الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة التجارية في القرآن (1 / 2)

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2017 / 6 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اللغة التجارية في القرآن (1 / 2)

يتمتع عادة مؤيدو ما يوصف بالإعجاز "العلمي" للقرآن بخيال واسع عندما ينسبون له جائزة السبق في الكثير من الاكتشافات والاختراعات العلمية اللاحقة. من أجل هذه الغرض لا يتورعون عن تفسير بعض الآيات القرآنية بطريقة متعسفة وتناقض المنطق السليم. غير أنهم لم ينتبهوا إلى نصوص قرآنية شكلّت بالفعل ما يمكن وصفه بـ"السبق العلمي". فمن يقرأ الآيات 19 إلى 26 من سورة الحاقة المكية {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ........وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} يتصور نفسه وكأنه يُطالع مرجعا في المحاسبة المالية. هنا يتحدث القرآن عن كتابين (أو دفترين) كما هو الحال في مسك الدفاتر المزدوج. وما يتعمله دارس الاقتصاد عن القواعد العامة للمحاسبة ومنها مبدأ التسجيل المنتظم والدائم لكل العمليات المالية دون استثناء يجده أيضا في الآية 49 من سورة الكهف: {هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}. وبهذا المعنى يستحق الله بالفعل اثنين من أسمائه "الحسنى"، هما الحسيب والمُحصي لأنه يحسب كل شيء ويسجل كل شاردة وواردة. وكلاهما من أهم صفات التاجر ورجل الأعمال الناجح. غير أن هذه الصور المعبرة عن المحاسبة بمفهومها المالي (الدنيوي) لم تنفع المسلمين في اكتشاف مبدأ القيد المزدوج الذي شكل نقطة فاصلة في تطور علم الاقتصاد واقتصاد السوق ومهد للثورة الصناعية، وإنما تركوا هذا الاكتشاف الهام لقس كاثوليكي هو الراهب الإيطالي لوكا باشيولي من مدينة البندقية الذي دخل التاريخ بأعتباره أول من قدم عرضا متكاملا عن نظام القيد المزدوج في عام 1494.
تأتي مثل هذه الاستعارات المقتبسة من المحاسبة السائدة في عالم المال والأعمال ضمن ظاهرة أشمل تتمثل في استعمال المصطلحات التجارية في القرآن بطريقة لفتت أنظار الكثير من المؤرخين المسلمين والمستشرقين. وهو ما يؤكد أيضا الأهمية الكبيرة لبحث العلاقة بين النص الديني والنشاط الاقتصادي. ويعتبر المؤرخ وعالم اللغويات الأمريكي تشارليس توري Charles Torry .أول من قدم بحثا مستقلا في هذا الموضوع عندما دافع في عام 1892 عن رسالة دكتوراه بعنوان "المفاهيم التجارية-الدينية في القرآن" قارن فيها أيضا مع ما ورد في التوراة والإنجيل في هذا الشأن. كما أثار هذا الموضوع منذ البداية انتباه مفسري القرآن من المسلمين. غير أن كتب التفسير ركزت على كلمة التجارة والآيات التسعة التي وردت فيها ومعنى كل منها ، ولكن دون أن تعطي اهتماما كافيا لألفاظ أخرى مثل: وفى، جزى، خسرَ، قرضَ، أجرَ، باع، ربحَ، كسب، رزق، وزنَ، كتب، حصى، حسبَ وغيرها.
تتكرر كلمة "حساب" في عشرات الآيات المكية والمدنية بمعانٍ مختلفة. صحيح أن المعنى الأكثر تداولا هو العقاب والثواب والجزاء كما هو وارد في عبارة "الله سريع الحساب" التي تنتهي بها العديد من الآيات. ولكن هذه المفردة تُعبر في مواضع كثيرة عن معنى مقارب للمحاسبة المالية بمفهومها المعاصر. ومنها مثلا وصف الله بالحسيب في عدة آيات {وكفى بالله حسيبا} والتي فسرها المفسرون بأنها تعني المحاسب والشاهد والرقيب. وكل ذلك من وظائف المحاسبة في أي مؤسسة اقتصادية في يومنا هذا لأنها لا تكتفي بتسجيل العمليات المالية فقط وإنما تقوم أيضا بحفظ الشهادات (أي السندات) وتوفير البيانات اللازمة للرقابة. كما تتضح العلاقة بين المحاسبة والرقابة في مفهوم ديوان"الحسبة" في الإسلام وموظفيها الذي يطلق عليه لقب "المُحتسب" والذين يتولون مراقبة التجار والأسواق والأسعار وغيرها.
يرتبط "الحساب" في النص القرآني بمفهوم آخر ذي دلالة اقتصادية ومالية واضحة هو "الإحصاء". ويستخدم هنا بمعنى العدّ وحصر الأحداث وتسجيلها في كتاب: { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} (النبأ ، 29) أو {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}(الجن، 28). وينطلق النص القرآني من أن الرب لا يستطيع أن يطبق مبدأ العقاب والثواب بطريقة عادلة دون أن يستند إلى تفاصيل مدونة في دفاتر. مثل هذه الدلالة نجدها أيضا في استعمال لفظ "كتب" الذي يرد في القرآن أيضا بمعنى "وثّقَ" من منطلق الحرص على توثيق الديون والقروض التجارية منعا للنزاع: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (البقرة، 282). ومن الملفت للنظر أن القرآن خصص أطول آية على الإطلاق (الآية رقم 282 من سورة البقرة) ليؤكد على أهمية وجود كاتب عدل لتوثيق عمليات البيع بالآجل في ذلك العهد في مؤشر واضح على تطور القطاع التجاري والائتماني في المجتمع المكي في فترة نشوء الإسلام. من هنا يمكن تأييد استنتاج المستشرق الأمريكي تيري في بحثه المذكور "بأن فكرة محمد عن الله وكما تظهر في القرآن تُعبر في سماتها الأساسية عن الصورة المثالية والمبجلة للتاجر المكّي".
أما أكثر المفردات التجارية انتشارا في القرآن فهو لفظ "الأجر" الذي ورد في أكثر من مائة موضع في القرآن. صحيح أنه يستخدم كثيرا بالمعنى الديني أي الثواب والجزاء في السماء أو بمعنى الصداق (المهر) للزوجة، ولكن حتى هذا التفسير مشتق من المعنى المتعارف عليه للأجر في التعاملات التجارية اليومية، أي المردود المادي مقابل خدمة أوعمل ما. لهذا تصف الكثير من الأيات الأجر في الآخرة بطريقة تجعل المؤمن يفهم بأن هناك عملية تبادل مادية لا تختلف كثيرا عن عمليات التبادل المألوفة في الدنيا الفانية، وهي في نفس الوقت مجزية ومضمونة النتائج. وبهذا يطمأن المسلم إلى {َأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران، 171). وزيادة في التوضيح فإن هذا المردود المنتظر سيُقدم على شكل "سلع" مادية متداولة حينها وهي في نفس الوقت مغرية بالنسبة لمجتمع يعاني شظف العيش: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} (الكهف، 30-31).
كما يتضمن القرآن نصوصا توحي وكأن تفاصيل العلاقة بين الرب والإنسان منذ ولادته وحتى مماته مثبتة في حساب (أو كتاب). مثل هذه العلاقة التي تشبه إلى حد بعيد علاقة العميل بالتاجر أو المدين بالدائن نجدها مثلا في الآيتين 13 و14 من سورة الإسراء {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}.
تقوم هذه العلاقة بين الخالق والمخلوق على أساس تجاري صارم حيث تلعب حسابات الربح والخسارة دورا لا يقل شأنا عن دورها في المعاملات التجارية العادية. وبطبيعة الحال فإن النص القرآني يعُد المسلم بالربح ويتوعد الكافر بالخسارة: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران، 85}. مثل هذه النصوص تجعل من اعتناق الدين ما يشبه صفقة تجارية بين طرفين. وفي إطار هذه الصفقة يمكن للمسلم أن يبيع بضاعته بالآجل على أمل أن يحصل لاحقا على ما يعادلها أو أكثر . لذا تدعو عدة آيات المسلم للإنفاق في "سبيل الله" وتغريه مقابل ذلك بأجر مضاعف: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}(الحديد، 11). ومن الملفت للنظر هنا أن الله الذي يحرم على عباده التعامل بالربا، يبيح لنفسه دفع الربا لأنه لا يكتفي برد القرض وإنما يدفع أضعاف قيمته. لكن هذه الشبهة لم تمنع البنوك الإسلامية من اعتماد تسمية "القروض الحسنة" والتبشير بها كبديل لما يدعى بالقروض الربوية.
وكما هو حال الميزانية الختامية التي تُظهر النتيجة النهائية (الربح أو الخسارة) في نهاية العام المالي من خلال المقارنة بين كفتي الأصول والخصوم فإن القرآن أيضا يتحدث عن "وزن"، أي ميزان له كفتان بحسب الحديث النبوي، ويكون الحكم يوم القيامة: { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم}.(الأعراف، 8 و9). هنا يظهر الله وكأنه يوازن بين الحسنات والسيئات مثله مثل التاجر الذي يوازن بين الأرصدة المدينة والدائنة لكل عميل.

يتبع .......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف


.. ناشطون يستبدلون أسماء شوارع فرنسية بأخرى تخص مقاومين فلسطيني




.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل