الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بَصَائِرَ لِلنَاسِ - والحَقُّ أحَقًّ أنْ يُتَّبَعَ (5):

بشاراه أحمد

2017 / 6 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بَصَائِرَ لِلنَاسِ - والحَقُّ أحَقًّ أنْ يُتَّبَعَ (5):

صَادِقُ البُرْهَانِ عَلَىْ زَيْفِ فِرْيَةِ بَشَرِيَّةِ القُرْآنِ:

الإشكالية الخامسة لدى الكاتب في مشروعه الذي ينادي فيه ببشرية وتناقض القرآن الكريم, جاءت هذه المرة تحت عنوان (فلتقدموا صدقة وإذا زعلتوا فلا داعى .!),, ولا يخفى على أحد لهجة السخرية والإستخفاف بكتاب الله تعالى,, ولكن هل يظن "توهماً" أنه سينجح في مسعاه بأن يثبت بحق أن القرآن الكريم "بشري"؟ و/أو ينجح في إثبات أن القرآن الكريم "متناقض" أو يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؟؟؟ .....

ولكن,, لماذا لم يجرب تبليط البحر أولاً وهو الأقرب إحتمالاً وإن كان سراباً بقيعة؟؟؟ ..... على أية حال,, لا أدري كيف سيكون حال هذا الكاتب المتهور عندما يثبت له وللجميع - بما لا يدع مجالاً للشك (دائماً وأبداً) - أنه قد ساهم بشهادته على أن القرآن الكريم محكم, ومتسق ومعجز في بيانه وإبيانه وسره وإعلانه وضبطه وأوزانه,, بماضيه وحاضره وأزمانه.
على أية حال,, سنرى معاً حقيقة الأمر مفصلاً أمام ناظريكم فيما قاله وظنه وإفتراه.

في إشكاليته هذه المرة توهَّم أن القرآن الكريم يتراجع عن قراره حسب ما يقتضي الداعي, بمعنى أنه إذا ما فرض الله على المؤمنين فرضاً ثم لم يجد منهم إستجابة أو وجد منهم تباطؤاً,, سرعان ما يعدل النبي عنه ويتحرى أمراً آخر غيره يرتضوه منه حتى يحافظ على بقائهم معه على دينه, لأن القرآن الكريم - حسب إعتقاده أو ترويجه - ليس من عند الله تعالى ولكنه من تأليف النبي الكريم محمد يصيغه حسب الحاجة والموقف السياسي ... الخ,,, فلعله توهم أيضاً أنه قد وجد ضالته في سورة المجادلة, فجاء مهرولاً بالآيات التالية مستشهداً بها وهي التي قد شهدت عليه كما سنرى.

فقال: ((... فى المجادلة 12( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ...)), ولكنه لم يستوعبها, وهذا أمر بديهي ومتوقع, لا غرابة في ذلك.

فمن مفهومه لهذه الآية وتعليقه الساخر عليها, قال: ((... أى يا ايها المسلمين عندما تترجوا لقاء الرسول فلتقدموا صدقة , ولكن هذه الآية لم تعجب المسلمين ولم تجد صدى إلا من على ابن ابى طالب, ليسارع النبى بإلغاء هذه الآية بالآية التى تليها مباشرة ! المجادلة 13 (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيموا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ...)).

تصوروا أن كل هذا الإحكام الرائع الكثيف في آيتين إثنين إختزلهما الكاتب بهذه الأفكار الغريبة التي لم يراع فيها المنطق والموضوعية والعلم وفقه اللغة,,, فإختلط الحابل للنابل لديه. إذاً فهو يظن أن هذه الآية قد لغتها الآية التي بعدها, فهل هو على حق أم لا؟؟؟ ..... هذا ما سنوضحه بعد تفنيد فقرته هذه,, ثم بعد تدبر الآيات التي أشكلت عليه في ضوء ما قبلها وما بعدها من آيات قد تجاهلها الكاتب.

أولاً: فلنساعده ونجسد المشاهد الدرامية التي رسمها الكاتب الغريب في مخيلته العجيبة,,, كما يلي:
المشهد الأول: يتخيل فيه الكاتب أن الرسول كتب آية فرض فيها على المؤمنين صدقة "له" وذلك عندما "يترجوا لقاءه" ثم إستشهد على ذلك الهوس بقول الله تعالى (... إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ...) والذي قد نفاه عن الله ونسبه إلى الرسول "صاحب المصلحة" لذا فهو الذي كتب هذه الآية ونسبها إلى الله إفتراءاً.

المشهد الثاني: غضب شديد من المؤمنين ورفض تام لقبول هذه الآية والصدقة معاً, ولعله تصور أن ذلك حدث بعد ثورة عارمة, وعصيان مدني ومظاهرات ومتاريس, لدرجة أن هذا الأمر لم تجد صدى إلَّا من علي بن أبي طالب.
المشهد الثالث: فكر النبي في مخرج من هذه الورطة السياسية فقال لهم (... فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ...), وقد تطوع الكاتب بصياغتها بطريقته الساذجة فقال (فلتقدموا صدقة وإذا زعلتوا فلا داعى .!),, ولكن هذا لا يكفي لإخماد ثورة المؤمنين "خير أمة أخرجت للناس", وقد أغضبهم درهم صدقة.
المشهد الرابع: يرتعد الرسول من قوة العصيان, فخاف على نفسه وسلطانه فسارع إلى صياغة آية "ناسخة" لما قبلها حتى لا ينفض المؤمنون من حوله فينتهي دينه الذي صنعه لنفسه فكتب الآية التالية المفتراة ونسبها إلى الله, لينسخ بها التي قبلها - كل ذلك خلال ساعة من نهار قال لهم فيها: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيموا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ...)).

تخيلوا أن هذا يحدث من "خير أمة أخرجت للناس", الذين قال الله تعالى لهم في سورة التوبة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ « أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم » بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ « يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ » وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 111), وقد باعوا لله "عملياً" وإستبشروا ببيعهم, هم أنفسهم الذين تجرأ هذا الكاتب العجيب وبهتهم بأنهم رفضوا أمر الله بدرهم فضة صدقة في سبيل الله حتى إضطروا رسول الله أن يلغي آية بأخرى جاءت بعدها مباشرة.

الآن إليكم صياغة الكاتب لهذا المشهد الدرامي, قال فيه: ((... أى يا ايها المسلمين عندما تترجوا لقاء الرسول فلتقدموا صدقة , ولكن هذه الآية لم تعجب المسلمين ولم تجد صدى إلا من على ابن ابى طالب, ليسارع النبى بإلغاء هذه الآية بالآية التى تليها مباشرة ! المجادلة 13 ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيموا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ...)).

أولاً: ماذا يقصد هذا الكاتب من عبارة ((...عندما تترجوا لقاء الرسول فلتقدموا صدقة ...))؟؟؟ على الأقل من ناحية لغوية من حيث معطيات المفردات والتراكيب النحوية والبلاغية, مثلاً: هل قول الله تعالى: (... إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ ...), تقابلها عبارته التي يقول فيها ((... عندما تترجوا لقاء الرسول...)) بأي حال من الأحوال؟؟؟

وبالمقابل,, هل قول الله تعالى (... فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ...), تقابلها عبارته التي يقول فيها ((... فلتقدموا صدقة ...)) بأي حال من الأحوال؟؟؟

ثانياً: دعونا نعمل - كالعادة - على تصحيح المفاهيم اللغوية والبيانية التي أشكلت عليه قبل أن نواصل عملنا التحليلي التفصيلي فنقول وبالله التوفيق.
1. ما هي النجوى أولاً,, ولماذا هي من الشيطان؟؟؟
2. ولماذا يكون الله تعالى مع كل نجوى, ثلاثة كانت أم خمسة أم أدنى من ذلك أم أكثر؟؟
3. على أي شيء يدل وجوده تعالى مع النجوى بأنواعها, وما علاقتها بالغيب والسر وما هو أخفى؟؟؟
4. وما سر الصدقة التي يقدمها المؤمنين لمستحقيها عندما تكون نجواهم بين يدي للرسول, وما هي درجة إلزامهم بها إبتداءاً؟؟؟
5. وهل حقاً قد لغت الآية اللاحقة تلك الآية التي سبقتها كما ظن الكاتب وبنى على ظنه ظنوناً وسيناريوهات كوميدية؟؟؟
6. هل يجوز في حق الأنبياء والمرسلين بصفة عامة, والنبي الخاتم محمد بن عبد الله بصفة خاصة قبول أو أخذ أي نوع من أنواع الصدقات إبتداءاً؟؟؟ .... فإن لم يكن ذلك كذلك, فما الذي يريد الكاتب أن يوهم به العامة من القراء الكرام؟؟؟

هذه التساؤلات ستجيب عليها الآيات القليلة التالية, وستضع النقاط على الحروف فلنر ماذا تقول لنا فيما يلي:

النجوى هي حديث النفس إبتداءاً, فالذي يحدث نفسه في سره فإنه يناجيها, والذي يحدث غيره همساً انما يناجيه, فإذا كانت المناجاة بالشر والغدر والغيبة والخيانة أو الفجور,,, الخ فهي تعتبر مناجاة بالإثم والعدوان, وحيث أنها في الغالب تكون كذلك فقد إعتبر الشرع أن النجوى مطلقاً من الشيطان, لذلك فقد نهى الله تعالى عنها. وحيث أن منعها نهائياً أمر غير قابل للتحقيق في الحياة العملية فقد وضع الله تعالى لها ضوابط ومحددات تقلل من أثرها السيئ أو توجيهها للوجهة الإيجابية,, وقد ضَمَّن هذه الضوابط كلها في سورة المجادلة.

ففي هذه السورة قد تكلم الله تعالى عن أولئك الأشقياء الكافرين المكبوتين, الذين يحادون الله ورسوله, وهم لا يدرون أن الله يعلم سرهم ونجواهم,, فقال لرسوله الكريم معلناً ومحذراً:

1. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ...), من شر في نجواهم ظناً منهم أنه لم يرهم أو يسمعهم أحد, ولكنهم مخطئون في ظنهم هذا إذ أن ما فعلوه - قد أحصاه الله عنهم, رغم أنه قد طواه النسيان لديهم, قال تعالى مبيناً ذلك: (... « أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ » ...), لأنه لا يخفى عليه شيئٌ في الأرض ولا في السماء: (... وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 6), وقد خاب بذلك ظنهم.

2. ثم قال له: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ « يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ » ...), بل هو يعلم النجوى بين المتناجين مهما دقت وخفيت, وكثر عدد المتناجين وعدتهم وخفي سرهم,, فقال له لأنه: (... مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى « ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ » « وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ » « وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا » - ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 7), فلا يظن أحد أن الله تعالى يخفى عليه شيء.

3. ثم أخبره عن العصاة الذين لا يطيعون الله في أمر ولا نهي, وقد نهاهم عن النجوى لأنها من الشيطان, ولكنهم دائماً يعودون إليها بعد النهي مراراً وتكراراً لأنها قد أصبحت خصلة فيهم,, فقال له: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ...)؟؟؟ .....

إذ النجوى التي نهوا عنها كانت خبيثة بكل المقاييس, لأنهم كانوا يضمرون الشر للرسول والمؤمنين, قال: (... وَيَتَنَاجَوْنَ « بِالْإِثْمِ » « وَالْعُدْوَانِ » « وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ » ...), ليس ذلك فحسب, بل قال له: (... وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ - وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ « لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ » - حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ 8).

إذاً كما هو واضح, فإن المعنيين هنا هم المنافقين الذين يظهرون الإيمان أمام رسول الله ولكنهم يتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول, بل زيادة على ذلك كانوا يحيون الرسول بما لم يحيه به الله, ويظنون أن الله بغافل عمَّا يقولون ويفعلون. هذا شأن أولئك الكافرين الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ,, فما حال المؤمنين؟؟؟

4. لا بد من أن يكون حالهم مختلف تماماً, لأنهم المعنيون بتربية وتهذيب وتأديب وحي الله تعالى لهم, لذا قال لهم مباشرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا - إِذَا تَنَاجَيْتُمْ « فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ » - « وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى » وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 9),, وكأنما قال لهم,, فأحذركم وأقول لكم: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ - « لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا » - وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 10).

5. هناك شر آخر يحذركم الله منه وهو عدم المرونة في تعامل المؤمن مع أخيه المؤمن, لذا فليكن المؤمن سهلاً مرناً في يد أخيه المؤمن, قال تعالى لهم في ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا « إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ - « فَافْسَحُوا » - يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ » وَإِذَا قِيلَ « انشُزُوا » فَانشُزُوا - يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ - وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11).

6. ثم إختص مناجاة الرسول وميزها بنوع من العبادة والقربى إلى الله تعالى, وهي الصدقة على الفقراء والمساكين والمحتاجين, لذا قال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا « إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً » ...), على وجه الخيار لا الإلزام والإجبار, لقوله تعالى لهم: (... ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ...), ولعل في ذلك تذكير بتقوى الله والتقرب إليه قبل مناجاة رسوله, لذا قال لهم: (... فَإِن لَّمْ تَجِدُوا « فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » 12), ولا تثريب عليكم ولا حرج,, فمن أين يأتي الغضب والرفض في أمر فيه خيار وتوبة ومغفرة وبديل أيها الكاتب المندفع؟؟؟.

7. ثم قال لهم,, أخشيتم أن يشق عليكم تقديم صدقة لمستحقيها قبل نجواكم للرسول؟, وحيث أنكم لم تفعلوا ما هو خير لكم وأطهر, فلا بأس وقد تاب الله عليكم وعفاكم عنها, فليكن البديل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله,, وإعلموا أن الله خبير بما تعملون,,, قال لهم سبحانه: (أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 13),, لا تثريب عليكم.

فالمشهد الواضح هنا أن الآيتين التين إستشهد بهما الكاتب كانتا معنيتين فقط "بالنجوى" بكل إحتمالات ظهورها. وعلى الرغم من أنها غير كريمة كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ - « لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا »...), - لأنها تتم في الخفاء إما بمحادثة للنفس أو بمحادثة آخر/آخرين همساً, ولكن - في الغالب - بالشر والمعصية, وبالإثم والعدوان - إلَّا انها يمكن أن توجه للخير إذا فرضت عليها ضوابط ومحددات تمنع المؤمنين من الجنوح بها إلى الشر إذا إلتزموا تشريع الله تعالى, وقول لهم: (... إِذَا تَنَاجَيْتُمْ « فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ » - « وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى » ...), ولا يتم ذلك بالطبع إلَّا بالذِّكر الدائم لله تعالى وإستحضار خشيته في قلب المؤمن عندما يسمع قول الله تعالى: (... وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

هناك ملحظ للنجوى يستلزم مزيد من التركيز على تقوى الله ومزيد من الحذر إذا كانت هذه النجوى مع الرسول نفسه, ومن ثم فإن إسباقها بعبادة مميزة - يحبها الله - تجعل المتصدق للفقراء والمساكين والمحتاجين أقرب إلى تقوى الله تعالى, وهذا يكون ظاهراً من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا « إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً » ...).

ولكن هذا العمل على الخيار لا الإلزام,, وحيث أن هذه الصدقة قد تمثل عبئاً مادياً زائداً على كثير من المؤمنين - خاصة الضعفاء منهم - خاصة في وضع إقتصادي صعب يعيشونه,, كانت رحمة الله في إنتظارهم لإشفاقهم من عدم المقدرة على الوفاء بالصدقة, فكانت التوبة والمغفرة ثم تقديم البديل لهم الذي يحقق المراد لذا قال لهم : (« أَأَشْفَقْتُمْ » أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ « فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا » وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ - « فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ » - وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 13).

أراد الكاتب أن يبحث له عن مخرج من بين كتب السيرة والتفسير والإجتهادات الشخصية للناس على مر العصور والأجيال,, والتي تعتبر غير ملزمة لأنها ليست وحياً من الله تعالى "قرآناً" ولا "سنة نبوية مؤكدة", وبالتالي على المؤمن أن يقف عندها - "إن شاء" - فيأخذ منها ويترك دون أدنى حرج, لأن القرآن الكريم "نصاً" هو المرجع الأساسي, والسنة النبوية الشريفة هي تطبيقه المؤكد. وقد ساء الكاتب فهم ما جاء بالتفسير ووجد أنه يستطيع عبره أن يخدم قضيته فقال: ((... من تفسير ابن كثير : قال مَعْمَر، عن قتادة: ( إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً إنها منسوخة: ما كانت إلا ساعة من نهار !. وهكذا روى عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن مجاهد قال علي: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وأحسبه قال: وما كانت إلا ساعة) !.
قال علي رضي الله عنه: آية في كتاب الله عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنُسِخت ولم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي ...)), طبعاً هذه الفقرة فيها كثير من المفردات التي يستطيع أن يطوعها ويوجهها في الوجهة التي يريدها بسهولة ويسر,, ولكن هيهات أن يبلغ بوعه,, إذ القرآن الكريم بإحكامه وتفصيله من لدن موحيه تفصيلاً قد فوت عليه هذه السانحة وغيرها كما هو ظاهر من تدبر الآيات بعد تفنيد إدعاءاته المحبطة.

ثالثاً: الغريب في الأمر أن الكاتب إعتاد أن يقدم لنا هدية في آخر فقرة من كل إشكالية له وذلك بكشف أوراقه كاملة, تماماً كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً. فها هو ذا نراه يقول متطوعاً: ((... هذا هو المشهد كما كان والذى يُنبئ بأننا أمام نصوص بشرية يجرى تأليفها والتراجع عنها وفقا للأحوال , والغريب والطريف أن الآيتين متجاورتين أى لم تجف مداد الآية الأولى بعد حتى تم تغيير المواقف , فلو إعتبرناها إلهية فماذا يعنى هذا ؟ فألا يعرف الإله إنصراف المسلمين عن تقديم صدقة عند مناجاة محمد , وإذا إعتبرنا الآية صالحة لكل زمان ومكان فلمن تقدم الصدقة الآن ومحمد قد مات ...)).

نقول له في ذلك: نعم إن المشهد الذي صوره الكاتب بهذه العبارة ينبئ بأننا أمام كارثة بشرية يجري تأليفها وتوليفها بحيث يستحيل على الكاتب التراجع عنها مهما تغيرت الأحوال,, والغريب والطريف أن هذه المحاولة اليائسة قد جعلته يغرد خارج السرب رغم أنه حاول جاهداً أن يخرج من المولد بشئ من حمص ولكنه عاد إلى نقطة البداية التي إنطلق منها دون أن يحقق من كل ذلك شيئاً يذكر. وسوف نلتقط من مشهده هذا بعض النقاط التي نراها ستساعد القراء على فهم الجولة وتقييمها.

1. بنى الكاتب آماله كلها على وهم ومفهوم خاطئ, وإخفاقات معرفية خطيرة, لأنه لو كان يعرف أن "الصدقات" محرمة على الأنبياء والرسل تحريماً أزلياً منذ آدم إلى الخاتم, لوفر على نفسه مجهودات كثيرة, ولإتخذ لنفسه منحى آخر لعله يكون الأفضل لبلوغ مرامه إن إستطاع لذلك سبيلاً.

2. ظن أن الآيات بينها تناسخ, بمعنى آية تنسخ أخرى, ولكنه لو كانت له ملكة التدبر أو حتى الإعراب لأدرك من الوهلة الأولى أن الآيتين متكاملتان ويستحيل أن تلغي أو تنسخ إحداهما الأخرى,,, كل الذي تم هو أن الله تعالى خفف عن عباده المؤمنين ما شق عليهم مادياً بإستبداله بما يستطيعون القيام به "عملياً", في إطار (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). فالصدقة عبادة, والصلاة والصوم وطاعة الرسول والتقوى كلها أنواع من العبادة,, خاصة إذا علمنا بأن حتى الصدقة التي طلبت منهم لم تكن إلزامية لقوله تعالى في ذلك (... ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ...),

3. والشيء الغريب أكثر قول الكاتب: ((... وإذا إعتبرنا الآية صالحة لكل زمان ومكان فلمن تقدم الصدقة الآن ومحمد قد مات ...)),,, سؤال يستحيل أن يرد عليه عاقل,, ولكن إن أردنا أن نرد بنفس معيار السذاجة المضحكة المبكية نقول له ما يلي:
لا تقلق علينا فالحل موجود لدينا لأنه متى ما حدثت نجوى من أحد المؤمنين اليوم مع الرسول "المتفى", فإننا سنحاول تقديم الصدقة لفقراءنا ومحتاجينا,, فإن أشفقنا وصعب علينا إنفاق المال,, فهناك الخيار الثاني رغم أن الفرضية التي عرضها علينا الكاتب هي من نوع الجمل الشرطية المستحيلة (IF 3 - If-Impossible condition).

تحية طيبة للقراء والقرءات,

بشاراه أحمد عرمان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟


.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي