الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإمام علي بن أبي طالب ووظيفة المؤرخ المحترف

علي المدن

2017 / 6 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في كل مرة وَجَدَ فيها رواةُ الحديث أن المنزلة اللائقة بالإمام علي تتعرض للتشكيك أو النكران أو التشويه نراهم يبادرون، وعلى الفور، إلى رواية تلك الأحاديث والوقائع التي تُظهر فضائله ومناقبه وسيرته المثالية في الانتماء للإسلام. فعل هؤلاء الرواة ذلك بشجاعة فائقة! إلى الحد أن بعضهم اختار أشد الأماكن أو الأوقات أو الأوساط التي تنتشر فيها تلك التشكيكات والتشويهات فعقد مجالسه فيها لرواية وإذاعة تلك الأحاديث. فعل ذلك رواة وعلماء المسلمين السنة قبل غيرهم، وبعضهم دفع حياته ثمناً في سبيل ذلك، كما حدث مع النسائي، لا لشيء الإ لأجل الإنصاف والحقيقة، وبدافع الغيرة على الدين والجيل الأول من المسلمين، والشعور العميق بالمسؤولية أمام العلم والمعرفة والناشئة من أبناء المجتمع المسلم.
هذا الوضع يوضح كم هي زائفة تلك الآراء السطحية، وأحيانا المغرضة، التي تحاول أن تصور أن عامة المسلمين يتعمدون طمس الحقائق المتعلقة بحياة علي وحجم دوره في الإسلام، أو تصوّر أن عليا عاش منبوذا من قبل أجيال المسلمين، المعاصرين له واللاحقين عليه. إن معرفة أحوال وسيرة رواة وعلماء الحديث المسلمين تُثبت بنحو جلي أن هذه الآراء لا أساس لها من الصحة.
ومع هذا كله، أعني ومع حرص المسلمين على تسجيل تاريخ الإسلام ورجاله بأمانة ودقة، فإن المهمة التي يجدر بباحثي المسلمين المعاصرين النهوض بها، هي إعادة كتابة هذا التاريخ لا كسرديات مناقبية فضائلية معاجزية، وإنما كتابته كأحداث ووقائع توثيقية صرفة، حقيقية وواقعية.
إن الغالب فيما كُتب عن حياة الإمام علي في المكتبة الشيعية هو من الصنف الأول، حيث لا تُظهره تلك المدونات بشرا ينتمي لهذا العالم الواقعي، عاش ليحيى ويندمج في الإسلام وأحداث زمانه وبيئته، وإنما كائنا مختلفا يعيش كبؤرة تتركز كل رسالة الإسلام وجهود نبيه من أجل شرح مواهبه الاستثنائية والكشف عن خصاله ومعاجزه وخوارقه.
من الواضح أن هذا لا يعني أن الحل الأنسب لتصحيح هذا الاتجاه هو إلغاء تلك الخصال والمآثر ومقابلتها بالنكران والجحود، كما فعل التيار الناصبي المعادي للإمام علي. إنما الصحيح هو إرجاع بؤرة الاهتمام في النظر والفهم إلى نفس الإسلام ورسالته وسيرة نبيه.
كيف يتحقق ذلك؟ من خلال نقد الفرضيات العقلية والكلامية التي يتأسس عليه الانتقال المذكور.
يمكن القول إن في كل قراءة تاريخية ثمة فرضيات ينطلق منها البحث، ولكن القراءة الميثولوجية تتحرك بدوافع مفرطة في المثالية، فتصنع فرضيات مثالية على شاكلتها، تُحوّل الحدث، أي حدث، إلى قُدّاس كوني، خارج الزمان والمكان المألوفين لنا كآدميين. من أجل أن ننتزع ما هو تاريخي من بين سرديات لاتاريخية يجب علينا العودة إلى الفرضيات الأولى، البكر، التي تشكل منها هذا العقل المثالي لنبعث فيها روح الواقع، روح هذا العالم الذي نعيش فيه، لا العالم الذي نتخيله ونشتهيه. عندها تكون المشكلة في تخليص العقول من سبات الخيال الجامح ودوافعه النفسية والسياسية والاجتماعية.
يتصور البعض أن حياة الإمام علي واضحة ولا تحتاج إلى بحث وتنقيب وإعادة اكتشاف. يوهمه بذلك الكمُ الكبير من المرويات الواردة في فضائله ومناقبه، وهذا غير صحيح! إذ هذه المرويات لا تغطي من أحداث عمره إلا سنة أو سنتين. إنها لقطات مختارة من شريط يمتد لثلاثة وستين عاماً. على أي أساس اختيرت تلك اللقطات؟ وكيف يتم تركيبها وفهمها؟ هذه هي الأسئلة الأهم.
أعلم جيدا أنني أكتب هذا في وقت هو الأشد انفعالا وعاطفة على أفئدة عموم الشيعة. ولكنني، وأقول هذا بكل صراحة، لا أطالب هذا العموم بتصحيح الشروط المنهجية، وسد الثغرات التاريخية، في دراسة حياة الإمام، فهذة مهمة لا يستوعبها الإنسان العاطفي والمنفعل، بل تلك هي مهمة الباحثين الجادين المتفرغين لأمثال هذه الدراسات. ويجب أن لا تغرنا كثرة الدراسات اللاتاريخية في مكتبتنا العربية والإسلامية، فإن ما وراء تلك الكثرة عقلية واحدة هي (أولا) العقلية اللاتاريخية التي قامت بفضل فرضيات مثالية، وهي (ثانيا) فرضيات متورطة في إشكالية انتقال "بؤرة الاهتمام" الذي أشرنا إليه أعلاه. 
رأى بعض الأعلام من المفكرين الشيعة المتأخرين أن الأناجيل المنتشرة اليوم إنما هي، وعلى أفضل التقادير، من تأليف طلاّب السيد المسيح، وأنها لا تحمل في الحقيقة إلاّ سيرته وليس رسالته النبوية. وأن تسعين في المئة منها منقول لغاية إبراز الجانب الغيبي والمعاجزي من هذه السيرة . وهي لهذا عاجزة أن تشكل حصيلة مضيئة يمكن أن يقام على أساسها، وعلى المدى الطويل، العمل النبوي. يمكن أن يقال الكلام ذاته مع مرويات سيرة الإمام علي، خصوصا وأن هذه السيرة تمثل، في نظر بعض شيعته، امتدادا تكميليا للرسالة الإسلامية وتعاليم نبيها، إنها سيرة لا تكشف عن حياة الإمام الواقعية والكاملة، خلافا لمن يظن أنها واضح وبينة بنحو لا مزيد عليه. أين هي تلك المحطة من حياة الإمام التي من الممكن البدء بدراستها ويكون لها تأثير واضح في تغيير الكثير من القناعات السائدة التي تحتاج إلى الفهم السليم من أجل حياة أفضل لنا اليوم؟ أقترح بنحو أولي أن تولى تلك الفترة الممتدة على مدار خمسة وعشرين عاما من حياته، والمعروفة بعصر الخلفاء الثلاثة السابقين عليه، بالدراسة والتحليل والفهم. كيف عاش الإمام تلك الفترة؟ ماذا كان يعمل؟ ما هو نمط عيشته؟ من أين يحصل على قوته ودخله؟ كيف كان يخالط معاصريه؟ ما هي مواقفه وأقواله وسيرته؟ محاولة الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها سوف تسلط الضوء على جانبٍ مهمٍ لطالما أُهمل واختُزِل وتم القفز عليه.
لن يعاد تشكيل العقل الإسلامي ما لم يخضع للشروط المنهجية التاريخية الصارمة. وهذه مهمة تبدو صعبة المنال في واقعنا الراهن، ولكن تأجيلها لن يفعل أكثر من الكشف عن انسداد المعرفة أمام هذا العقل المتمرد على قوانين التاريخ. ولأنها قوانين التاريخ حقا فإنها لا ترحم، بل ستبقينا نعاني من نتائج هذا الانسداد المعرفي. ما هو شكل تلك المعاناة اليوم؟ أعتقد أن واقعنا الراهن هو من يتكفل بجواب هذا السؤال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكوفية توشح أعناق الطلاب خلال حراكهم ضد الحرب في قطاع غزة


.. النبض المغاربي: لماذا تتكرر في إسبانيا الإنذارات بشأن المنتج




.. على خلفية تعيينات الجيش.. بن غفير يدعو إلى إقالة غالانت | #م


.. ما هي سرايا الأشتر المدرجة على لوائح الإرهاب؟




.. القسام: مقاتلونا يخوضون اشتباكات مع الاحتلال في طولكرم بالضف