الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة التجارية في القرآن (2 / 2)

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2017 / 6 / 9
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اللغة التجارية في القرآن (2 / 2)

من الواضح أن جميع الصور المجازية المتعلقة بالحساب والأجر والربح والخسارة الواردة في القرآن أقتبست من عالم التجارة السائد تلك الأيام. غير أن العلاقة بين التجارة والدين لا تسير في إتجاه واحدة وإنما تنطوي على تناقضات. من جهة هناك آيات تحاول أن تجعل من الإيمان بمثابة تجارة رابحة دوما ولن تتعرض للكساد أبدا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}(الصف، 10) أو {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} (فاطر، 29). هنا تبدو هذه الآيات وكأنها إعلان تجاري يحاول الترويج لمشروع معين أو سلعة معينة عبر مخاطبة عقلية المستهلك وتحفيز رغباته الدفينة. من جهة أخرى تُحذر بعض الآيات في سور مدنية من تفضيل التجارة على العبادة: {رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (النور، 37) أو {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (الجمعة، 11). هنا يعرض النص المقدس نوعا من المنافسة بين الدنيوي والديني في ظاهرة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. غير أن هذه التحذيرات لا تنتقص من الموقف الإيجابي لمحمد من التجارة والذي تجسد خصوصا في الإبقاء على الأشهر الحرم وعلى جواز ممارسة التجارة أثناء موسم الحج. ولهذافرض القرآن على المسلمين الحج إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} (الحج، 28)، الأمر الذي يعني عمليا تقديم التجارة على العبادة وبما ينسجم مع مصالح قبيلة قريش باعتبارها المستفيدة الأولى من الكعبة. ويظهر هذا الترابط بين الجانبين في صيغة الدعاء الذي يتكرر منذ قرون لكل حاج "حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور وتجارة لن تبور".
توقف مفسرو القرآن ومنظرو الاقتصاد الإسلامي أمام توظيف القرآن لمزايا التجارة وفوائدها كوسيلة للترغيب في الدين الجديد والدعاية له ولاحظوا في نفس الوقت الإشكاليات التي يثيرها هذا الأسلوب. للخروج من هذا المأزق توصل الرأي السائد إلى أن القرآن استعمل لفظ التجارة بالمعنى الحقيقي (التجارة بين البشر) وبالمعنى المجازي (التجارة مع الله) وأن لكلا النوعين مقوماته ورأسماله وأرباحه. فعندما يقول القرآن {رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} يقصد النوع الأول، بينما يكون المعني مجازيا عندما يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. من دون شك يعكس هذا الموقف نوعا من الحيرة لأن تشبيه العبادة بالتجارة هو انتقاص واضح للجانب الروحي للدين ويشير إلى سطحية وابتذال. كما أن القول حرفيا أو مجازا بإن الله تاجر يدخل في مساومات وعمليات بيع وشراء مع عباده يحط من قدر العقيدة الدينية نفسها. غير أن هذه الاعتراضات لا تقلل من صحة مبدأ التمييز بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي للنص المقدس. ولو طبق المجاز في إعادة تأويل النصوص الإشكالية في القرآن مثل الآيات التي تحض على قتل الكفار وتلعن أتباع الديانات الأخرى والتمييز بين الناس بحسب العقيدة والجنس وغيرها، فإن هذا الأسلوب يمكن أن يفتح بابا واسعا أمام محاولات تجديد الخطاب الديني.
في المقابل لا توجد خلافات كثيرة حول سبب لجوء القرآن لاستعارة الصور التجارية في سياق الدعاية للدين الجديد، إذ يرى كثيرون بأن القرآن خاطب العرب حينذاك بلغة يفهمونها، لا سيما وأن التجارة كانت محور النشاط الاقتصادي في مكة وكانت من الأشياء التي اعتاد أهل مكة مزاولتها منذ قرون و يفعلونها عمليا كل يوم في حياتهم. وبالتالي فإن القول بأن المؤمن يُقدم من خلال أعماله الخيرة قرضا إلى الله وسيستعيده لاحقا على شكل جنات تجري من تحتها الأنهار، لن يكون غريبا على مسامعهم وقد يساعد في تقريب تعاليم الجديد إلى أذهانهم.
وكثيرا ما يشار في هذا الخصوص أيضا إلى حقيقة أن محمد نفسه وعددا من أصحابه المقربين كانوا تجارا ويعرفون مزايا التجارة وأسرارها. وقد لعبت أحداث معينة دورا كبيرا في تطور محمد التاجر ومحمد النبي على حد سواء. وتجدر الإشارة هنا إلى سفراته قبل نبوته إلى الشام بهدف تعلم التجارة. وتتحدث كتب السيرة عن سفرتين عن الأقل، الأولى مع عمه أبو طالب عندما كان طفلا والثانية لصالح التاجرة الثرية خديجة قبل أن يتزوجها. وبغض النظر عن الأساطير التي تحيكها كتب السيرة عن هاتين السفرتين، فإن من المؤكد أنهما شكلتا منعطفا هاما في حياته وساهمتا في اكتسابه خبرة عملية في التجارة وفي التعامل مع التجار وكذلك في التعرف على التعاليم الدينية السائدة عبر لقاء رهبان ورجال دين مسيحيين ويهود في فترة كانت المنطقة تضطرم بتحولات عميقة. هذا التشابك بين الطابع التجاري والديني يتجسد أيضا في لقب الأمين الذي ينسبه المسملون لنبيهم محمد والذي يرجعونه لأمانته في التجارة وحرصه على رد الأمانات إلى أهلها. وكما اختلطت التجارة بالنبوة لدى محمد فإن النبي أضفى على الله صفات التاجر الناجح من خلال وصفه بالحسيب والمحصي والرزاق والقابض والرقيب والغني والديان.
ولا يستبعد أن تغلغل الطابع التجاري إلى النص المقدس للمسلمين وهذا الاختلاط بين الجوانب التجارية والدينية يُسهّل على أحزاب الإسلام السياسي المتاجرة بالدين. فقد اتهم القرآن أصحاب الكتاب من اليهود والمسيحيين في عدة مواضع بالمتاجرة بالإيمان: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (آل عمران، 199). لكن هذه الصفة تنطبق حاليا أكثر على الإسلاميين . وتتجلى المتاجرة بالدين بأشكال عديدة منها الاستغلال السياسي للدين من أجل القفز إلى السلطة والاستغلال الاقتصادي للدين من خلال الترويج لأنشطة معينة بهدف تحقيق الربح السريع بدعوى أنها تتماشى مع الشريعة.
لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه بقوة عند الحديث عن الطابع التجاري للقرآن هو: لماذا لم ينجح الإسلام حتى الآن في إنجاز تجربة متميزة في مجال التنمية الاقتصادية رغم كل هذا الترويج لمزايا التجارة في القرآن، بينما استطاعت الحضارات الأخرى القائمة على التعاليم والقيم المسيحية واليهودية والبوذية ومؤخرا الهندوسية في تقديم نماذجها الخاصة؟ وهل يقف الإسلام عائقا على طريق التنمية والتقدم والحداثة؟ أم أن تعاليم القرآن التجارية التي تحض على الوفاء بالكيل والميزان والالتزام بالعقود والتكافل الاجتماعي والعدالة وتنهي عن أكل المال بالباطل وعن الاحتكار وغيرها يمكن أن تشكل أساسا لنهضة اقتصادية حقيقية في المجتمعات الإسلامية؟
الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة نظرا لتنوع العوامل والأسباب ولوجود تناقضات كثيرة في النص المقدس. في هذا الخصوص يمكن الإشارة إلى رأي الشاعر العراقي الشهير معروف الرصافي الوارد في "كتاب الشخصية المحمدية" والذي انتهى من تأليفه في عام 1933. في عدة مواضع من هذا الكتاب يُبرز الشاعر والكاتب الاختلاف الكبير بين القرآن المكي والمدني، وبين سلوك محمد في مكة والمدينة. وفيما يؤكد الرصافي بأن "الدعوة الإسلامية نجحت بالسيف لا بمعجزة القرآن"، يشير أيضا إلى الأهمية الكبيرة التي اكتسبتها غنائم الحرب والجزية في الحياة الاقتصادية للدولة الوليدة.
قبل الرصافي بأكثر من ثلاثين عاما خطرت مثل هذه الفكرة على رائد علم الاجتماع المفكر الألماني (ماكس فيبر) الذي يعتبر أول من درس العلاقة بين التعاليم والقيم الدينية وبين التطور الرأسمالي. صحيح أن الفصل المخصص للإسلام في مؤلفه (علم اجتماع الأديان) مقتضب جدا ولا يزيد عن صفحتين، إلا أن استنتاجاته تستحق الاهتمام. ويشير فيبر إلى أن تديُن محمد في المرحلة المكية الذي كان يتميز بقلة من الأتباع الورعين المؤمنين بفكرة نهاية العالم تحول في المدينة إلى دين سيف ودين قتال الأمر الذي ترسخ أكثر مع دخول زعماء القبائل القوية في الدين الجديد. ويضيف فيبر بأن الجهاد لم يكن يهدف بالدرجة الأولى الى حمل الناس على اعتناق الدين الجديد وإنما إجبار أتباع الديانات الكتابية الأخرى على "إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون"، كما تنص على ذلك صراحة إحدى آيات القتال. كما يربط فيبر ذلك بأهمية غنائم الحرب التي جعلت من الصحابة "الورعين" الطبقة الأكثر ثراءً والأكثر إنفاقا على حاجاتهم الشخصية ومكانتهم الاجتماعية. وكل ذلك يتناقض مع معايير وقيم التقشف والنزعة التطهيرية بالمعنى الأخلاقي والتي يراها ماكس فيبر ضرورية لنشوء قيم وأخلاق عمل يمكن أن تؤدي إلى سيادة العقلانية الاقتصادية.
ويبدو أن أحد مفاتيح الحل يكمن في الإصلاح الديني عبر اعتماد المجاز في تأويل النص المقدس لكي يتلاءم مع الحياة العصرية. حينها يمكن للمفاهيم التجارية الواردة في القرآن المساهمة في عقلنة الحياة الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية.

د. ناجح العبيدي









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الدين للبشرهو الربح بالحياة برضى الله وجنة الاخرة
علاء الصفار ( 2017 / 6 / 9 - 11:26 )
تحية طيبة
كل الاديان وعدت بالخير للمؤمن وان الله يرزق البشر بالعبادة وتقديم الاضحية.هكذا ما ان يينقطع المطر حتى يتجه البشر للسماء وتقوم الكنيسة باستقبال الاضاحي وهكذا المسجد!فالله يستخدم المطر كي يجلب رصيد اكبر من الرافعين رؤوسهم له .فما العجب ان محمد يقول بهذا المفهوم! ثم ان البشر وخاصة من العباقرة كباسكال قد شرح نظرية الربح والخسارة بطريقة صريحة: إذ قال اني سأعبد الله وأأمن بالكتاب. فان وجد الله غنمت الجنة,وأن لم يوجد الله فأنا ميت ولم أخسر شيء,ثم عدم وجود الله وكتبه لم يعد بذات معنى وفائدة لكن ان وجد الله,يعني لا نار,ولعبادتي ستكون فائدة كبيرة إذ سأكون من الخالدين في الجنة, ووفق المسيحية سيكون مع الملائكة ليستمر في التراتيل والعبادة والتقوى والخشوع الازلي لله.أما في الاسلام فهي مربربة مخيمات كشفية ابا حية ولا في الدولة الرأسمالية أم الانطلاقة الشيوعية في الجنس, فانهار حليب وعسل وخمر ورفع سيقا ن حورايات الجنة,وكلما سألت قالت أما من مزيد. فيا عزيزي ان الوعود صارت رهيبة.من بيع صكوك الغفران والى شراء قطعة ارض في الجنة و اليوم التفجير بالذات لبو مو زة يجري من اجل رضى الله والحوريات!ن

اخر الافلام

.. التبوريدة: فن من الفروسية يعود إلى القرن السادس عشر


.. كريم بنزيمة يزور مسقط رأس والده في الجزائر لأول مرة




.. بعد إدانة ترامب.. هل تتأثر فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية ا


.. لابيد يحث نتنياهو على الاستجابة لمقترح بايدن بخصوص اتفاق غزة




.. الوسطاء يحثون إسرائيل وحماس على التوصل لاتفاق هدنة في غزة