الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجابري - طرابيشي بحثٌ في حوار المروّض و الأسد

عادل عبدالله

2017 / 6 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الجابري – طرابيشي
بحث في حوار المروّض و الأسد


ترى كم من المفكرين والمثقفين "الكبار" المصرّين على نعت أنفسهم بمثل هذه من النعوت، ستتهاوى صروحهم المعرفية وتُدك قلاع مؤلفاتهم الحصينة عندما يؤخذون بالكف الى حيث الأماكن التي تريهم سوء أعمالهم - أي تريهم ما أعتقدوه فتوحات معرفية- أوهاماً لا حقيقيةً لها ولا أسس معرفية متينة تقوم عليه.
هكذا قاد جورج طرابيشي مفكرَنا العربي “الكبير” الجابري، بالكف الى حيث الأماكن الخفية التي نهل من نبعها المعرفي على عجل وبلا رويّة تعفيه من المساءلة، ليرينا كم كان هشاً واجوفاً هذا البناء المعرفي الذي قدم لنا الجابري نفسه مفكراً عربياً من خلاله،، واذا بنا نراه قاعاً صفصفاً ،بعد أن أتى طرابيشي بنيانه من القواعد منتزعاً منه الاعتراف -على مسمع ومرأى منا نحن شهود الواقعة- بانتحاله وتزويره وعبثه بأعمال الكبار من المفكرين- تارة عن قصد مبيت مغرض، أوعن جهل وسوء تعامل تارة اخرى.
كانت براهين طرابيشي وأدلته على تزوير الجابري لمكانته المعرفية الخاصة وايهامه الآخر القارئ بما هي عليه حقيقة منزلته، لا تدع لأحد من شك، في أن عملية نصب معرفية واعية ومبرمجة قد تم التخطيط لها بعناية فائقة لكي تخفي معالم مقدماتها غير الشرعية.
لكن ماذا يعني أن ينبري متطوعاً رجل مسيحي - ماركسي للدفاع عن الاسلام والقرآن واللغة العربية، ازاء هجوم بربري منظم يستخدم كل ما أوتي من وسائل لا شرعية وكل ما من شأنه أن يكون غير معرفي وسيلة واداة لتحقيق غايات لا نجد حرجاً في نعتها بأنها “غير معرفية” بعد أن تبين لنا استنفارها لقوى معرفية شتى للنيل من الفكر والاسلام والقرآن واللغة؟
نحن هنا ازاء ستراتيجية للدفاع وتفنيد الأدلة في ميدان محاكمة لايملك المتهم فيها -استناداً الى نوع وحقيقة ادانته- الاّ الاقرار بما ينسب اليه من التهم، بل أن المدعي العام للحقبقة وهو طرابيشي هنا -لايدع قضية ما مثارةً ،قيد العرض،إلا يمررها علينا، -نحن الجالسين في القاعة- واحداً فواحداً- ثم ينتزع الاقرار منا بها،
وعندما لا يدع لأحد منا شكاً بصدقه ونجاحه بنسبة مئوية كاملة يكون الصفر وحده من نصيب خصيمه فيها، ينتقل لبحث طبيعة تهمة أخرى. فهي ستراتيجية التصفير اذن، بعد امتلاك طرابيشي للدليل القاطع على ان ما يصدر عن الماء بعد غليه بخارُ ماء لا أبخرة أخرى، كما أعتقد خصيمه الجابري ذلك، لقد انتهك الجابري بكتابيه “تكوين العقل العربي” و”بنيته” حرمة هذا الفكر بمنهج معرفي مبتكر، وضعت غايته نصب العين،
ثم جرى استحداث الوسائل من بعد لبلوغ تلكم الغاية.
انها حالة تنصيص التاريخ وتقويله،
مواجهته وتأويله وليّ المناهج و تطويعها، للنيل من الموضوع واستخراج ما لم يكن في الأصل موجوداً فيه.
فهي ليست اذن استراتيجية يقودها الاستخفاف ونقص المعرفة ازاء الموضوعات التي تتعامل معها،
بل هي ستراتيجية تعرف بالضبط ما تفعله،
ولأن مثل هذا الاحساس كان مرافقاً على الدوام لقارئ مؤلفات الجابري، أعني شعور القارئ بأن ثمة خطأ ما موجود،
ثمة انتهاك وتحامل معرفي مسبق
ثمة ضغينة توجه الكتابة الجابرية
مثلما ثمّ اسلوب عدائي مسلّح بآلية ثقافية ليس من السهل مواجتها بأجمعها، اذ قد يمكن أن تحقق انتصار ما عليها، هنا أو هناك ،غير أن مواجهة شاملة موسعة تتبعها حذو النعل بالنعل لتقوضها بأجمعها،
انطلاقاً من الاحساس الشامل بشمول الخطة وعمقها،
لم يكن بوسع أحد منّا ممارسته ازاء منهج الجابري
حتى جاء من يشفي غليلنا منه،
أعني ذلك الذي لا يرحم خصمه في هذه المواجهة الجائرة، تماماً كما كان الجابري لا يرحم الفكر والتاريخ واللغة في الحضارة العربية الاسلامية خلال نقده الجائر لبنيتها.


القرآن مقاطعا اللغة العربية
لم يكتف الجابري في منهجه النقدي باعلان القطيعة المفترضة بين القرآن والمعاجم العربية، اذ ان مقولة القطيعة لديه تجاوزت حدّها المتوهم ذاك لتَسِم بميسمها العلاقة بين النحو العربي والقرآن أيضاً، حيث انصرف النحاة - حسب الجابري- عن النص القرآني وجرى احتكامهم في وضع علم النحو (الى الأعراب وحدهم دون غيرهم) ولأن مثل هذا الكلام لا يعقل صدوره عن رأي مطلع على أي من المؤلفات العربية في علم النحو، فلا لوم لأحد على المفكر طرابيشي اذ يقول بصدد هذه المفارقة المعرفية (اننا لا نجد محيصاً من القول بأن الابستمولوجيا الجابرية تثبت مرة أخرى، انها تدخل في باب التخييل منها في باب البحث العلمي، بل أننا أمام رواية سريالية ليست فوق أو دون الواقع- بل هي غير الواقع وعكس الواقع، فالنص القرآني هو المركز الذي كان عنه صدور النحو العربي واليه وروده ولولا مركزية النص القرآني لما أخذ النحو الأهمية التي أخذها الفقه والكلام كعلوم للدائرة الأولى).
اذن فالعلاقة التي عقدتها العربية مع القرآن غير قابلة للفصم، وهذا ما يؤكده، ابن فارس والثعالبي والأصفهاني في نصوص عديدة وهو ما تكذّب غيره الممارسة النحوية على حد سواء، ويمكن الاشارة بهذا الصدد لـ(كتاب) سيبويه الموصوف بقرآن النحو، الكتاب الذي بلغت شواهد مؤلفه من الآيات القرآنية فيه ما ناف على الأربعمائة والأربعين عدا.
من جانب آخر - يقول طرابيشي- ولما كان الجابري قد اعتاد على أن يخطئ في العصر أو في الشخص، فاننا سنتعرف عليه في دعواه هذه على خطأ آخر، اذ انه يخطئ المرمى هذه المرة، أعني -والقول لطرابيشي- فمقاطعة النحاة ومن قبلهم اللغويون، ليس القرآن، بل الحديث، من دون أن تمس هذه المقاطعة الحجج التي ساقها الجابري حول سيادة الاعرابي والبداوة، اذ ان مرد المقاطعة هذه هو “عجمة لسان من نقلوا الحديث” أولاً، ثم الى كونهم قدنقلوه بالمعنى لا باللفظ، حيث جاء هذا المعنى في تبرير العلماء العرب لذلك.


الشعراء الجاهليون هل كانوا من البدو حقاً؟
يمثل الشعر الجاهلي في نظرية الجابري النقدية، “شعر صحراء وبداوة، وهو شعر اهل وبر، وان لغته لغة أعراب ولغة قبائل معزولة ومن ثم فان -بدوية العربية- تتأكد ولا تنفى بالاحالة الى المرجعية الشعرية الجاهلية ولأن مثل هذا النص الجابري يضع المغالطة التاريخية والجهل بحقيقة الحياة الجاهلية في مقدمة معناه -فان طرابيشي لم يتردد طويلاً في الاعلان عن (أن معرفة ناقد العقل العربي بالشعر الجاهلي تماثل على ما يبدو معرفته بالمعاجم العربية وبكتب النحو القديم، أي هي شبه لا معرفة، والاّ فكيف يغيب عنه ان أحداً من كبار شعراء الجاهلية مما كان “اعرابيا” وانه ان وجد شعراء أعراب بين العشراء الجاهليين، فهو من الغالب من صغار الشعراء ومغموريهم، لا من كبارهم ومشهوريهم من أصحاب المعلقات والمطولات، بل ان الشعر الجاهلي المرتبط بكعبات العرب وأسواقهم، هو محض ظاهرة حضارية، بل ان الشعر الجاهلي أصاب أكبر تطوره في بلاطات الملوك، ملوك كندة وغسان والحيرة.
والحال ان ما يحدثه ناقد العقل العربي ههنا هو انقلاب جذري في المرجعيات فهو يجعل المركز الذي هو النص القرآني، تابعاً لدائرته مشروطاً بها لا شارطاً لها، بل انه يعكس العلاقة بين النص القرآني والشعر الجاهلي الى حد يبدو معه هذا الشعر وكأنه هو المتن الذي يقوم له النص القرآني مقام الهامش.


اللغة العربية -سبع تُهم جديدة
تصل حملة الجابري على اللغة العربية نقطة الختام والذروة معا، حين يلصق الجابري بها “خصيصتين أساسيتين” هما، لا تاريخيتها وطبيعتها الحسية، فهي من ناحية، أسيرة القوالب الصورية التي صنعها الخليل وزملاؤه لها، ثم ان العالم الذي نشأت فيه اللغة العربية، عالم حسي لا تاريخي، عالم البدو من العرب الذين كانوا يعيشون زمناً ممتداً كالصحراء ومكاناً هادئاً كل شيء فيه صورة حسية بصرية أو سمعية هذا العالم هو ما تنقله اللغة العربية الى أصحابها بازاء هاتين التهمتين الجديدتين الموجهتين الى اللغة العربية، يبادر طرابيشي الى القول:
بأنهما مقتبستان شكلاً ومضموناً -ولكن ليس تصريحاً- عن كبير ممثلي المركزية الأثنية الاوربية في القرن التاسع عشر -أرنست رينان- ومن أجل اظهار عناصر التشابه بين نصّي رينان والجابري يستحضر طرابيشي نص الأول، النص الذي اتخذه الجابري مصدراً خفياً له، حيث يرد فيه: ان هذه الخاصية المادية والحسية التي تبدو لنا، هي العلامة الفارقة للغات التي هي موضع دراستنا... ومن الممكن القول، ان اللغات الآرية بالمقارنة مع اللغات السامية هي لغات التجربة والميتافيزيقيا بالمقارنة مع اللغات الواقعية الحسية، فمع اللغة السامية يتراءى لنا أن الحس هو وحده ما يتحكم بأولى عمليات الفكر البشري وان اللغة لم تكن في باديء الأمر سوى نوع من الانعكاس للعالم الخارجي.
أما التهم الخمس المتبقية التي يسم الجابري بها اللغة العربية أيضاً فهي: أولا لغة ذهنية مقننة منقطعة عن التطور الحي، وهي ثانياً، لغة موسيقية ذات أبنية وزنية تغلب فيها الصورة الصوتية على الدلالة المنطقية، وهي ثالثاً لغة غير حملية وغير مطابقة للنظام العقلي، وهي رابعاً لغة مزدوجة الى فصحى وعامية وتحكم على العقل بتمزق رهيب، وهي أخيراً لغة تعاني من قصور قاتل في الأبجدية، ما يجعل العقل خادماً لها بدلاً من أن تكون مخدومة له.



الابستمولوجيا: الأصل الفوكوي والنسخة الجابرية
في معرض تحديده للنظام المعرفي كمرادف للأبستمية عند فوكو، يعلن ناقد العقل العربي احتجاجه الصارخ على التاريخ الثقافي الذي كتبه أجدادنا، بوصفه تاريخا ممزقاً ومجزءا (انه تاريخ فرق وتاريخ طبقات وتاريخ مقالات.. تاريخ الاختلاف في الرأي وليس تاريخ بناء الرأي” ولما كنا منقادين لهذا التاريخ بشكل أعمى، فان الجابري يدعونا لمواجهة هذا الانقياد لأنه “يصرفنا عن اكتشاف الكل، ذلك انه وراء تاريخ الاختلاف والتعدد والصراع والانفصال هذا، يثوي تاريخ الوحدة والتكامل والاتصال”، لكن هل الزم الجابري منهجه النقدي بمضمون دعوته هذه؟
يجيب طرابيشي “ان ناقد العقل يخفي لنا هنا واحدة من مفاجآته، فهو بدلاً من أن يضع حداً لاقتتال الأخوة الأعداء، يحوّل الحرب المتنقلة فيما بينهم، الى حرب لا صلح فيها ولا حتى هدنة، أي الى حرب “أنظمة معرفية” تدور في عمق العمق على جبهة آليات انتاج المعرفة بالذات -حرب الايديولوجيات العربية-، أما الأنظمة المعرفية المتحاربة فهي “البيان والعرفان والبرهان” يقول الجابري: “انما كان الصراع في الفكر العربي بين نظامين معرفيين يؤسس كلٌ منهما آيديولوجية معينة، النظام البياني والايديولوجيا السنية من جهة، والنظام العرفاني والايديولوجيا الشيعية من جهة أخرى، وعندما دخل النظام البرهاني كطرف ثالث أصبح منذ اللحظة الأولى موجهاً بذلك الصراع، محكوماً به.
اذن فنحن هنا، ازاء مشرحة يزج الجابري بها قراءه ليضعهم، بدلاً من مواجهة مشهد الكل المزعوم بمشهد اشلاء، حيث لم يسبق قط أن كتب تاريخ العرب الاسلامي بصورة مجزأة وممزقة، كما يكتبه اليوم ناقده “الابستمولوجي” المتعالي -بتصريحه- على الاهواء الايديولوجية. لكن هل كان استخدام الجابري وتوظيفه لهذا المفهوم مطابقاً لسياقات استخدامه، كما وجدت في أصولها، أو كما يدّعي على الأقل، انها كذلك؟
يقول الجابري معرفاً النظام المعرفي -مصرحا بمصدره الموحى اليه من فوكو- “هو جملة من المفاهيم والمبادئ والاجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية” ويمكن اختزال هذا التعريف كما يلي “النظام المعرفي في ثقافة ما، هو بنيتها اللاشعورية” ولان مثل هذا التعريف الجابري يشيء بسوء فهم وقراءة صارخ لمفهوم الابستمولوجيا كما وجدت في أصولها، يبادر طرابيشي الى التعليق بقوله: ان هذه الاحالة الى فوكو هي واحدة من المرات القليلة التي يعترف الجابري بمديونيته الى أحد، تشير كما سنرى الى مديونية كاذبة، فباستثناء الاشتراك بالاسم، “فان الابستمية الجابرية لا تمت بصلة الى الابستمية الفوكوية، بل هي تنقضها نقضاً عنيفاً الى حد يصبح معه الحديث لا عن “حذو النعل بالنعل” كما يقول الجابري، بل “حذو النعل عكس النعل”، ذلك لأن الابستمية عند فوكو من حيث هي بالتعريف “سلك ناظم لجماع المعرفة في عصر معين، ممتدة في المكان، متحولة في الزمان” أما عند الجابري الذي يقلب وظيفتها من توحيد المعرفة الى تشطيرها وتبعيضها، فهي على العكس متغيرة في المكان، ثابتة في الزمان، وهذه الابستمية المشروطة بالتاريخية شارطة لقطاعات المعرفة عابرة لحدودها، الابستمية الفوكوية أداة لتمييز الحقب الثقافية وتوحيدها معاً، والابستمية الجابرية تجهل مبدئي التمييز والتوحيد معاً، انها ترفض مبدأ التحقيب الثقافي، فعندها ان المسرح الثقافي العربي “راكد” و”ميت” وان الأبطال الذين يتحركون على خشبته “خالدون” -في ركودهم- غير ان الابستمية الجابرية تتنكر لدينامية الابستمية الفوكوية، لتقرأ تاريخ الثقافة العربية قراءة لا تاريخية، قراءة سكون وركود وموات، فعنده، أن الزمن الثقافي العربي، زمن راكد، لا زماني، زمن يمتد في الواقع العربي منذ الجاهلية الى اليوم بدون تغاير، بدون تاريخ، يعيش بعدياً نفس ما عاشه قبلنا من دون نقلة ولا طفرة ولا أي قطع للاستمرارية، لابين العصرين الجاهلي والاسلامي، ولا بين العصرين الأموي والعباسي، ولا بين عصري الانحطاط والنهضة، غير أن الغريب في قراءة وطرح الجابري لاشكالية العقل العربي عند هذه الحدود هو عدم احتفاظه بوحدة خطابه ومحافظته عليه من التناقضات الداخلية التي تقوض بنيتها ووحدتها، ففي الصفحة عينها التي يؤكد فيها الحاجة الى “قراءة جديدة تنظر الى الاجزاء من خلال الشكل وتعمل على ابراز الوحدة من خلال التعدد” يقسم “انواع المعارف في الثقافة العربية الاسلامية الى ثلاث مجموعات، علوم البيان، من نحو وفقه وكلام وبلاغة، وعلوم العرفان من تصوف وفكر شيعي وفلسفة اسماعيلية وتفسير باطني للقرآن وفلسفة اشراقية وكيمياء وتطبب وسحر وعلم تنجيم، واخيراً علوم البرهان من منطق ورياضيات وطبيعيات والهيات”.
ولسوف نرى أن ناقد العقل العربي لا يتعقل اي تداخل أفق محتمل بين الأنظمة المعرفية العمودية الثلاثة الا بلغة الأزمة، فطبيعتها الجلمودية لا تترك لها من خيار آخر الا من أن تكون توتاليتارية فكل تداخل بينها هو بمثابة تصادم.
من هنا كان البرهان -لدى الجابري- يطابقه المعقول العقلي، و ا لبيان يلازمه المعقول الديني، أما العرفان فيحتل موقعه في أسفل الهرم بوصفه مملكة اللامعقول المظلمة غير ان الابستمولوجيا الجابرية تبلغ ذروة تحاملها على العقل العربي -يقول طرابيشي- حين تجعل منه علامة فارقة لهويات حضارية قومية على نحو لم تجرؤ على مثله أكثر النظريات الانثربولوجية المثالية تطرفاً عن “روح الغرب” أو “عبقرية الأمم” فبالحرف الواحد يقول الجابري وبمنتهى اللامسؤولية العلمية “اننا ننظر الى العقل العربي بوصفه نتاج الثقافة العربية الاسلامية التي تأسست على نظم معرفية ثلاثة:
نظام معرفي لغوي عربي الأصل، ونظام معرفي غنوصي فارسي هرمسي الأصل، ونظام معرفي عقلاني يوناني الأصل”.

البنية اللاشعورية للنظام المعرفي العربي
لكن من أين استمد الجابري تعريفه للنظام المعرفي بأنه “بنية لاشعورية” اذا عرفنا بأن فوكو -الذي يزعم الجابري انه استوحى تعريفه للنظام منه- لم يتكلم عن “بنية لا شعورية” ابداً؟
أين اطلع الجابري على هذا التعريف الذي يستقي منه في الواقع تعريفه للنظام المعرفي، اذا عرفنا ان فوكو لم يكن مصدره؟ هل اطلع عليه لدى كلودليفي شتراوس كما يفترض به كباحث علمي، أم وقع عليه لدى بول فوكيه واضع المعجم المدرسي عن المفردات الفلسفية الذي أحس الجابري التعامل معه في مؤلفاته؟
يجيب طرابيشي، اننا نقطع انه قبسه وقبس معه مفهوم “البنية اللاشعورية” من معجم اللغة الفلسفية أولا، لان هذا المعجم أورد النص بحرفيته في معرض التمثيل بالشواهد، على المعاني التي تستخدم بها كلمة بنية، وثانياً لأن ناقد العقل العربي لم يقرأ النص في مرجعه الأصيل، أي الذي يقبس عنه المعجم، اذ لو كان قرأه لما وقع في الخطأ الشنيع المتمثل بخلطه بين مفهوم الثقافة في “اثنولوجيا الشعوب البدائية” وبين مفهومها كما تمثلها ثقافة كبرى، مثل الثقافة العربية الاسلامية، أعني -طرابيشي- ان ماهية الخلط تتمثل في ان مؤلف “الانثربولوجيا البنيوية” قد استمد مفهوم “البنية اللاشعورية” كمبدأ للتفسير الثقافي في معرض تمييزه بين وظيفة المؤرخ ووظيفته الانثربولوجي وعند حدود تطبيق معرفية معينة حسب، والحال، ان ما يفعله ناقد العقل العربي هو ان يزيح مفهوم “البنية اللاشعورية” من مجاله التطبيقي المخصوص، أي لأثنولوجي، ليقرأ به الوثائق المكتوبة التي أنتجها العقل الواعي للثقافة العربية الاسلامية متعاملاً مع هذه الثقافة، ليس على انها ثقافة عالمية كبرى، بل على انها ثقافة اقوامية صغرى في شاكلة تلك الثقافات الموسومة: بدائية.


منهج التلصيق المعرفي
تقدم لنا الابستمولوجيا الجابرية، نموذجاً ناجزاً لما يسمى في فن الرسم بتقنية التلصيق فاذا كان التلصيق في الفن تقنية مشروعة فان التلصيق في الممارسة المعرفية غير جائرة لأن فيه اخلالاً بمبدأ الالتزام المنهجي أولاً، ولأن العناصر الملصقة ليست -ثانيا- حيادية ولا قابلة للتطويع وبالتالي للتوظيف في سياق آخر.
اذن فهي تقنية التلصيق المفاهيمي التي تمارسها الابستمولوجية الجابرية المخلة بكلا شرطي المعرفة، فهي تنزع المفاهيم من نسقها الاصلي نزعاً عنيفاً، وتزج بها بعنف في نسيج النسق الجديد، فالابستمولوجية الجابرية تنزع مفاهيمها من جسم وتخيطها في جسم آخر بدون أي احتراز منهجي وبدون صيانة لحرمة أي من الجسمين وبدون قلق على مصير العضو المزروع فحسب ان يخاط بأبرة غليظة ولو ظل موضع فصله ووصله دامياً متقرحاً.
ان ناقد العقل العربي يستعير باعتراف مفهوم النظام المعرفي الابستمي من فوكو، ويستعير بغير اعتراف مفهوم البنية اللاشعورية من ليفي شتراوس، أما اللصقة الثالثة التي تصطنعها الابستمولوجيا الجابرية فتأتي هذه المرة من جهة غير متوقعة، انها من مؤرخ سياسي فرنسي هو ا دوارد هيرو، ثم وبعد هذا الملصق المعرفي يضيف الجابري لصقة أخرى لهذا الجسم ولمفهوم “النظام المعرفي” هو “اللاشعور المعرفي” المعزو القول به الى عالم النفس السويسري جان بياجيه دون ان يصرح وربما يعلم، أن استخدام بياجيه لهذه المواضعة كانت في حقل “علم نفس الطفل” ولهذا فإن نص الجابري الذي يصور بياجيه وكأنه نصير كبير للاشعور يوحي وكأننا أمام بطاقة تعريفية بالشخصية وضعت فيها صورة محل صورة.
بقي أن نضيف بأن كتاب “لطائف الاشارات” للقشيري تنطق نطق اليقين، بأن ذلك التقسيم الثلاثي الذي كان نتاجاً واعياً في الحقل التداولي للثقافة العربية الاسلامية منذ القرن الرابع الهجري كان مصدره هذا الرجل، ففي ذلك الكتاب يقول القشيري في معرض تفسيره سورة الأنعام “يقال نور في البداية هو نور العقل ونور في الوسائط هو نور العلم، ونور في النهاية هو نور العرفان، فصاحب العقل مع البرهان وصاحب العلم مع البيان وصاحب المعرفة في حكم العيان”.
وتعليقاً على آية النور، ليقول “نور اكتسبوه بجهدهم وبنظرهم واستدلالهم ونور وجدوه بفضل الله فهو بيان اضافة الى برهانهم أو عيان اضافة الى بيانهم فهو نور على نور”.
وكما هو واضح من هذه النصوص كافة، ان تقسيم القشيري الثلاثي الداعي لأنواع المعرفة بالله يطابق مطابقة تامة تقسيم الجابري الابستمولوجي للنظم المعرفية الثلاثة “اللاشعورية” ولكن بتراتب قيمي معكوس.
ان ناقد العقل العربي الذي طالما حذر من قراءة تراثية للتراث مؤكدا على ضرورة “القطيعة الابستمولوجية مع رواسب الفكر التراثي” والذي بدا عليه وكأنه يوظف بالفعل مفاهيم باشلار وغرامشي وفوكو وبياجيه وشتراوس، مازاد باعترافه، على ان تبنى التصنيف الثلاثي الذي كان رائجاً معمولاً به في الثقافة العربية، التصنيف الى بيان وعرفان وبرهان. الشيء الذي يعني في محصلة الحساب، انه لم يفعل أكثر من أن يقرأ تراث القدماء بمفاهيم القدماء.

حوار المروّض والاسد

أخيرا، اذا حرصت على استعمال اكثر الالفاظ تأدباً واقلها مبالغة وتشفياً في وصف واقعة حوار المفكرين الجابري وطرابيشي ، فسأقول دونما حرج من مضمون قولي - بعد ان الزمته بخصيصتين من التأدب والتستر - بأن ما جرى من حوار بين الرجلين ، كان يشبه الى حد كبير فضيحة معرفية كبرى ، وصمَ خلالها احد المتحاورين خصيمه بوصمة من الجهل قاسية ومنصفة في الآن ذاته ، جرت وقائعها، حين استحضره امام حمع غفير من مريديه وقرائه ، ثم طلب منه الزئير لمرة اخيرة – اثباتا لهويته النوعية التي قدمها بوصفه اسدا – قبل بدء استجوابه في حقيقة ( اسديته ) المزعومة وفي اصالة انتماء عاداته وغرائزه الافتراسية اليه ،
هكذا وبين منكر لطريقة الاستجواب هذه وبين مطالب بها – استناداً الى ما سمع عن ذلك الاسد من سلوك غريب تأنف الاسود من فعله – جرى استنطاق ذلك الاسد الهصور بكل كبريائه ونبله وسطوته ، وما هي الا لحظات لم تطل حتى تمكن المروّض الماهر من نزع صفات ذلك الاسد وغرائزه امام النظارة واحدة تلو اخرى ليكتشف في نهاية تحليله لهيئة الاسد ان ما كان مخفياً تحت ذلك الزي المهيب ، كان مخلوقاً اخر لا يمت لسيد الغابة بأيما صلة نوعية تذكر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيول دبي.. هل يقف الاحتباس الحراري وراءها؟| المسائية


.. ماذا لو استهدفت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟




.. إسرائيل- حماس: الدوحة تعيد تقييم وساطتها وتندد بإساءة واستغل


.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع العقوبات على إيران بما يشمل الم




.. حماس تعتزم إغلاق جناحها العسكري في حال أُقيمت دولة فلسطينية