الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التّابو في أنساقنا الثقافية

يوسف أحمد إسماعيل

2017 / 5 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات





يتجاوز التّابو في مجتمعنا العربي أضلاعه الثلاثة المعروفة: الجنس، السياسة، الدين، إلى صور متنوعة ومتعدّدة، قد تبدأ بالمعتقد الدينيّ الشّعبيّ، ولا تنتهي عند الحديث في السياسة؛ وإنّما تدخل في تفاصيل حياتنا اليومية، ومجمل أنساقنا الثقافية. فسلطة الأب الرئيس (السلطة البطريركية) تشمل الأب والأخ الأكبر والجار الأكبر والعابر الأكبر، ثم الأعلم والأقرب إلى السلطة الأبوية، إنْ كانت اجتماعية أو دينية أو سياسية.
ليس في ذلك إشارة للتمرد على المنظومة الأخلاقية الاجتماعية؛ وإنما إشارة إلى السلطة المستبدّة، كنسق ثقافي استلابي في حياتنا بمجملها.
ومن صور سلطة البعد الأخلاقي للتابو أنْ تُذعِن لا أن تَحتَرِم؛ إذ يتداخل الاحترام بالإذعان؛ فتصبح سمة الخنوع سمة أدبية أخلاقية، وتغدو الطاعة العمياء احتراماً جمّاً، وتتحوّل الآراء الشخصية أو حرية التفكير والاعتقاد إلى رعونة وتمرّد وعقوق بحق الأب الرئيس، إن كان أبا بيولوجيا أو أبا رمزياً أو وطناً، ومِن العقوق الأبوي يُلحق المواطن بالخيانة العظمى، باعتبارها التهمة الكبرى، والجاهزة في صور التابو كلها.
يشمل التابو في وعينا الجمعيّ، وضمن نسقنا الثقافي القابل للاحترام، الخلط بين الخاص والعام، فالحديث في الجنس عند المتزوج يعني حديثا في الخاص، وعند الأعزب يعني حديثا في لغة "الدّهماء"، وعند الفتاة يعني شبقا محرّما، وعند المتزوجة عهرا يخفي قلة احتشام، وإبداء الرأي أمام الأكبر سنّاً تطاولٌ ينمّ عن قلّة تربية، وأمام المقام الأكبر في الموقع أو السلطة أو الشهادة صفاقة. كما يشمل التابو الخلط بين الأنا والآخر، بحيث تفقد الأبعاد طاقتها على التمييز، فيؤخذ الابن بأخلاق أبيه أو أخيه أو أمه أو طائفته أو قبيلته، ويتحوّل الآخر إلى عدوّ لاختلافه عني إن كان في المعتقد أو الموقف السياسي أو الذوق الأدبي أو الوعي الاجتماعي أو الطبقي، وقد يشمل أحيانا الانتماء الجغرافي.
لا حدود للتابو في مجتمعنا العربي؛ فلا حرية للفرد في المكان العام، ولا حرمة له في المكان الخاص؛ إذ لا يحقّ له أنْ يمارس طقسه الخاص في منزله، إن كان ذاك الطقس لا ينال رضى المجتمع، أو بمعنى آخر لا يتماثل مع التابو الاجتماعي، وبذلك يُطلب من الفرد ممارسة سلطة الجماعة على سلوكه الفردي، وكأنه يمارسه في العلن وأمام الملأ، ولا يحقّ له أيضاً أنْ يمارس أبسط خصوصياته الفيزيولوجية، ربما، في المكان العام، كشكل الجلوس على كرسيّ في حديقة عامة، أو شكل السروال الذي يرتديه.
يمثّل التابو في وعينا الجمعيّ نسقاً ثقافياً، بحيث تتحول فيه ذواتنا إلى سلطة رقابية على سلوكنا وحديثنا ولغتنا، إننا بذلك نمثل نموذجاً لا إرادياً لصورة الاستلاب الجماعيّ، بحيث نتحول إلى قطيع بطباع واحدة نمطية، لا خصوصية فيها للفرد إلا في أحلامه اليَقِظة، أو أحلامه التعويضية في لحظة نومه العميق.
ولأن هذا التابو الشامل هو ضد الحرية الشخصية في الاعتقاد والسلوك والرأي والاختيار، يحولنا إلى عبيد لسلطة الجماعة بتلويناتها المختلفة والمتداخلة؛ فينشأ عن ذلك، في سلوكنا ووعينا وعلاقاتنا، تضاد بين الحاجة إلى الحرية وبين سلطة الاستبداد تلك. ومن ذاك التضاد ينشأ الصراع الذي يؤدي إلى التمرد العنيف أو المخملي أو الشذوذ أو العقوق أو قلة الاحترام أو قلة الأدب أو العهر أو الخيانة أو الإنكار أو الصفاقة. غير أن ذلك يتجسد على المستوى الفردي؛ فيوسم به فلان من الناس، ولكنه على المستوى العام يحوّل الأغلبية، بكل ألوانها وأطيافها وفئاتها، إلى سمة النفاق؛ بحيث تضطر الأغلبية إلى التفكير بمستويين، معلن ومخفي. وتتقلب بين سلوكَيْن؛ خاص مضمر، وعام معلن.
ذاك النفاق يشمل كل حياتنا وألوانها؛ ففي السياسة نمدح السلطة الحاكمة، تقية، في العلن، ونلعنها في سريرتنا، وهي تعرف ذلك ونحن نعرف أنها تعرف ذلك؛ ولكنها لا تملك دفعنا لاحترامها، بل للخوف منها فقط. ولكن هذه الحالة المتبادلة من الكره بين الحاكم والمحكوم في الخفاء وإعلان عكسها في العلن، لا تشمل مثقف السلطة؛ لأنه تماهى مع السلطة، وصدّق كذبها، وبدأ يعيد إنتاجه. ولذلك نراه يدافع عنها، وعن ثقافتها في السر والعلن؛ فيتحول إلى رقابة غبية في يد السلطة القامعة والساخرة منه، وله في الوقت ذاته. وفي الاعتقاد والرأي لا يمكن أن نجاهر بموقفنا إن كان يخالف الاعتقاد المعلن للأغلبية، وإن كان الفرد في ذلك صاحب موقع اجتماعي وثقافي مميز! فنراه يضطر للّعب باللغة والتلميح والهروب ثم الانزلاق ثم البحث عن صيغ فلسفية تحميه من السلطة الاجتماعية المرهِبة، التي تلاحقه من تصريح إلى تلميح، فتتعب من الجري والاستنتاجات وتجميع الأدلة والبراهين، لتكفيره أو لعنه، وبالتالي إخراجه من الجماعة الاجتماعية إلى منزلق النفي أو الإعدام تحت ظل قائمة الموتى.
وفي النسق الثقافي الاجتماعي تبقى الذكورة هي الإطار الأشمل لتفكيرنا، أي الصورة البطريركية الكبرى لوعينا المنافق. فيتمثل وعينا السلطوي في كل قناعاتنا وسلوكنا، بدءا من العلاقة مع محيطنا العائلي ومرورا بمحيطنا الإداري، وتضخم ذاتنا في علاقتها مع الآخر المختلف عنا في الجنس أو الجنسية أو الطائفة أو الثقافة. وعليه تتبدى شخصيتنا برفضها للحوار الحضاري، وبتعصبها، ثم بعنفها الشديد.
إن علاقتنا مع التابو تبدو بنيوية، ولذلك نحن مساقون في دائرة العبودية للتابو بأطيافه المتعددة، والثورة عليه هي تمثل ثورة حضارية، تتجاوز الانقلاب على السلطة لتحقيق الثورة النهضوية الشاملة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نارين بيوتي تتحدى جلال عمارة والجاي?زة 30 ا?لف درهم! ??????


.. غزة : هل تبددت آمال الهدنة ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الحرس الثوري الإيراني يكشف لـCNN عن الأسلحة التي استخدمت لضر


.. بايدن و كابوس الاحتجاجات الطلابية.. | #شيفرة




.. الحرب النووية.. سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة! | #منصات