الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كومر

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2017 / 6 / 2
المجتمع المدني


كومر
حين غادرت أعداد كبيرة من العراقيون وبضمنهم معظم المندائيون بلدهم لأسباب كثيرة منها الطارئ والمُلح بسبب وقوع ظلم وأبتزاز ومنها للأسباب المنطقية طلباً للأمان، عانى جيل الآباء كثيراً من وطأة الغربة، خسر ماله وعمله وحتى أسمه، فقد كان شخصاً معروفاً بموقعه الوظيفي أو في محله وأمام زبائنه وفي دوائر الدولة كان أسمه كمالك بسجلات العقاري ودوائر الهاتف والماء والكهرباء وكتاجر في أفرع الضريبة والبنوك وغرفة التجارة...الخ، أما اليوم فإن معظمهم ببلاد الغربة مجرد رمز ورقم وأسم بالمؤسسات الصحية والأجتماعية لأجل تلقي المساعدات والعلاج لا أكثر .
ولو يُسأل أحدهم: لم أنت هنا؟ لتنهد وأجاب بحسره مختلف الإجابات، إلا أنه ينتهي بالقول أن كل شيء يهون من أجل مستقبل عائلته وأمان أطفاله، وهو صحيح الى حد كبير فبرغم أن في هذا الرد تجني على ذاته وألغاءها وهذا لا يجوز، لكنه فعلا قد جنى الثمار حين كبر أولاده وأحفاده وشاهد ولمس كيف يبدأون بالتفاعل مع مجتمعهم الجديد، يتكلمون لغه جديدة بلباقة ويتزاملون ويمارسون هواياتهم ورياضاتهم المحببة بأكبر مدى من الحرية والأهم أن يمارسون حرية الرأي وهو ما يفتقده أقرانهم بالعراق أو أنهم يمارسوه بشكل منقوص وخاطئ وغير حضاري، لقد أصبح جيل الشباب اليوم بأوربا يتحرك بدون ثقافة الردع وبعدم سماعه... (ميجوز، ميصير، ممنوع...) فيكتشف بنفسه الصح من عدمه ويبني له شخصية بحرية.
في مقالتي هذه أعطي صورة مغايرة تماماً لما يظنه جيل أبنائنا وأحفادنا عما تربينا ونشأنا عليه، فلو نتابع المساحة التي كانت متاحة أمامنا في طفولتنا ـ نحن جيل الآباء ـ ونستذكر مرحلة الأعداد الأولى (الروضة و الأبتدائية) عندما كنا صغاراً أي بالخمسينات والستينات ونفترض وجودها اليوم بالعراق مع فسحة أمان، أكون جازماً بأن الأغلبية سيعود كي يجد على الاقل... أسمه.
المثال الذي ساقتدي به في منتصف ستينات القرن الماضي زماناً ومن مسقط رأسي مدينة (بعقوبة) مكاناً، في أستشهادي لكم سأكون مثالاً مناسباً كوني أنتمي لطبقة وسطى يصح أن تكون نموذجاً. كانت يسكن مدينتي الصغيرة زهاء الستون ألف نسمة وفيها روضة واحده يأمها أولاد العوائل ذات الدخل المحدود من موظفين وأصحاب مهن أسوتاً بأولاد الميسورين الذين كنا نسمي أهلهم (الملاجة)، تأخذنا للروضة سيارة (الكومر) بسائق أنيق ومرافقة أحد معلماتنا، في سنة دخولي الروضة صدرت تعليمات وزارية بأن يكون الدوام بالروضة سنتين بدل الواحدة، يتم قبول الطالب بسن الخمس سنوات يتخرج من صف التمهيدي وهو بسن السبعة حينها فقط يُقبل بالصف الأول الإبتدائي. كان معظم المدارس الإبتدائية مختلطة ومنها النموذجية التي شاءت الصدف أن مديرتها (فاطمة الحسون) الحازمة الشديدة ومن عائلة ذات أصول عريقة بالمدينة لها معرفة بعائلتي لأن والدتي قد ولدتها بأطفالها الذين هم بأعمارنا أي (جِدّة أطفالها وأمهم الثانية ـ هكذا كان يطلق عليها ببعقوبة) ففتحت لنا نحن الأخوان أبواب مدرستها.
كان البلد يتبع نظام علماني ليبرالي لا يزال موروث من الحكم الملكي بمواده الدراسية وطرق التدريس وغيرها، لنا زي موحد أنيق تقوم المديرة بداية كل عام بتحديد قماشه (الأنكليزي) من البزاز، ولنا نظام غذائي يومي بالروضة ومدرساتنا مثال يقتدى به بالاناقة والمكياج والملبس والعطر والاتيكيت لازلت (أعشقهن) لأنهن قدوة لنا، كان لنا بالروضة قاعة واسعة لألعاب لهو ورياضة أنكليزية مصنوعة من الخشب فيها من الدراجات والمراجيح وكل ما نراه اليوم وحتى أحلى كون الشركات كانت تهتم بصناعتها وتوفر أشد وسائل الأمان بها.
في الابتدائية صار لدينا غرفة موسيقى (فأستاذ ألبير) يطل علينا أسبوعياً لنتمرن على آلات (الاكرديون والأيقاعات وأجهزه موسيقية غربية صغيرة مختلفه) وكنا نردد أغاني وطنية وموشحات جميلة وبريئة تغنى بحب الوطن، لا للسياسة فيها مكان ولا للدين، أتذكر منها :
الكون الى جمالكم مشتاق ... مشتاقُ
والعالم كله لكم عشاق ... عشّاقُ
أو: أرجعي يا ألف ليلة...
أو: جادك الغيث إذا الغيث همى
يازمان الوصل بالأندلس...
أو: لما بدا يتثنى... آمان يا للي أمان.
كنا نردد كل خميس عند تحية العلم أناشيد بحب الوطن والطبيعة حولنا والمعلم والمدرسة. كان هناك مسرح ومهرجان سنوي يتدرب الموهوبون طيلة العام على تقديم أعماله من فن المسرح العالمي وفعاليات أخرى محلية تقدم على خشبته أو نذهب نؤديها أمام الكاميرات لتعرض على الهواء مباشرة من على شاشة تلفزيون بغداد، كان لدينا مختبرات غنية بوسائل الإيضاح ونمارس بعض التجارب البسيطة فيها، وكانت المعدات ووسائل الإيضاح كلها من صنع (أبو ناجي)، الخرائط مكبرة ومطوية يصطحبها معلم الجغرافية معه وهي مفصلة عن العراق وجميع قارات العالم وكانوا يعرضون لنا دورياً أفلام علمية وعن عالم الحيوان، كان هناك مهرجان رياضي سنوي في ملعب المدينة تتبارى المدارس فيما بينها وتحتفظ المديرة بغرفتها بدولاب زجاجي أنيق للكؤوس التي حازت المدرسة عليها، وكان للكشافة نشاطات غير تحية العلم ولنا مجاميع تقوم بممارسة طقوس جميلة، فقد كنا نرتدي الملابس الأنيقة بربطة العنق وحبالها المتدلية والصفارة والكؤوس المعدنية، وكان لنا رحلات تدريبية بالمعسكر الكشفي حول كيفية نصب الخيم وتعلم السباحة والتجذيف وتدبير حبل ووتد مفقود للخيمة أو أشعال نار مما حولنا دون وسيلة مساعدة والبحث عن (الكنز) المفقود بتوافق العمل العضلي والبدني معاً، لازلت أحتفظ بهدية وببعض الصور (أسود وأبيض) لهذه النشاطات. كان لدينا معارض سنوية يشارك فيها المتميزون، المخترعون والفنانون بالرسم والتحنيط والنحت وغيرها. كما كانت المدرسة تستأجر عربة تقوم المدرسة بتزيينها وتستعرض البنات فوقها بملابس فلكلورية أمام العوائل كل ربيع بينما كنا نحن الأولاد نسحبها بالحبال.
كان هناك أجتماع فصلي للآباء والمدرسين وهو صعباً على الكسالى وفرحاً وعيداً عند الشطار حين يفتخرون بأنجازاتهم أمام أهلهم، وكان يطبق مبدأ الثواب والعقاب الذي يميز المجتهد عن غيره، ونحتفل بيوم المعلم ونقدم الهدايا البسيطة لمعلمينا، ويوم الشجرة الذي كنا لأجله نتعلم كيف نغرس الاشجار في درس الفلاحة الأسبوعي، وللبنات دروس التدبير المنزلي والفنون البيتية في الخياطة والتطريز والسنارة بأستخدام مواد تهيأها المدرسة، وفي الطبخ كنّ يتدربن على أعداد المقبلات كالزلاطات والأكلات الخفيفة وأتذكر كيف كنا نهجم نحن المشاكسين نهاية درسهن على الطعام ونفترسه وسط أجواء من الفرح والمسرّة ...
كان يولد من رحم هذه النشاطات الفنية والرياضية أبطالاً للجمهورية، حيث يشتركون بالفرق الفنية والأندية المحلية أولاً ثم يرتقون ليرفد المتميز منهم فرق المحافظة أو المنتخبات الوطنية، وسواءاً بالمسرح أو بألعاب القوى والألعاب الفرقية فإن المهارة والكفاءة وحدها هي التي ترفع من شأن صاحبها دون أي أعتبارات أخرى، ولازلت اتذكر أسماءاً لأبطال من ديالى أصبحوا أعلاماً تفتخر المحافظة بهم .
ولاننسَ الحملات الصحية بالتوعية وتطعيم التلاميذ ودروس وتطبيقات وقاية العيون والآذان بأشراف فرق صحية، وممارسة تدريبات على الإخلاء وأطفاء النيران تحت يد مدربين أختصاص، لقد كانت وزارة التعليم بحق وزارة للتربية بكل ما تعنيه الكلمة.
لو كنا قد نشأنا بالبصرة أو العمارة، في بغداد أو الناصرية... علينا أن نذكر لأولادنا وأحفادنا هذه الخلفية الثقافية والتعليمية، وأن ما يتعلموه اليوم قد مارسناه بالأمس بشكل أجمل وأحلى لأنه كان ينبض أكثر بالحياة، وهو الذي منحنا القدرة والمعرفة وجعل بلدنا (آنذاك) أغنى البلدان بمخزونه البشري وأغلاها وأحلاها بعيوننا ، فلم يبدأ السقوط ببلدنا إلا حينما تمت عسكرة المجتمع وتسييسه وتدينه، أن حكم المسدس والعمامة أخطر آفتين تفتك بالمجتمع وتفرغ محتوى الإنسان من محتواه بأرقى وأعظم البلدان.
اليوم وبهذا التطور التكنلوجي الحالي، (لو) تتهيأ لأولادنا وأحفادنا فرصة في بلد غني بموارده المادية الهائلة في مجتمع متوازن مسالم يحكمه العقل والمنطق والعلم، لا السلاح والعمائم والمحابس والسبح، من منا سيبقى بهذه البلدان الكئيبة بجوها وأهلها، ولكنا نأـتي لزيارتها بجيوب عامرة وجوازات كبساط الريح تلفّ بنا بلدان الأرض من شمالها لجنوبها.
عماد حياوي المبارك ـ هولندا الجميلة الكئيبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
×commer شركة بريطانية ـ ألمانية لأنتاج السيارات الصغيرة والمتوسطة و(الميني) باص الذي ينقل عشرة ركاب أو أكثر قليلاً وباصات نقل الطلبة والجنود، وكانت معروفة قبل عشرات الأعوام كشركة معتمدة لها شركاء في قارات العالم وكمنتج للمركبات العسكرية الثقيلة أيضاً. بدأت الشركة التي تميزت بأستخدام محرك الديزل المصمم محلياً الأنتاج عام 1905 وتوقفت بالعام 1979.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جولة لموظفي الأونروا داخل إحدى المدارس المدمرة في غزة


.. اعتقال أكثر من 1300 شخص في الاحتجاجات المناصرة لغزة في عموم 




.. العالم الليلة | الآلاف يتظاهرون في جورجيا ضد مشروع قانون -ال


.. اعتقال طالبة أمريكية قيدت نفسها بسلاسل دعما لغزة في جامعة ني




.. العالم الليلة | الأغذية العالمي: 5 بالمئة من السودانيين فقط