الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تعكس الرياضيّات الواقع؟ - الجزء الثالث: هل اللانهائي موجود؟

علي عامر

2017 / 6 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هل تعكس الرياضيات الواقع؟

الجزء الثالث: هل اللانهائي موجود؟

المصدر: كتاب Reason and Revolt

عنوان فصل الكتاب باللغة الإنجليزية: Does Mathematics Reflect Reality?- Part Four: Order Out of Chaos

تأليف: تد غرانت وآلان وود

عام النشر: 1995

تعريب: علــي عامــر

هل اللانهائي موجود؟

يبدو من الصعب استيعاب فكرة اللانهائي, لأنّها ومن النظرة الأولى, تتخطّى كل التجربة البشرية. اعتاد العقل البشري على التعامل مع المتناهيات, المعكوسة في أفكار متناهية ومحدودة, فكل شيء له بداية وله نهاية, هذا تفكير مألوف, ولكنّ المألوف ليس بالضرورة صحيح. تاريخ الفكر الرياضيّ اغتنى بدروس مفيدة في هذا الصدد. لوقت طويل, سعى الرياضيون, على الأقل في أوروبا, لنفي مفهوم اللانهائي. دوافعهم خلف ذلك كافية بوضوح. بعيداً عن الصعوبة المثبتة لوضع إطار مفاهيمي للانهائي, وبمصطلحات رياضية خالصة, فإنّ هذا المفهوم متناقض. الرياضيات تتعامل مع مقادير محددة. اللانهائي بطبيعته غير قابل للقياس والعدّ. هذا أساس التناقض بين الاثنين.

لهذا السبب تجنّب كبار رياضيّو الإغريق القدماء اللانهائي تماماً كتجنبهم للطاعون. رغم ذلك, ومنذ بداية الفلسفة, أولى الانسان مفهوم اللانهائي تكهّنات عديدة. أناكسيماندر (610-547 قبل الميلاد) وضع اللانهائي كأساس لفلسفته.
مفارقات زينو (450 قبل الميلاد) أشارت إلى الصعوبة المتأصلة في فكرة الكميات اللانهائية كمكوّنات للمقادير المتصلة, من خلال محاولة اثبات أنّ الحركة وهم. زينو فنّد الحركة بطرق مختلفة. جادل بأنّ الجسم المتحرك, قبل وصوله لنقطة معيّنة, يجب أن يقطع نصف الطريق لها, ولكن قبل ذلك, يجب أن يقطع نصف الطريق لنصف الطريق, وهكذا إلى ما لا نهاية. فحين يتحرك جسمان في نفس الاتجاه, بينهما مسافة ثابتة, فيم يتحرّك الجسم الثاني الواقع خلف الجسم الأوّل بسرعة أعلى, نفترض أنّه سيسبق الأوّل. ولكن زينو يعارض ذلك, يقول: "لا يمكن أبداً للجسم الأسرع في الخلف اللحاق بالجسم الأبطأ في الأمام."

هذه هي المفارقة الشهيرة لأخيل الرشيق. تخيّل سباق بين أخيل وسلحفاة. لنفترض أنّ أخيل أسرع من السلحفاة بعشرة أضعاف, والتي تسبق أخيل بألف متر. في الوقت الذي يجسر فيه أخيل مسافة الألف متر بينه وبين السلحفاة, ماتزال الأخيرة تتقدمه بمئة متر, وحين يقطع أخيل تلك المئة, ماتزال السلحفاة تتقدمه بمتر واحد, وحين يجسر أخيل المتر الأخير بينه وبين السلحفاة, ستكون السلحفاة متقدمة عليه بعُشر المتر, وهكذا إلى ما لانهاية.
مفارقات زينو لا تثبت أنّ الحركة محض وهم, أو أنّ أخيل لن يتمكن حقيقة من اللحاق بالسلحفاة, ولكنها تكشف بعبقرية حدود نمط التفكير الذي يعرف اليوم باسم المنطق الرسمي.
محاولة إلغاء جميع التناقضات من الواقع, كما فعلت المدرسة الإيلية, تقود حتماً لهذا النوع من المفارقات غير القابلة للحل, أو التناقضات في القانون (antinomy) كما أسماها كانط لاحقاً. في سبيل اثبات أنّ الخط لا يمكن أن يتكوّن من عدد لانهائي من النقاط, ادّعى زينو أنّه لو كان حقاً كذلك, لما سبق أخيل السلحفاة أبداً. يوجد هنا مشكلة منطقية؛ يشرحها ألفريد هوبر: "مازالت هذه المفارقة تدهش حتى أولئك الذين يعرفون أنّه من الممكن ايجاد مجموع سلسلة لانهائية من الأرقام تشكّل تدرجاً هندسياً نسبته المشتركة أقل من واحد, وحدوده تقل تباعاً إلى أن تلتقي عند قيمة محدودة."
في الحقيقة, أماط زينو اللثام عن تناقض في فكر الرياضيات, تناقضاً انتظر ألفي عام ليتم حلّه. التناقض المتعلق باستخدام اللانهائي. من فيثاغوراس وصولاً إلى اكتشاف رياضيّات التفاضل والتكامل في القرن السابع عشر, ذهب علماء الرياضيات بعيداً في تجنبهم استخدام مفهوم اللانهائي. فقط أرخميدس, العبقري العظيم, قارب ذلك الموضوع, ولكن دون أن يقترب منه حقاً من خلال طريقة ملتوية.

أوائل الذريين (الذين يقولون بأنّ الكون يتكوّن من ذرات), بدءاً بليوكيبوس -على الأرجح كان أحد تلامذة زينو- الذي قال بأنّ الذرات:"غير قابلة للتجزئة, ولانهائية في العدد, تتحرك بلا توقف في فضاء فارغ, لا محدود بمداه."
الفيزياء الحديثة, توافق على فكرة لانهائية اللحظات الموجودة بين ثانيتين, تماماً مثل عدد اللحظات في فترة زمنية بدون بداية ولانهاية. الكون نفسه يتكوّن من سلسلة لانهائية من السبب والأثر, تتغيّر بلا توقف, تتحرك وتطوّر. لا يوجد أي مشترك بين هذا الفكر, و الفكرة الفقيرة أحادية الجانب التي تقول بأن اللانهائي محتوى في سلسلة الأعداد اللانهائية للرياضيات البسيطة, بحيث يبدأ اللانهائي دائماً بالرقم واحد! هذا ما أسماه هيجل "اللانهائي السيء."

أعظم علماء الرياضيات الإغريق, أرخميدس (287-212 قبل الميلاد) استخدم بفاعلية مبدأ عدم القابلية للتجزئة في الهندسة, ولكنّه أخذ بعين الاعتبار فكرة اللانهائي الكبير والصغير بدون أي أساس منطقي. وبالمثل, جادل أرسطو, بما أنّه لا بد من شكل للجسم, لا بد أن يكون محدوداً, وبالتالي لا يمكن أن يكون لانهائي. في حين وافق على وجود نوعين من اللانهائي الممكن: الإضافة المتعاقبة في الرياضيّات (اللانهائي الكبير), والتجزيء المتعاقب في الهندسة (اللانهائي الصغير), جادل رغم ذلك ضد الهندسات التي تقول أنّ القطعة الخطيّة تتكوّن من عدد لانهائي من متناهيات الصغر, أو المكوّنات غير القابلة للتجزئة.

انكار اللانهائي شكّل حاجزاً حقيقياً أمام تطوّر الرياضيات الإغريقية الكلاسيكية. على النقيض, فإنّ الرياضيّات الهندية كانت متحررة من ذلك التردد, وحققت قفزات عظيمة, تلك التي دخلت أوروبا مع دخول العرب لها.
محاولة تخليص الفكر من التناقض, وفقاً لمخططات المنطق الرسمي الجامدة, ثبّطت تطوّر الرياضيات. إلّا أنّ روح عصر النهضة المغامرة فتحت أدمغة البشر لإمكانيات جديدة, والتي كانت بحق إمكانيات لانهائية.

في كتابه "العلم الجديد-1638", أشار غاليليو إلى أنّ لكل عدد صحيح مربع كامل وحيد, وكل مربع كامل, هو مربع لعدد صحيح موجب واحد. هذا يعني أنّ هناك مربعات كاملة بقدر ما يوجد أعداد صحيحة موجبة. مما يقودنا مباشرة لتناقض منطقي, فهذا يناقض المسلّمة التي تقول أنّ الكل أكبر من أيّ من أجزاءه, حيث أنّ ليس كل الأعداد الصحيحة الموجبة مربعات كاملة, وكل المربعات الكاملة تشكل جزءاً من كل الاعداد الصحيحة الموجبة.

هذه فقط إحدى المفارقات العديدة التي عانت منها الرياضيات حتى عصر النهضة, حين بدأ البشر بإخضاع فكرهم وافتراضاتهم للتحليل النقدي. كنتيجة لذلك, وببطؤ, ومن بين أسنان مقاومة العقول المحافظة المنيعة, تم الإطاحة بالبديهيات المنيعة والحقائق المطلقة في الرياضيات, واحدة تلو الأخرى.
وصل علم الرياضيات لنقطة تبيّن عندها أنّ الصرح بأكمله غير سليم, وبحاجة لإعادة بناء جذرية على أساسات أكثر صلابة ومرونة, وهي عملية بدأت فعلاً, وحتماً ستمتلك طبيعة ديالكتيكية (جدلية).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل.. حراك دبلوماسي إيراني في ال


.. غارات إسرائيلية تستهدف الضاحية والطريق الدولية مع سوريا ونصر




.. هجوم السابع من أكتوبر.. إخفاقات إسرائيل الأمنية


.. عاجل | حزب الله يعلن التصدي لجنود إسرائيليين في محاولات للتو




.. عاجل | وسائل إعلام إسرائيلية: حزب الله أطلق أكثر من 100 صارو