الخراج ، وهو ما عوضه مؤقتا بضم أموال ولاة الأقاليم إلى خزينة الدولة ، بحجة أن هذه الأموال ملك لبيت المال ، وليست خاصة بهم ، وكان من بين الولاة الذين حدث معهم ذلك يزيد بن المهلب ، مختصر القول أن بن المهلب لما علم بمرض الخليفة استعان برجاله ، فهجموا على السجن كما فعل من قبل أيام سجنه أيام الحجاج ، وذلك يؤكد أن رجاله كانوا من القوة والقدرة على اقتحام سجون الخلافة وإخراج رجلهم منها في كل مرة ، وبالفعل خرج يزيد من سجنه ، وسار برجاله نحو البصرة قاصدا انتزاع ملكها بقوة السيف ، فأمراء الحرب كالعادة لا يستطيعون العيش بعيدا عن السلطة والثروة.

ما أن وصل بن المهلب إلى البصرة كتب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز رسالة جاء فيها : إني والله ما خرجت من سجنك إلا حين بلغني مرضك ولو رجوت حياتك ما خرجت ولكني خشيت من يزيد بن عبد الملك، فإنه يتوعدني بالقتل" وكان يزيد بن عبد الملك يقول: لئن وليت الخلافة لأقطعن دابر يزيد بن المهلب ، وذلك أخذا بالثأر لأن يزيد بن المهلب لما ولي العراق عاقب آل أبي عقيل، وهم بيت الحجاج بن يوسف الثقفي ،أصهار يزيد بن عبد الملك ، حيث كان متزوجا ببنت محمد بن يوسف أخي الحجاج، وله منها ابنه الوليد بن يزيد الذي تولى الخلافة فيما بعد ، فلما بلغ عمر بن عبد العزيز أن يزيد بن المهلب هرب من السجن قال: اللهم إن كان يريد بهذه الأمة سوء فاكفهم شره، واردد كيده في نحره" دون أن يحرك جيشا لقتاله خاصة أنه كان في مرض موته .

لم يكن انشقاق بن أبي صفرة عن الدولة الأموية بالأمر الهين ، فهو قائد عسكري مشهود له بالكفاءة والخبرة في الحروب وله باع طويل في الحكم ، كما أن علاقاته بالقبائل وصيت أبيه ، يجعل منه خصما قويا لدولة بني أمية ولو طلب الخلافة لنالها ، وبالفعل حدث ما يخشاه الأمويون فقد سار يزيد إلى البصرة فدخلها وغلب عليها سنة 101 هـ،ثم استولى على ما يليها من فارس والأهواز ، ثم أعلن خلع يزيد بن عبد الملك عن الخلافة وطلب من الناس مبايعته وقد حدث بالفعل .

استحوذ بن أبي صفرة على البصرة، بعد محاصرة طويلة وقتال طويل سقط فيه مئات القتلى من جيشه وجيش الأمويين ، فلما ظهر عليها بسط العدل في أهلها وبذل الأموال خاصة أن الأمويين كانوا يذيقون أهل العراق أشد العذاب من ظلم وجبروت وفرض جباية ، لذلك كان العراقيون يشجعون أي خارج يثور على بني أمية ، وفي العراق كانت نهاية أمبراطورية الأمويين كما هو معلوم وكما سيأتي بإذن الله في مقالات قادمة .

لما تمكن بن المهلب من البصرة حبس عاملها عدي بن أرطاة الفزاري ، لأن الأخير كان قد حبس آل المهلب الذين كانوا بالبصرة حين هرب يزيد بن المهلب من محبس عمر بن عبد العزيز ... وكأنهم قادة عصابات من يظفر بالآخر يسجن أهله ويقتل ويسبي وينهب أموال خصمه ، إذن فقد رد بن أبي صفرة الصفعة لعدي بن أرطاة لما تغلب عليه ، فلما أتى بعدي مكبلا ، دخل على يزيد بن المهلب وهو يضحك، فقال له يزيد : إني لأتعجب من ضحكك لأنك هربت من القتال كما تهرب النساء، وإنك جئتني وأنت مكبلا مثل العبد، فقال عدي: إني لأضحك لأن بقائي بقاء لك، وإن من ورائي طالبا لا يتركني، قال: ومن هو، قال: جنود بني أمية بالشام لا يتركونك، فتدارك نفسك يا بن المهلب ، قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه فتطلب الإقالة فلا تقال، فرد عليه يزيد جواب ما قال، ثم سجنه كما سجن أهله.

بعدما استقر أمر يزيد بن المهلب بالبصرة، وبعث نوابه في النواحي والجهات، واستناب في الأهواز، وأرسل أخاه مدرك بن المهلب على نيابة خراسان ومعه جماعة من المقاتلة، فلما بلغ خبر ما حدث من أولاد أبي صفرة ، إلى الخليفة يزيد بن عبد الملك جهز ابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك في أربعة آلاف من الجنود ، وكان في المقدمة مسلمة بن عبد الملك ، فلما وصلوا أرض العراق، جرت بين الجيشين بالقرب من الكوفة ، في مكان يقال له "العقر" من أرض بابل معركة هائلة في 14 صفر 102 هـ، دامت ثمانية أيام قُتِلَ فيها يزيد بن المهلب، وعدد من إخوته وأنصاره وقادة جيشه ، وخلق كبير من الجنود والمؤيدين ، كما أسر جيش مسلمة نحو من 300 من رجال ابن المهلب بعد اقتحام معسكره، وضُربت أعناق بعضهم على غرار ما تفعل "داعش" وأخواتها اليوم ، ولما بلغ مسلمة بن عبد الملك أن آل المهلب تجمعوا في البصرة ثم ركبوا السفن خلسة وحملوا فيها أموالهم ونساءهم وأنهم نزلوا في شاطئ "كرمان" والتي كانت تحت إمرتهم في حياة أبيهم، أرسل بن عبد الملك في طلبهم، فحاولوا الالتجاء إلى بلدة "قندابيل" من أرض السند وكانت تحت حكم "رتبيل" الذي التجئ إليه من قبل عبد الرحمن بن الأشعث ، ولكن مطارديهم الأمويين لحقوا بهم، وأبلى "المهالبة" بلاءً حسنًا في قتال مطارديهم، حتى قتلوا عن آخرهم باستثناء اثنين استطاعا النجاة، هما أبو عيينة بن المهلب وعثمان ابن المفضل بن المهلب اللذان لحقا برتبيل أمير أرض الترك واحتميا في جواره، وبذلك أحبط الأمويون ثورة أخرى، قامت ضد ملكهم وكان ثمنها ألاف القتلى من المسلمين من الطرفين ، قتلى راحوا ضحايا شهوة أمراء الحرب.

في المقال القادم نواصل سرد قصص الدماء التي سالت على أعتاب الخلافة الإسلامية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو


.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم




.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah