الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-ضيّع نفسك، تجدها-... إبراهيم الكوني، ومعضلة تحرير الإنسان الشعاريّ المسيّس

عصام بن الشيخ
كاتب وباحث سياسي. ناشط حقوقي حر

(Issam Bencheikh)

2017 / 5 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"ضيّع نفسك، تجدها"...
إبراهيم الكوني، ومعضلة تحرير الإنسان الشعاريّ المسيّس
الناقد: د/ عصام بن الشيخ – الجزائر
29/05/2017
***********************************
"في الوقت الذي يحتفل فيه الأوروبيون بأعمالي، أقلّ من يقرؤني هم العرب، وأقلّ منهم الليبيّون، وأقلّ من الليبيين الطوارق، لكنّهم في النهاية أهلي، وأنا أمثّلهم"..
الروائيّ الليبي إبراهيم الكوني

متكئا على عصاه، خطّ الأديب والروائيّ الليبيّ الكبير إبراهيم الكوني، الطارقيّ المنحدر من عمق الصحراء الإفريقيّة الكبرى، طريق العدو طوال سبعة عقود خلت، لـ: "إيجاد نفسه في مسيرة الضياع"، مسيرة اغترابية قاسية ذات هدف قصديّ بعيد المنال. "يجب أن نهجر أوطاننا لننقذها من الخارج"، إنّه الأديب كثير التنقّل والسفر، صانع المسافات، رسول ليبيا وصحرائها إلى العالم، ونبيّ زمانه، الذي يعدو في سيروة البحث عن نفسه، حتى أطلق على الشخص (X) الذي يخطّ رواياته، اسم "عدوس السرى". الكوني الأديب، هو الرجل الذي يخوض مغامراته الوجودية في بعدها الميتافيزيقيّ، وتجواله العرفانيّ في الهجرة والسفر انطلاقا من الواحات، نحو الآخر، لاختراق ستار الغرب، من شرقه إلى غربه. تدرّس نصوصه الأدبيّة اليوم في المدارس الابتدائية الألمانية، ولا تعرفه المدارس العربية مطلقا، وزادت أزمة ليبيا اغترابه، وتلفظه الصحراء إلى غيرها من الأمكنة، كأنّه ابن ضالّ، فيما هو في الواقع ابنها المطيع، وسفيرها الحصريّ الدائم "فوق العادة".
لا يمكنك أن تتحدّث عن الأوسمة والجوائز الدوليّة التي نالها الكوني، دون أن تتحدّث عن قدرة هذا المبدع الكبير على انتزاع اعتراف العالم برمّته، انطلاقا من "مركزية الصحراء" وهبة "الروح البريّة"، وهو الذي استخدم مضطرا، اللغة العربية للتعريف بالأمة الطارقيّة، وفتح التساؤلات عن السبب الذي لم يجعل الروائيّ العربيّ يحاكي تجربته الفريدة في الاعتزاز بالهوية البريّة، والارتكاز على بساطة الأصل والانتماء، ولماذا يعاني الروائيّ العربيّ الاغتراب، بسبب أصله الصحراويّ. لقد قالت الصحراء لإبراهيم الكونيّ، سافر بعيدا في رحيلك المقبل، ففي المجتمع الطارقيّ الذي كان ولا يزال "العرف" ناموسه الاخلاقيّ، تعلّم الكوني فلسفة نيتشه "الويل لمن تسوّل له نفسه أن يستولي على الصحراء (الوجود)"، لقد أعجب الغرب بلغته الأسطورية، ودفاعه الضمنيّ عن اللاهوت، ودور البريّة في التماهي مع الميثولوجيا، فقد وجد الكوني نفسه متصديّا مع جوهر الغرب، الذي يخشى "أطروحة موت الله"، وطغيان الشقاء، وسطوة الأيديولوجيا، وتغييب الثقافة الإنسانيّة فيه.
لا يبتغ هذا التقديم، تأليه الكوني أو تمجيده، لأنّنا في رحلة البحث عن تفكيك صدمة الإنسان العربيّ البسيط، مما يقوده إليه الغلاة والطغاة والغزاة، من مستقبل الفناء، والحيرة والتيه، تعرّفنا على "الممنوع التفكير فيه" واللامفكّر فيه"، فقادنا البحث في سلسلة سابقة من المقالات البحثية، إلى المفكّر اللبنانيّ عدنان السيّد، الكاتب الكويتيّ أحمد الصرّاف، المفكّر السعوديّ عبد الله الغذّامي، المفكّر السوريّ محمد شحرور، المفكّر التونسيّ الراحل محمد الطالبي، هذه ليست قائمة قصيرة انتقائيّة لنخبة عربيّة معيّنة دون غيرها، بل قيادة غائيّة ذات مكمن قصديّ هادف للقارئ العزيز، لما يميّز هؤلاء دون غيرهم، في بحث بل تحرّر العربيّ البسيط، من تعقيدات المدنيّة والعمران، السياسة والإيديولوجيا، التدخّلات الأجنبيّة والاستعمار الجديد.
يعتمد هذا التقديم الهام لإبراهيم الكوني، على فكرته حول الدفاع عن الثقافة الإنسانيّة، ومحاربة الإيديولوجيا وشقاء "إنسان العمران"، ليضيفه إلى عدد من المفكرين والأدباء العرب الذين دافعوا عن التقليد أو الحداثة أحيانا أخرى، في مسيرة الخلاص من الإيديولوجيات، غير أنّ الكوني يقدّم طريقة خاصة في الخلاص من التطرّف، عبر التحرّر من سيطرة المدنيّة، وشقاء السياسة، لتضاف إلى سلسلة من سبقه من المفكرين العرب، وقد استعنت بالدراسات والحوارات المسجّلة للأستاذ إبراهيم الكوني، لتسجيل فكرة الكوني في محاربة الراديكاليّة عبر الوجودية البرية لصحراء الحرية.

الكوني بين قطبية "البريّة الطارقية"، والهوية الأدبيّة العربية"
فصام هادف محمود، و "ربّ ضارة، نافعة"
هويتي عربيّة بقدر ما هي طارقيّة، فما دمت أكتب باللغة العربية فهي جزء من هويتي وانتمائي، الذي رسّمته الدولة الوطنيّة الموروثة عن الاستعمار، و"لكم يدهشني، أنّ العرب لا يعرفون لغتهم"؟؟، لأنّ اللغة العربية استنطقت الغيوب للكشف عن إله موجود"، وهي لغة عريقة منتجة للكنوز، هكذا يصف الكوني أعماله ورسالته وموهبته، ويحاول كلّ مرّة أن يجعلنا نحاكم نصّه، دون السماح بمحاكمة شخصه، فأنا روسيّ وفرنسيّ وانجليزيّ وزنجيّ وبرتغاليّ واسبانيّ ووو...، فالبحث عن الحقيقة اقتضى على الكوني "حمل الصليب لوحده" لتفكيك حزمة الاغترابات التي عاناها، دفاعا عن "الروح الرساليّة"، التي اكتسبها انطلاقا من هويته الطارقيّة الرومانسية واللاهوتية، الباحثة عن الفردوس المفقود "الحريّة".
يميّز الكوني الصحراء، بأنّها المجال الفاقد لشروط المكان، وهي الفضاء الذي تسمع عبر صمته "نداء الرحيل"، بحثا عن الوجود والماهيّة، فالترحال يولد كنداء تصعب مقاومته، والصحراء تجبرك على أن تعيش حرّا، باحثا عن دمية لفرك، تختلقها بنفسك، وتبحث عنها دون جدوى، كفردوس مفقود، رسالة تجبر الكوني على السفر عبر الفراغ، من خلال أساطير الصحراء ورماله وكنوزها كهوفها وجنّها وحيوانتها، نحو مناف جديدة، بحثا عن الرسالة في "محنة الوجود". لقد أوصته الصحراء باستعمال العربية، لأنّها "اللغة التي تتكلّم الكوني" ليفصح عن آمال الطوارق ومعضلة "إنكار الصحراء"، فالطارقيّة المنسيّة تفضّل العربية على الفرنسيّة، للإفصاح عن الهوية، فالعربية لم تبتلع هوية من قبل، بل ساعدتها على الحفاظ على ذاتها ووجودها، من خلالها.
يقول الكوني، أنّ قولة "مؤرّخ الإفلاسات" العلامة عبد الرحمان ابن خلدون، أنّ "الطوارق أمّة كبيرة مثل العرب والفرس والروم"، لهي توقيع نهائيّ، يثبت ما خلص إليه المؤرّخ اليونانيّ هيرودوت، في كتابه عن شعب ليبيا الطارقيّ، ويقو الكوني، أنّ ابن خلدون، شابهه في الحلّ والترحال، لكن بين البريّة تارة والمدنيّة تارة أخرى، وهو الذي سخّر حياته في البحث عن مبررات تأسيس الدولة والمجتمع، دور العصبيّة ووظيفة الهويات العائلية للأمم، التقليدية والمدنيّة على حدّ سواء، دون نسيان دور العمران في تأسيس المكان، وخلق الهوية الجديدة، بعيدا عن الأنموذج الأصليّ للبريّة الصحراوية، وطبيعها القبليّة المتفرّدة، دون سخرية أو خجل من الأصل والهوية والانتماء.
يحمل الكوني رسالة طارقيّة بلغة عربية، ويشفق على حال العرب والعربية في أثناء دوره الحضاريّ، فحين يشكر العربية، ينتقد أهلها، وسباتهم المريب، وصمتهم الرهيب، ومع ذلك، يمضي الكوني في رسالته، ويوجّه نصيحته لأهل العربية بالتأسّي ومحاكاة الطوارق، لأنّهم أهل الصحراء الكبرى الأخرى في الربع الخالي، ولأنّ نبيّهم ما كان لينجح لولا خلوة الصحراء، ونداء الحرية.

البريّة "قطب الرحّل" المنتج للاّهوت،
والمدينة "القطب المتسقرّ" المنتج للطاغوت،..
من سخرية الأقدار، أن يقود الرئيس الليبيّ المغدور معمّر القذافيّ، ثورة الفاتح سنة 1969 من عمق الصحراء، لتأليه نموذجه القوميّ باستخدام الإيديولوجيا، وتأسيس المدنيّة الليبيّة الجديدة عليها، ثم الزعم بعودته إلى الخيمة والبريّة، وهي "جريمة ارتكبها الطاغوت في حقّ اللاهوت"، إذ يصف الكوني البريّة بالقطب الراحل، الذي ينتج عبر الميثولوجيا اللاهوت الباحث عن الحريّة، في حين تنتج المدنيّة بوصفها قطبا مستقرا، أيديولوجيا السياسة والسلطة، المنتجة للاستبداد والطاغوت، وما فعله القذافي، هو محاولة يائسة، لتطويع القطب الراحل، ضمن مركزية – وفي عاصمة - القطب المستقرّ "بطرابلس".
لقد سمّمت الإيديولوجيا -(ربية السياسة) – نفوس الأفراد، ونقلت المجتمع من السعادة إلى الشقاء، وعرقلت النهضة بتحويلها الفرد من "البريّة الحالمة الرومنسيّة"، نحو "الشعاريّة المسيّسة الاغترابيّة"، يتفق الكوني مع خلاصة اللبنانيّ عدنان السيّد، والمغربي علي أومليل، في تحميل الدولة الوطنيّة مسؤولية مآسي المواطن العربي البسيط "المصدوم"، لكنّه يتميّز عليهما في تحميل المسؤولية أيضا، لكلّ الإيديولوجيات، على حدّ سواء، مسؤولية الفشل العربيّ، ولو نجح بعض منها في الحفاظ على بقاء الدولة وتماسك المجتمع، ويرفض أن يعترف للإيديولوجية الإسلاميّة بالحقّ في التجربة، لأنّ الحرية غير قابلة للمصادرة باسم الشرعية، و"الويل كلّ الويل، لمن يسعى لمصادرة الصحراء".
لا يخوض الكوني حربا على المدنيّة، وليست تلك رسالته، ولا يدافع عن البريّة، وليست تلك رسالته أيضا، إنّه نبيّ مدافع عن وجدويته المفقودة، وحريته السليبة، ضدّ عدوّ خفيّ دائم، يجعله حالما خلف مشروعه التحرّريّ، ضدّ جميع مشاريع مصادرة العقل والروح، سواء عبر الإيديولوجيات، أو من خلال الدخلاء، ووكلائهم.

توتّر "إنسان العمران"، و "ربيبات السياسة":
نحو تفكيك اغترابه الثقافي وتحولات الأدلجة
حيثما هيمنت الإيديولوجيا –ربيات السياسة-، كان الناس تعساء أشقياء، وسطت على أحلامهم أفكار الجنون والتطرّف، وصدمتهم حقيقة "مجتمعاتهم المنفّرة" (قريبة البيوت، بعيدة القلوب)، لقد انتقد الكوني تفسير هتلر فكرة نيتشه عن "السوبر مان"، لقد حاول هتلر مصادرة الصحراء والوجود، مشوّها مقاصد نيتشه في الدفاع عن الحريّة، من الأيديولوجيات المشوهة،
على "عدوس السرى" البحث عن الموقف وتأويلاته دون الانشغال بالوقائع، وعلى الناس أن يكونوا حاملين للصليب على أظهرهم، بحثا عن الوجود الذي ينام فينا ويسكننا، "ضيّع نفسك تجدها"، و"السعادة موجودة في الطلب"، لذلك ينصحنا إبراهيم الكوني أن نجعل النصف المتبقي من حياتنا أجمل من النصف الأول، تحضير لحظة الفرح عند الموت. فهل سيستجيب إنسان العمران، وكيف؟، ولماذا يصرّ الكوني على كشف شقاء وتعاسة المدنيّين، وهل يعمد إلى جعلهم يغارون من أهل البريّة (الصحراء).
ظهرت في دول شمال إفريقيا نزعة ذاتيّة للافتخار بالمكوّن الطارقيّ، نجد ذلك كثيرا في المغرب، الجزائر، وليبيا، وموريتانيا أيضا، غير انّ الكونيّ غير راض تماما عن هذا الموقف، إذ يبدو أنّ الدولة الوطنيّة قرّرن استيعاب هذا المكوّن، بطريقة استيعابية استحواذية، وبدل خوض الصراع ضدّ مركز الدولة الوطنية، يدافع الكوني عن الصحراء، ويقول أنّها أعطت النفط والمياه والتمور وخشر والفواكه لأهل المدينة، غير أنّها عرفت في المقابل الإنكار والجحود، والنفي والاستصغار. وكما يقول الفيلسوف التونسيّ فتحي المسكيني "فرويد لا يدخل حيّنا"، حيث لا يمكن للفقراء الشكوى للتعبير عن آلامهم كالأغنياء، فإنّ فرويد محضور في الصحراء، وليس على أهلها أن يشكو الطاغوت والإيديولوجيا إلى فرويد، لأنّ العلاج السيكولوجيّ، ليس ضمن أولويات السلطة المركزية.
حيث سدّت في وجوه مواطنينا العرب أزمات الغذاء والصحة والعمل والأجر والسكن وغيرها، تكدّست مظالم وانتظارات الجماهير، وأسئلتهم المحرجة، مادام تأكيد عجز الدولة العربية الوطنية عن الدفاع عن القضية الفلسطينية واضحا صريحا، فإنّ هذه الدولة الوطنية نموذج للفشل الذريع داخليا وخارجيا. أما حين تفشل أيضا دولنا العربية القطرية، في إزالة أسباب الشقاء والتعاسة، واختراع أدوات الاكتئاب والانتحار، سيكون ظهور التطرّف من أشهر ما يكون، انطلاقا من برادايمات المظلوميّة المتخيّلة، للمجموعات البروتستانتية المسيّسة، الت شوّهت قيمة الحريّة، باسم الدفاع عن الدين.
كانت الصحراء وطن الرؤى السماوية، ومنطلق الإصلاح والتغيير، لذلك يرفض الكوني أن ترجم الصحراء، حين يوصف كلّ قاحل متصحّر بالشبيه للصحراء، فالصحراء هي ما يطعمنا إلى اليوم، ولولا الصحراء لما أطعم العالم، ولما تأسس العمران. فأفضال الصحراء كبيرة جدا، لأنها تمدنا باللاهوت والقوت والنور (الطاقة)، لذلك يطالب الكوني بإعادة الاعتراف بهوية الصحراء، وقد اعترف العالم، دون العرب والمسلمين والطوارق والأفارقة، للأسف الشديد.

غياب "الأسطرة" تهمة للأدباء الجدد:
تسييس الأدب وأدلجته، حوّل الروايات إلى تقارير وبلاغات استعجالية
ينتقد الكوني المشكّكين في تقسيمه الإنسان، إلى حرّ في البريّة، وشقيّ تعيس في المدينة. يبدأ حججه من رمزية هابيل الراحل وقابيل المستقرّ، حين قبل الله قربان الراحل ورفض قربان الباقي، ويؤكّد أنّ "الموت هو الحريّة في بعدها الأقصى"، حيث أنّنا: "نقتل من نحبّ" كحقيقة إنسانيّة مثبتة. كم استند الكوني إلى تمييز القدّيس أوغسطين القبيلة الراحلة عن قبيلة قابيل الدنيوية الباقية، فهذه الأدلة التراثية تؤكّد مضامين النصوص النصرانيّة بهذا الصدد أيضا. "أطلق شعبي ليعبدني في البريّة"، تجعل الصحراء المسجد والمحجّ والحرم.
ينتقد إبراهيم الكوني الروايات السياسية التي تدوّن الوقائع عبر رهان ضيّق، بهدف الشهرة أو بلوغ عوائد ماديّة، ويعتبرها بلاغات وتقارير استعجاليّة، تغيب عنها الأسطرة، ويقول في المقابل أنّ لغته العربيّة ساعدته على أسطرة الوقائع، ليس بغرض الشهرة، ففي تدوين فهرس تنقلاته كان الكوني يحبّذ العزلة، ويستجيب لمطالب "لا يسمعها"؟؟، فهو لم يكن يريد أن يكون نصّه وسيلة لعلاج التلاميذ الألمان في المدارس، وليس في اعترافه اهانة للحقيقة، لأنّ الكوني يقمع الروح الغربيّة، ويسعى لتحرير الروح الطارقيّة والليبيّة والعربيّة من قمع الأيديولوجيا والتعصّبات.
الحرف يميت، لكن الروح تحيي، فالانحراف بسبب "حرف السياسة" كما يقول الكوني، تجعل الرواية المسيّسة رواية عديمة الهدف، متآمرة على الصحراء (الوجود) والحريّة. فإكبار الصحراء لا يتطلب التنازل عن الكبرياء، والصحراء هي اليابسة الأولى التي قدستها كلّ الكتب السماويّة، لأنّها انفصلت على الماء. لقد كانت الصحراء وطن النبوءات و وطن الحرية، وإنسان الصحراء سعيد، وإنسان العالم شقيّ، لأنّه مؤدلج.
يقول الكوني أنّ نظرية لوكاتش التي اعتبرت الأدب والرواية دائما عملا مدينيّ وليست عملا ريفيا أو صحراوي، وهذا أمر أدهش الكوني كثيرا، الذي عمل بوصية تولستوي القائل: (أكتب ما تعرف)، لقد ردّ الكوني كالجريح، لأنّ هذه النظرية تحكم عليه شخصيا بالموت، فاختار الكوني التحدّي، في كتابة عدة ملاحم متعدّدة الأجزاء، واختار الكوني أن يستنطق كلّ شيء في الوجود، فاختار لكائنات الصحراء أن يكون لها الحقّ في قول كلمتها. طبيعة الصحراء العارية النبيلة التي لا تخفي شيئا كنوزها، لكنها تمتلك وتختزن كنوزا أكبر من كنوز المدينة، فلماذا اعتبرنا السماء وجودا عاريا يحمل رموزا، وننكر على الصحراء أن تبوح لنا بكلمتها وسرّها، شرط ثقتنا بها، فـ: "إن لم تؤلّه أيّ شيء، فلم يستلم لك".
استسلم الكوني للصحراء، فلإبراهيم الكوني روح وطريقة جعلت كلّ شيء ينجلي من الصحراء، ليهدي ثراء أدبيا كبيرا للكوني، دوننا عن البقية، لأنّ الكوني عشق بساطة الصحراء. كما دافع الكوني عن المجتمع الليبي الذي حافظ على الإسلام، وأنجب العديد من الأدباء والفلاسفة، مثل: الصادق النهيوم، أحمد إبراهيم الفقية، يوسف القويري، عبد الله القويري، يوسف الشريف، وقال أنّ هؤلاء رموز ثقافية هامة وتدلّ على غنى المجتمع الليبي القبليّ الصحراويّ البسيط والجميل.

العزلة تقنية للدفاع عن الحرية: وتهمة التغريب لا تقلقني
المكتب "مقصلة" الشخص (X)
لا يقلق الكوني مطلقا حين ينتقد الآخرون ترحاله أو غيابه المتكرّر، فذلك رهانه بالأساس بحثا عن الوجود، أمّا عزلته، فهي التقنيّة التي يعتمد عليها للاحتماء من شقاء المدينة وبؤس الاستقرار، وضمان ولائه لحرية البريّة وناموس اللاهوت، يقول عن نفسه، أنه مشاهد يملك رؤية ورؤيا، كمشاهد العمل المسرحيّ، وموقعه المفضّل والمميّز عن المشارك في المهزلة، إذ يعتبره الكوني "الممثّل الأعمى". الكوني مشاهد بعزلته، لا يشارك في الواقعة، يتربّص بها مثل ذئب الصحراء، فيعتصر من تأويلاتها، إبداعاتها المكنونة، دروسها المجيدة. العزلة تقنيّة شعريّة لولا أنّ الكوني، شاعر حصريّ للصحراء.
يعترف الكوني أنّه حين يتحدّث عن روايته ونصوصه، إزاء الشخص (X)، فحين يكون الأخير في مقصلة مكتبه، لا يعرف الكوني سرّ عرفانيته، ولماذا يخطّ القلم بحبره ذلك الإبداع، ولماذا تنطق الصحراء عبره، وليبيا، ولماذا يمتلك الإنسان البسيط أدوات التعبير عن ذاته وقوّته وكيف يفصح عن أحلامه ومطالبه. يقول الكوني أنّ الشخص المجهول الذي يكتب النصّ، يحمل مأساة رسّخها أرسطو، إذ يقول الكوني: "رأس مال الأدب، الأسطورة" كما يقول أرسطو. فلولا الأساطير ما تأسست الديانات، والميثولوجيا بوصفها (حزمة الأساطير) هي التي أنتجت اللاهوت. مهمة الكاتب أن ينتج أسطرة، وألاّ يتماهى مع الإيديولوجيا، وألاّ يخدم الطاغوت.
يقول الكوني أنّ المدنيّة استبّدت بوصفها قطبا مستقرا، عكس البرية التي أطلقت العنان للإنسان. يقول الكوني أنّ وطن المبدع "العزلة" والصحراء، ومهما تحدثنا عن الروح الشعرية أو الوجدانية في الأدب، فإنّ ذلك لا يعني شيئا ما لم يكن رساليّا يهدف إلى تحقيق الحريّة، عبر التسويق والترويج لما تريد أن تفهمه الإنسانيّة برمّتها، والمبدع لا يمكن له أن يكون داعية كما يؤكّد الكوني، لأنّ الداعية سيصطدم بالعالم، وسيرجم ويصلب لا محالة.
الكاتب بالذات في عصرنا الحدث، إذا تحوّل على داعيّة، فسيحمل شعارات قاتلة للرسالة، فـ: "الشعار سعار" منتج من الإيديولوجيا، نتيجة هيمنة الشعار السياسيّ السلطويّ الطاغوتيّ، ولتحاشي الخطاب الدعوويّ، على الكاتب أن يبلّغ رسالته بتضحيات جسام. فمأساتنا كما يؤكّد الكوني أنّ (الوجود مختزل في السياسة والشعار)، رغم أنّ حرف السياسة أصغر هامش، ومأساة الأدب العربيّ أنّه أدب مسيّس، وهو مانيفستو أو بيان وليس أدبا.

الولع بـ: "المعلومة"، ملهاة عن العلم والمعرفة:
تسميم العالم بالأيديولوجيا، ومعضلة "اغتراب الإنسان المعاصر "
يقول الكوني أنّ التقنية والمعلومات، أدوات أساسية في مؤامرات تغييب الثقافة وزيادة الاغتراب الإنسانيّ، وضياع المعرفة، واكتئاب النفس البشرية وتعاستها، شقاء كامن لا تدركه النفس ما لم تدلّ عليه، علاجها العرفانيّة والبحث عن الحريّة، عن طريق إحياء الميثولوجيا للاهوت، وتجنيد الضمائر بحثا عن "الفردوس المفقود" (الحرية)، فالتقنية والمعلومة، هي أحدث وسائل الأيديولوجيا لصمود الطاغوت، لأنّ "ما يمتلكه الفرد، هو معلومات، وليس معرفة، أو ثقافة".
ينتقد إبراهيم الكوني، ما تسبّبت فيه مدنيّة القرن العشرين والواحد والعشرين، من تدرّج الإنسان في مسيرة تعاسته وشقائه، حتى أضحى مسيّرا تهيمن عليه الإيديولوجيات المتطرّفة، لقد فعلت السياسة والرهانات السلطويّة الأفاعيل في ذات الإنسان، وسلبته حريّته، وصيّرته حيوانا قابلا للهندسة والترتيب، غير مدرك قيمة قوله "لا" لكلّ شيء.
يقول إبراهيم الكوني أنّ شبابنا أضحوا مولعين بالمعلومة، ومرتكزين عليها بجنون خادع، حتى أضحى الطبيب أوالمهندس أو القاضي والمحامي، غير مثقّف، ساخر من الفلسفة، رغم أنّه ضحية للطاغوت الإيديولوجيّ، فهو يحسب أنّه حرّ مالك للعلم والمعرفة، في حين أنّ كلّ ما يمتلكه في دماغه، مجرّد معلومات، بعيدة كلّ البعد عن العلم والمعرفة. هذا الجنون الخادع، هو سبب الاكتئاب والتطرّفات، والتعاسة والشقاء المزمن لأبناء المدينة والعمران، ولولا إرشادات الكوني، لعلاج أهل العمران، بلاهوت ميثولوجيا البريّة، لما تمكّن كلّ هؤلاء من تحرير رقابهم، من الأيديولوجيات، ولبحثوا بحرص شديد عن حرياتهم من خلال "الصحراء" (حرية الوجود)..
الإنسوب (الإنسان الحاسوب) ضحية الإيديولوجيا، يظنّ أنه يمسك بالمعرفة، غير أنّه في الواقع حيوان مرقمن العقل، ضيّع الاجتماعيّ والثقافيّ في حياته، لذلك يوصي الكوني بإنقاذ الثقافة، فحتى الرياضة أضحت افضل من الثقافة، وأسبق في المادة الإعلامية والرقميّة، إنّ الإنسان يزداد شقاء وتعاسة، بسبب تراجع الثقافة، والابتعاد عن البريّة. يحذّر الكوني بشدّة من

"دفن الأسلاف للأخلاف"، ضدّ "ناموس الطبيعة":
أيديولوجية القذافيين وتنظيم الدولة، تقود المجتمع الليبي نحو الشقاء والعدميّة
قدّم الكوني سلسلة روائية بعنوان الأسلاف والاخلاف، وقال أنّه عالج فيها علاقة الأجيال المجتمعية في منطقة البحر الأبيض المتوسط برمتها. أثار هذا التصريح لديّ الشكوك في وجود حقيقة واضحة لتورّط الفواعل الإقليمية لما حدث في ليبيا بعد ثورة (17 فبراير 2011).
عرفت بلاد الثورات العربية المختلفة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ظواهر استئصاليّة عدميّة خطيرة، تزعم تمثليها لاهوت الإسلام، فيما تعبّر في الحقيقة عن توجهات بروتستانتية لحجب أصل الدين الإسلاميّ الحنيف، ووجه السمح. تسلّحت بالإيديولوجيا رغبة منها في تسييس الإسلام، وأصبح كلّ معارض لها، هدفا بالضرورة، مما جعل منطقها الاقصائيّ أداة استئصاليّة للمخالفين، دون إرتكان إلى مشروعية أو شرعيّة.
في ليبيا الجريحة، يشاهد الكوني بألم شديد، الآباء يدفنون الأبناء، بسبب ظاهرة العنف الإسلامويّ المسلّح، فحين ندفن الذرّية ففي تلك الرمزيّة مصادرة للمستقبل، وإنذار بالفناء. يرى الكوني أنّ ليبيا حافظت على إسلامها الشعبيّ البعيد عن خرافات القذافي وعبثية نظامه السياسيّ البائد، عن طريق كتاتيبها ومساجدها وصوفيّتها، لقد أنذر الشعب الليبيّ بطاقة مجتمعيّة كامنة، وضمير مدنيّ حيّ.
ما فعلته القاعدة وداعش، في استقطاب الشباب، زاد من تغوّل الطاغوت وتسييس الإيديولوجيا بطريقة تآمرية، وها هي منظمة تنظيم الدولة، تربح معركتها البروتستانتية الميّسة مرتين، حين تسيء للدين الإسلاميّ الحنيف مرة، وتستعجل هدم المجتمعات العربية الإسلامية في ليبيا وسوريا واليمن ومصر وتونس بل وجميع البلاد العربية. يعتبر الكوني أنّ الطريقة العدميّة في فرض الإيديولوجيا المتعصّبة، دليل آخر دامغ يحمل قرائن واضحة على تعاسة وشقاء الإنسان العربي، الذي يصبو إلى الخلاص والانعتاق من الأيدولوجيات المختلفة.

كلمة أخيرة...
"حنّا مينا: كاتب البحر، إبراهيم الكوني، كاتب الصحراء"
يقدّم عازف عود جزائري انطلاقا من باريس، يدعى علّة Alla، موسيقى الفوندو الطارقيّ بطريقة متفرّدة، حاملا نفس رسالة الكوني عبر العود العربيّ، يحاول علّة تحرير نفوس إنسان العمران، وإزالة الاكتئاب النفسيّ للأشقياء التعساء، حتى اعترفت له كبرى مدار العلاج السيكولوجيّ، أنّها تؤكّد أطروحة الطبيب الجزائريّ الراحل فرانز فانون، في دور الموسيقى في العلاج النفسيّ، دون الخوض في جدليّة "دور القرآن" في العلاج السيكولوجيّ، التي تحدّث عنها المفكّر الإسلاميّ الشيعيّ علي شريعتي. اختر أيها المواطن العربيّ رواية "المجوس" لإبراهيم الكوني، أو مقطوعة "فوندو" لعلّة، وستجد أنّ البحث عن الذات ممكن، من عمق الصحراء، بأية أداة تفضّلها، الرواية أو العود أو المسرح أو القصيد أو غيره، المهم أنّ تحمل على ظهرك مصيرك، كما يقول الكوني.
إذا كان علّة موسيقي الصحراء، فإنّ الكوني قد جمع عبر الرواية والأدب كلّ ما تقدّمه الصحراء، ومع ذلك، فقد نقده بعض النقّاد العرب، الذين قالوا أنّهم لن يجدوا االله بالضرورة في الصحراء دونا عن غيرها من الأماكن، كما اعتبر بعض النقاد أنّ قراءة الكوني حولت النثر إلى شعر، لقد حوّل الكوني الصحراء إلى جنّة، عبر نصوص مكثّفة وعميقة، متعددة التأويلات، وبحاجة إلى بحث عميق، ونخشى أن تظهر أسئلة جديدة لكن بعد رحيلة، وآنذاك لن نجد مجيبا للأسف الشديد، لذلك يوصينا الكوني، بنقده، ليجيب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م


.. شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول




.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم