الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيكولوجيا الشر بين النظرية والتطبيق

ثائر أبوصالح

2017 / 6 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


سيكولوجيا الشر بين النظرية والتطبيق
الكاتب: ثائر أبوصالح (كاتب وباحث سوري، الجولان السوري المحتل)
المحتويات:
أولاً: مقدمة
ثانياً: مدخل نظري
ثالثاً: تجربتا ملغرام وسجن ستانفورد
1- اختبار ملغرام
2- اختبار سجن ستانفورد
رابعاً: نقاش النتائج
خامساً: مفهوم المسؤولية في السلوك الشرير بين النظرية والتطبيق
1- النظرية الدينية
2- التحليل النفسي عند فرويد
3- النظرية السلوكية
4- النظرية الإدراكية(المعرفية)
5- النظرية الوجودية
6- النظرية العصبية البيولوجية
خاتمة واستنتاجات
هوامش


أولاً: مقدمة
لا شك، أن تقرير أمنستي حول ممارسات النظام السوري في سجن صيدنايا، من خلال تعذيبه وقتله ل 13000 سجين، والذي عرف ب"المسلخ البشري"(1) وقبله، تقرير سيزار ، والصور المروعة لهياكل عظمية بشرية لاقت ما لاقته من التعذيب والتجويع والقتل الممنهج، وذلك وفقا لتقارير منظمات حقوق الأنسان الدولية،(2) هذا اضافة لما نراه يوميا في وسائل الإعلام ،من مشاهد القتل والتدمير والتهجير تحت مرآى ومسمع من العالم، دون أن يحرك ساكناً، مكتفياً فقط بعبارات الشجب والاستنكار. كل هذه الأحداث تجعلنا نتساءل عن المستوى الأخلاقي لهذا العالم الذي فقد انسانيته، في وقت وصل فيه الى مستوى مذهل من التطور التقني والتكنولوجي، يوظفه بعضهم في التفنن في قتل المدنيين ،كما فعلت وتفعل روسيا عبر سلاحها الجوي وتقنياتها الصاروخية المتطورة، وكأن قتل الأطفال بقاذفات الطائرات، وهدم منازل المدنيين فوق رؤوس اصحابها، يختلف بماهيته عن قتل الناس نحراً بالسكاكين كما تفعل داعش، وكأن حرق الأطفال والنساء والشيوخ بنيران المدافع والصواريخ يختلف عن حرق البشر في أقفاص حديدية !!!
وأمام هذا المشهد الدموي المروع، يقف المرء حائراً أمام ظاهرة العنف المستشرية في الواقع العربي عامة والسوري خاصة، فكيف يمكن أن نفهم ونفسر سادية النظام السوري في التعامل مع السجناء وتعذيبهم وقتلهم بدم بارد؟ وكيف يمكن أن نفهم سيكولوجية المجرم الذي يلقي برميلاً متفجراً على منطقة مدنية مأهولة بالسكان وهو يقهقه، مع علمه الأكيد أنه يستهدف الأطفال والنساء والشيوخ، دون وازع من ضمير؟ وكيف يمكننا أن نفسر ذبح الناس بالسكاكين كما تذبح الحيوانات في المسلخ؟ وما هي التركيبة النفسية لهذا الشخص الذي يقوم بهذا الفعل الإجرامي؟ هناك اسئلة كثيرة، على هذا المنوال، يمكن طرحها، وبالنتيجة يبقى المدخل الأساسي لهذا الموضوع يتلخص بالسؤال التالي: من أين يأتي البشر بكل هذا الكم الهائل من الشر؟ هل هو مستكين داخل النفوس البشرية؟ ام هي البيئة التي تحول الإنسان الطبيعي والسوي الى مجرم وقاتل؟ هذه الأسئلة التي تتناول الطبيعة البشرية، عالجها الفكر الديني من جهة، وكانت دائماً محط اهتمام علماء النفس والاجتماع في محاولة لتفسير ها من جهة أخرى.
سأحاول في هذه الدراسة أن أضيئ، ولو قليلاً، على ظاهرة تحول الإنسان الى شرير، من خلال التساؤل عن مصدر هذا الشر، الذي يحوله الى كائن أشرس من الحيوانات الضارية، مستعيناً بنتائج تجربتين هامتين، أجريتا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ الأولى في جامعة ييل (Yale university) عرفت باختبار ملغرام (Stanly Milgram) وذلك في تموز من عام 1961. حيث عرض ملغرام بحثه في مقالة عام 1963 في مجلة Journal of Abnormal and Social Psychology”". تحت عنوان " دراسة سلوكية للطاعة " ، (3) ثم تناولها بالتحليل في كتابه” Obedience to Authority An Experimental View”. الانصياع للسلطة: نظرة تجريبية "عام 1974. (4) أما التجربة الثانية فقد أجريت في جامعة ستانفورد وعرفت باختبار سجن ستانفورد “Stanford prison experiment” وهي دراسة نفسية هامة عنيت بالاستجابات الإنسانية للأَسْر، واهتمت بالظروف الحقيقية لحياة السجن. تم إجراء الاختبار في الفترة ما بين 14 إلى 20 آب 1971 تحت إشراف فريق من الباحثين يقوده فيليب زيمباردو( Philip Zimbardo) من جامعة ستانفورد. وقد قام بأداء دور الحراس والسجناء متطوعون، وذلك في بناء يحاكي السجن تماماً. إلا أن التجربة سرعان ما تجاوزت حدود السيطرة وتم إيقافها باكراً. وكثيراً ما أحيطت هذه التجربة الشهيرة بشكوك من وجهة نظر أخلاقية وشبهت باختبار ميلغرام . (5)
ثانياً: مدخل نظري
ان الشر في الفكر الديني يتجسد بفكرة إبليس الذي عصا أمر الخالق ،عز وجل، حين رفض أن يسجد لآدم. ولكن السؤال هنا؛ هل خلق الله أبليس كتجسيد للشر لحكمة أرادها، حتى تتحول ديناميكية الصراع بين الخير والشر الى ميكانيزم محرك للبشر بسلوكياتهم حتى يثابوا أو يعاقبوا في آخر الزمان؟ أم أن ابليس كان ملاكاً ،ثم تحول بسلوكه الرافض لتنفيذ أمر الله بالسجود لآدم، الى تجسيد للشر؟ أي أن الشر كان خياره، وليس خيار الخالق عز وجل له، بكلمات أخرى، هل لو قبل ابليس السجود لآدم لما وجد الشر في هذا الكون؟.
يستحضرني في هذا السياق ما أورده الراحل صادق جلال العظم تحت عنوان" مأساة ابليس" (6) حين اعتبر أن ابليس كان بين خيارين أحلاهما مر، فإما أن يرفض الأمر الإلهي، ويقيل بمشيئة الله والتي تقتضي وجود الشر في هذا الكون، ويرفض السجود لأدم، أو أن يقبل الأمر الإلهي، ويرفض المشيئة الإلهية ويقبل السجود لآدم. اختار ابليس الخيار الأول، لأن رفض الأمر الإلهي أمر ممكن وجائز، اما رفض المشيئة فهو أمر لا قدرة للمخلوقين عليه أياً كان مركزهم، فنحن لا نستطيع أن نرفض ظاهرة الموت لأنها مشيئة الله في خلقه، ولكننا نستطيع أن نرفض الأمر الإلهي اذا أردنا، فهناك من يقتل ويزني ويسرق، مع أن الله أمرنا بأن لا نقدم على هكذا افعال. من هنا يصل صادق جلال العظم الى نتيجة مفادها، أننا سنكتشف في آخر الزمان أن أبليساً كان ملاكاً أنيط به دو الشرير لتكتمل مشيئة الله في خلقه.
اذا كان الأمر كذلك فإن الشر كامن فينا كبشر كمون النار في الجمر، فإذا ما توفرت الظروف خرج كالمارد ليحول الإنسان الى شرير وقاتل، تماما كما لو هبت الهواء على الجمر فيتحول الى نار يحرق كل ما حوله. ولكن هل في هذا القول اعفاء للإنسان من المسؤولية عن أفعاله، بكونه يكتنز الشر بطبعه كما خلقه الله؟ الجواب قطعا لا، لأن الشر هو أحد خيارين وضعهما الله في متناولنا ،فيمكننا أن نختار نقيض الشر وهو الخير. هذا يعني انه وبالرغم من أن الشر هو من خلق الله ولكنه ليس حتمياً ،وإنما خيار ،ويتحمل من يختاره المسؤولية المطلقة عن خياره.
اما بالنسبة لعلماء النفس فيعتبر فرويد ومدرسته من بعده، أن العنف دافع مولود فينا، ويحرك سلوكنا، وبالتالي فإنه يلتقي بشكل أو بآخر مع الفكر الديني . أكد فرويد أن هناك غريزتين متناقضتين تفسر السلوك الإنساني, أولهما غريزة آيروس أو غريزة الحياة, ورأى بأن لهذه الغريزة طاقتها والتي أطلق عليها مصطلح اللبيدو, وبأن هذه الغريزة تتوجه نحو التكاثر والإبقاء على الحياة, والغريزة الأخرى هي غريزة ثاناتوس, أو غريزة الموت, ورأى أن هذه الغريزة لها طاقتها, وبان هذه الطاقة تتجه نحو الدمار وإنهاء الحياة, وتحقق هذه الغريزة الهدف الأقوى في النفس الإنسانية وهي الرجوع إلى حالة ما قبل الحياة, إلا أن هذه الغريزة إذا ما أحبطت فإن طاقتها ستتوجه نحو الغير بدلا من توجهها نحو الذات، وعلى الرغم من المخارج التنفسية لهذه الغريزة كحالات الغضب أو النشاطات التنافسية، إلا انه رأى أن هذه الحلول مؤقتة ولا تجدي نفعا، إلا بالعودة إلى ما قبل الحياة أي الموت، ورأى أن التعاون والتضاد بين هاتين الغريزتين هو الذي يحدث ظواهر الحياة والتي يضع الموت نهاية لها. كذلك يقسم فرويد النفس البشرية الى ثلاثة اقسام وهي: الهو "Id" – الأنا "Ego" – الأنا الأعلى "Superego" (7) والتي سنأتي على ذكرها وتحليلها لاحقاً.
أما النظرية السلوكية (Behaviorism) فتعطي أهمية للبيئة التي تحولنا الى أشرار ومجرمين وقتله، فنحن كبشر نولد صفحة بيضاء (Tabula rasa) والبيئة التي نترعرع فيها هي التي تصيغ شخصيتنا وتحولنا الى ما نحن عليه. فنحن نتعلم أن نكون أشراراً، والمسؤول عن ذلك هو البيئة التي ولدنا وترعرعنا بها. (8)من هنا ينتج ،ووفقا للنظرية السلوكية، أنه وكما تعلم الشخص أن يكون شريراً، يمكنه أن يتخلص من الشر عن طريق تغيير البيئة المحيطة به، ليتعلم سلوك الخير.
وهناك نظرية علم النفس الإدراكي أو المعرفي (Cognitive psychology) التي تعتبر سلوكنا هو نتاج لطريقة فهمنا وادراكنا لواقعنا. فالمشكلة ليست بالبيئة بقدر ما هي طريقة فهم عقولنا لهذه البيئة، وطريقة تحليلنا لهذا الواقع، وهكذا تعود المسؤولية من جديد الى ملعب الأنسان، الذي قد يصيب وقد يخطئ في ادراكه لبيئته.(9)
أما النظرية الوجودية (Existentialism) فترى؛ أننا نحن كبشر ,وجدنا أحراراً، ونستطيع أن ننتج بيئاتنا، وكل ما نقوم به هو من صنعنا وهي خياراتنا، التي يجب أن نتحمل مسؤوليتها. لذلك أصبح الشر أو الخير خياراً إنسانياً فردياً.(10)
وهناك النظرية البيولوجية العصبية(Neurobiology) والتي تعتبر أن سلوكنا هو نتاج لتركيبتنا البيولوجية العصبية، ولإفراز مواد كيمائية وهرمونات مختلفة في أدمغتنا، تحول مزاجاتنا ،وتجعلنا نتحول الى وضعيات نفسية، ينتج بعضها فعلاً شريراً. هنا تعود المسؤولية من جديد الى الطبيعة الإنسانية لأنها جزء من تركيبتنا البيولوجية التي لم يكن لنا فيها خيار. (11)
أما الماركسيون فيعتبرون أن الشر ينتج عن استغلال الإنسان للإنسان وطبقة لطبقة، فالشر يكمن في النظام الرأسمالي وفي مؤسسة الدولة التي انتجها الإنسان كأداة في يد الطبقة الحاكمة لسحق باقي الطبقات. إن الشر هو الاستغلال، وسيزول هذا الشر ومؤسساته عندما يصل الإنسان الى المرحلة الشيوعية، أي الى العدالة الاجتماعية، تنتفي حينها حالة الاستغلال أي الشر، الذى يمثل محاولة الإنسان السيطرة على كل وسائل الإنتاج لمصلحة طبقة مستفيدة على حساب من يبيعون جهدهم لسد قوت عيالهم. (12)
اذاً، هناك من يعتبر أن مصدر الشر هو الإنسان، وهناك من يؤكد أن الشر مصدره البيئة، وهناك من يقول أن الشر ينتج عبر طريقة فهمنا لما يدور حولنا، وهناك من يرى أن الشر هو خيارنا، وهناك من يوعز الشر لتركيبتنا البيولوجية العصبية، فالإنسان والبيئة معاً مسؤولان عن وجود الشر، وهناك من يتعامل مع الشر على أنه ظاهرة كامنة في المؤسسات الاجتماعية التي أنتجها الإنسان، كالطبقات الاجتماعية، ومؤسسة الدولة، كما يقول أتباع النظرية الماركسية.


ثالثاً: تجربتا ملغرام وسجن ستانفورد
1- اختبار ملغرام:
يعتبر اختبار ستانلي ملغرام من أهم التجارب التي أجريت في مجال علم النفس الاجتماعي، فقد هدفت الى دراسة مدى الانصياع للسلطة ، وقياس مدى استعداد المشاركين تنفيذ أوامر تتناقض مع ضمائرهم. يقول ملغرام: لقد قمت بإجراء اختبار بسيط لقياس كمية الألم التي يمكن لشخص عادي أن يسببها لشخص آخر، تنفيذاً لأمر صدر عن عالم يشرف على اختبار، سلطة مجردة ، تتعارض مع مبدأ (عدم إيذاء الآخرين) ،وهو ما يفترض أنه أحد أشد أخلاقياتنا صرامة، هذا (المبدأ) وتلك (السلطة) يلتقيان في تحد سافر مع صدى صرخات الضحية (الممثل) ،وتفوز السلطة في هذا التحدي أكثر مما يمكن لنا تصوره.(13)
أجريت التجربة في جامعة بيل، في غرفتين في قبو الجامعة، وقد شارك في الاختبار ذكور تتراوح اعمارهم بين 20 و50 عاما، ينتمون الى مختلف الطبقات الاجتماعية والتعليمية، وتستغرق التجربة ساعة واحدة، مقابل أجر يقدم للمشاركين. لقد اتفق الباحث مع ممثل، يقوم بدور الطالب الذي يريد أن يتعلم (المتعلم) ،أما المشاركون فيقومون بدور المعلم. وقد أخفى الباحث عن المشاركين الهدف الحقيقي للتجربة، وهو قياس مدى انصياع المشارك لأوامر المشرف، وأخبرهم بأن الاختبار يهدف لقياس أثر العقاب في التعلم. أجرى الباحث عملية قرعة وهمية متفق عليها مسبقا مع الممثل، تؤدي دائما الى اعطاء الممثل دور المتعلم، ثم يوضع المشارك والممثل في غرفتين متجاورتين، بحيث يتواصلان بالكلام فقط، دون أن يشاهدا أحدهما الآخر. وأثناء الاستعداد للتجربة يصرح (الممثل) بأنه يعاني من مشاكل قلبية، لكنها ليست خطيرة. يتم تعريض المشارك لصعقة كهربائية بشدة 45 فولط كنموذج للصدمة التي سيوجهها للمتعلم (الممثل) عندما يخطئ.
جلس المشارك في غرفة أخرى وأمامه على الطاولة جهاز الصدمات الكهربائية، وله عدد من المفاتيح، يشير كل منها إلى شدة محددة للتيار، تتدرج من 30 حتى 450 فولط. يقدم المشرف للمشارك ورقة تحوي مجموعة من الكلمات المتقابلة، وهي التي يجب على المتعلم أن يحفظها. وتقتضي حيثيات الاختبار أن يقوم المعلم بقراءة الكلمات المتقابلة كلها، وعندما ينتهي من قرائتها، يعود ليقرأ الكلمة الأولى ويقدم أربع احتمالات للكلمة المقابلة لها. المتعلم (الممثل) سيقوم بضغط زر أمامه يمثل اختياره، فإذا أخطأ الاختيار فإن على (المشارك/ المعلم) أن يقول له بأنه أخطأ، ويخبره بشدة الصعقة التالية، ثم يضغط على الزر الخاص بالصعقة الكهربائية المناسبة، أما إذا كانت الإجابة صحيحة يقوم المعلم بقرائة الكلمة التالية وإعطاء الاحتمالات الأربع لها. وهكذا حتى تنتهي القائمة، ثم يعيدها من البداية إلى أن يتمكن المتعلم من حفظ كل الكلمات.
المشاركون يظنون ،إذن، بأنهم يوجهون صعقات كهربائية للمتعلم. لكن في واقع الأمر لم تكن هناك أي صعقات كهربائية، بل كان هناك تسجيل صوتي معد مسبقاً بصوت الممثل (المتعلم) يصدر فيه صرخات بالتناغم مع صوت الصعقات الكهربائية. بعد عدة زيادات في شدة الصعقة يبدا الممثل (المتعلم) بالضرب على الجدار الفاصل بينه وبين المشارك عدة مرات ويشتكي من الوضع الصحي لقلبه. عند هذه النقطة عبّر عدد من المشاركين عن رغبتهم في وقف الاختبار وتفقد وضع المتعلم. عدد من المشاركين شككوا في مغزى الاختبار ولكن آخرون استمروا بعد أن تلقوا تطمينات تعفيهم من أي مسؤولية. بعض المشاركين راحوا يضحكون بانفعال شديد لدى سماعهم صرخات الألم الصادرة عن المتعلم (الممثل)
إذا أبدى المشارك في أي مرحلة من مراحل الاختبار رغبته في التوقف، كان (المشرف) يوجه إليه سلسلة متتابعة من التنبيهات، وفق التسلسل التالي:
1 ـ الرجاء الاستمرار. 2 ـ الاختبار يتطلب منك أن تستمر، استمر رجاء. 3 ـ من الضروري أن تستمر. 4 ـ ليس لديك خيار، يجب عليك الاستمرار.
إذا ظل المشارك عند رغبته في التوقف بعد ذلك، يتم وقف الاختبار، وإلا فإن قيامه بتوجيه الصعقة ذات الشدة 450 فولط يعتبر جرس النهاية للاختبار، ومع تنفيذ المشارك لها يتم التوقف.
أجرى ميليغرام قبل بدء الاختبار استبياناً وزعه على مجموعة من علماء النفس حول توقعاتهم لنتائج الاختبار. لقد غلب على أكثرهم الظن بأن قلة قليلة فقط ، ستصل إلى مرحلة إعطاء الصعقة القصوى.
- نتائج التجربة:
النتائج كانت مخيفة وفاجأت ميلغرم نفسه :
26من بين 40 مشارك والذين يشكلون 65% وصلوا الى الحد الاقصى في الصدمة الكهربائية . 14 الباقيين توقفوا عند 300 فولط ، 12 من بين المشتركين والذين يشكلون 30% وضعوا يد الطالب على اللوحة الحديدية وصدموه بالكهرباء بأيديهم .
تم إجراء نسخ عديدة من الاختبار في مختلف بقاع العالم، وقد أدت إلى نتائج مشابهة. وصف ملغرام 19 صنفاً للاختبار شرحها في كتابه، الانصياع للسلطة من أهم هذه النسخ ، نسخة تأثير قرار الجماعة على قرار الفرد والتي سأذكرها لاحقاً، ووجد أنه عندما تكون العلاقة مباشرة مع الضحية، انخفض مستوى الانصياع للأوامر الصادرة عن السلطة، وبالعكس ، عندما كانت العلاقة مباشرة مع السلطة ازداد مستوى الانصياع. أي أن مستوى الخضوع تراجع عندما :
- صاحب القرار اعطى التوجيهات من خلال الهاتف ولم يكن موجوداً خلال التجربة.
- عندما اجري الاختبار خارج الجامعة، هكذا فقد الاختبار من قيمته المعنوية نتيجة لتغيير المؤسسة التي تقف من ورائه.
- الطالب كان موجوداً في نفس الغرفة مع المعلم ، والمعلم رأى بأم عينيه مدى تأثير التعذيب عليه.(14)
2- اختبار سجن ستانفورد:
اختار زيمباردو من بين ال (70) المتقدمين للمشاركة في التجربة ( لقاء أجر) (24) شخصا ، كانوا الأكثر ملاءمة من حيث الاستقرار النفسي والصحة البدنية. غالبيتهم كانوا من البيض، الذكور، ومن الطبقة الوسطى، وهم جميعاً طلاب في المرحلة الجامعية.
قُسم المشاركون عشوائياً إلى مجموعتين: مساجين وحراس. ، ولم تكن هناك أية فروق موضوعية من حيث البنية بين المجموعتين.
السجن أعد في قبو جامعة ستانفورد، وتم تسليم الحراس عصي شرطة، وبزات اختاروها بأنفسهم من محل أزياء عسكرية، وتم تزويدهم بنظارات عاكسة لتجنب التواصل البصري مع المساجين . وعلى عكس المساجين، تمتع الحراس بدوام على شكل دوريات، يعودون إلى بيوتهم بعد انقضائها، لكن عدداً منهم تطوع أحيانا لساعات إضافية، رغم أنها بدون أجر.كان على المساجين أن يلبسوا رداءً فضفاضاً من دون ملابس داخلية ،وصنادل مطاطية ،وقد رمز إلى كل سجين برقم عوضاً عن اسمه، وقد خيطت الأرقام على ملابسهم، وكان عليهم أن يرتدوا قبعات ضيقة من النايلون لتبدوا رؤوسهم كما لو أنها محلوقة تماماً. كما وضعت سلسلة حديدية صغيرة عند الكاحل لتذكرهم على أنهم مسجونون ومضطهدون.
قبل بدء الاختبار بيوم واحد، تم جمع الحراس لحضور جلسة تمهيدية، لكنهم لم يتلقوا أي توجيهات، باستثناء عدم السماح باستخدام العنف الجسدي. قيل لهم ؛ بأن إدارة السجن تقع على عاتقهم، وان لهم أن يديروه كما يشاؤون.
وجه زيمباردو للحراس تعليمات عامة كما يلي:
" يمكنكم أن تولدوا إحساساً بالخمول لدى السجناء، ودرجة ما من الخوف، من الممكن أن توحوا بشيء من التعسف يجعلهم يشعرون بأنكم، وبأن النظام، وبأننا جميعاً ،نسيطر على حياتهم، سوف لن تكون لهم خصوصيات ولا خلوات. سنسلبهم من شخصياتهم وفرديتهم بمختلف الطرق. بالنتيجة سيقود كل هذا إلى شعور بفقدان السيطرة من طرفهم. بهذا الشكل سوف تكون لنا السلطة المطلقة ولن تكون لهم أي سلطة."(15)
في المقابل قيل للسجناء بأن ينتظروا في بيوتهم حتى يحين الموعد ويتم استدعاؤهم. بدون أي تحذير مسبق تم اتهامهم بالسطو المسلح ،واعتقالهم من قبل قسم شرطة حقيقي، قدم مساعدته في هذه المرحلة فقط من الاختبار. تم إخضاع السجناء لإجراءات الاعتقال التقليدية بما فيها التسجيل، وأخذ البصمات، والتقاط الصور، كما تليت عليهم حقوقهم تحت الاعتقال. ثم نقلوا إلى السجن المعد للاختبار حيث تم تفتيشهم عراة، ومنحهم هويات جديدة.
- نتائج التجربة:
سرعان ما خرج الاختبار عن السيطرة، فعانى السجناء واحتملوا ممارسات سادية ومهينة على أيدي الحراس، بدت على عدد منهم علامات الاضطراب العاطفي، فبعد اليوم الأول الذي مر دون ما يستحق الذكر، بدأ عصيان في اليوم الثاني، وتطوع الحراس للعمل ساعات إضافية للقضاء على التمرد، دون أي إشراف من قبل الطاقم المشرف على الاختبار. بعد ذلك، حاول الحراس أن يفرقوا السجناء ويحرضوهم ضد بعضهم البعض من خلال تقسيمهم إلى زنزانتين واحدة (للجيدين) والأخرى (للسيئين) ، ليوهموا السجناء من وراء ذلك، إلى أن هناك مخبرين تم زرعهم سراً بين السجناء، لقد نجحت الخطة وآتت الجهود أُكلها، فلم يظهر بعد ذلك أي تمرد كبير.
سرعان ما تحول السجن إلى مكان منفر وغير صحي. وصار الدخول إلى الحمامات امتيازاً، قد يحرم منه السجين، وكثيراً ما حصل ذلك. وقد أجبر بعض السجناء على تنظيف المراحيض بأيديهم المجردة. وتم إخراج الفرش والوسائد من ما سميت زنزانة (السيئين) ، وأُجبر السجناء على النوم عراة على البلاط. أما الطعام فكثيراً ما حرم السجناء منه كوسيلة للعقاب. لقد فُرض العري على السجناء وتعرضوا للتحرش الجنسي والإذلال من قبل السجانين.
زيمباردو قال بأن السجناء استجابوا بأحد ثلاث طرق: إما المقاومة بنشاط، أو الانهيار، أو بالرضوخ والطاعة وهي حالة (السجين النموذجي). كما أن زيمباردو نفسه أخذ بالانغماس والتورط في الاختبار شيئاً فشيئاً. ففي اليوم الرابع، وعلى أثر سريان إشاعة عن خطة فرار يعدها السجناء، حاول الدكتور زيمباردو والحراس أن يحولوا التجربة إلى حقيقة، فأرادوا استخدام بناء غير مستخدم من سجن حقيقي تابع للشرطة المحلية، ونقل السجناء إليه بهدف ضمان (الأمن) ، لكن قسم الشرطة رفض طلبهم بهذا الخصوص. مع تقدم التجربة، ازداد السلوك السادي عند بعض الحراس ـ وخاصة خلال الليل حيث ظنوا أن الكاميرات كانت مطفأة. قال المشرفون على الاختبار بأن واحداً من كل ثلاثة حراس تقريباً أظهر ميولاً سادية حقيقة. معظم الحراس انزعجوا عندما تم إجهاض التجربة قبل الوقت المحدد لها.
بدأت اضطرابات عاطفية حادة بالظهور على سلوك السجناء. أحدهم أصابته ارتجافات في جسمه عندما علم بأن طلب تخفيض المدة الذي تقدم به قد تم رفضه (وكان الدكتور زيمباردو قد رفض الطلب بعدما ظن أن هذا السجين يتظاهر بالمرض ليتمكن من الخروج من السجن). شاعت بين السجناء مظاهر البكاء والاضطراب في التفكير. عانى اثنان من السجناء من صدمة شديدة في مراحل مبكرة من الاختبار بحيث لزم إعفاؤهما من الاستمرار واستبدالهما.
أحد السجينين البديلين، ، أصيب بالرعب بسبب معاملة السجانين وأعلن إضراباً عن الطعام للاحتجاج. وقد أجبر على البقاء في الحجز الانفرادي داخل خزنة صغيرة لمدة ثلاث ساعات. وقد فرض عليه السجانون أن يحمل خلال احتجازه النقانق التي امتنع عن أكلها. بعض السجناء الآخرين اعتبروا أنه يفتعل المشاكل. وقد استغل الحراس هذا الأمر فخيروا السجناء ما بين أمرين: إما أن تؤخذ منهم الأغطية، أو أن يحتجز السجين في الحجز الانفرادي طوال الليل. السجناء فضلوا الاحتفاظ بالأغطية. وفيما بعد تدخل زيمباردو وأعاد السجين إلى زنزانته. أخيراً قرر زيمباردو إجهاض الاختبار بعد انقضاء 6 أيام فقط فقد تم إيقاف الاختبار الذي كان من المفترض أن يستمر لأسبوعين.(16)
رابعاً: نقاش النتائج
لقد رأينا انه في اختبار ملغرام لم يبدِ أي من المشتركين رغيته في الانسحاب قبل الوصول الى 300 فولط، أي أن النسبة في هذه الحالة كانت 100% . أما الذين وصلوا الى 450 فولط كانت نسبتهم 65% ،في حبن أن 30% أمسكوا بأيدي الطلاب ووضعوها على الحديد الموصل للكهرباء. هذه نتيجة مذهلة، فقد توقع علماء النفس الذين سؤلوا قبل اجراء التجربة عن توقعانهم، حيث قدروا أن نسبة الذين سيصلون الى 450 فولط لن تتجوز نسبة ضئيلة جدا. تبدو أيضاً نتائج اختبار سجن ستانفورد متوافقة مع اختبار ملغرام فقد تحول 33% من السجانين الى ساديين (واحد من كل ثلاثة) وتقمصوا وظيفة السجانين بكل ابعادها.
فهل هذه النتائج تؤيد بالفعل، كما يبدو لأول وهلة، الفكرة التي تقول بأن البيئة أو الواقع الذي وضع فيه هؤلاء، هو الذي سبب سلوك الأفراد في الاختبار، أكثر من أي شيء موروث في شخصياتهم؟ لا شك أن البيئة التي يتواجد فيها الشخص تؤثر بشكل كبير على ادائه، ولكن هنا يطرح السؤال التالي، المشتق من دور البيئة، وهو؛ هل سلوك كل الأفراد متشابه عندما يوضعون في نفس البيئة؟ التجربة تثبت أن هناك فروقاً بين سلوك الأفراد، حتى وإن وضعوا بنفس البيئة ، وهذا ما نراه في الاختبارين السابقين ،فمن المشتركين في تجربة ملغرام من وصل الى 300 فولط ومنهم من وصل الى 450 فولط، وكذلك في تجربة سجن ستانفورد، منهم من تحول الى سادي، ومنهم من لم يصل الى هذه الدرجة من القسوة مع ان جميع من ذكرناهم عايشوا تقريبا نفس البيئة، وهنا يدخل دور الصفات الموروثة في شخصياتهم لتفسير هذا الفارق بالسلوك، أي أن أداء الفرد ليس محكوما فقط بالبيئة وإنما بالصفات الشخصية التي يمتلكها ، وفي الحالة التي ندرسها نتكلم عن كمية الشر الكامنة في داخله، والتي من الممكن أن تخرج وتتحول الى سلوك شرير ،في حال وجد في بيئة شريرة.
ولكن، أيضاً، هل يكفي أن يتواجد شخص ما شرير، في بيئة ما شريرة، لكي يسلك سلوكاَ شريراً ؟،أم أن هناك عوامل أخرى يجب أن تتوفر حتى يتحول الشر الكامن داخل الأفراد، في بيئة شريرة، الى فعل شرير، كما رأينا في تجربتي ملغرام وسجن ستانفورد، وكما نرى أيضاً في الواقع المعاش؟ لا شك، أن المؤسسة أو السلطة أو الأيدلوجيا التي يعمل باسمها الشخص تلعب دوراً نفسياً مهماً في سلوكه، وتزوده بالقوة على القيام بالفعل العقابي كالذي قام به المعلمون في تجربة ملغرام. وكذلك السجانون في تجربة سجن ستانفورد، حيث يعتبر السجان ممثلاً لمؤسسة ومدعوماً من قبلها، وهذا يجعله يتمادى في قمع السجناء. فلقد رأينا في تجربة ملغرام أنه عندما تغير مكان اجراء التجربة تغيرت نسب الانصياع وهذا يفسر لنا أهمية المؤسسة التي تقف من وراء الفعل.
إن حقيقة ما أقدم عليه المعلمون والسجانون، في الاختبارين السابقين، من تعذيب الطلاب والسجناء يكمن في مفهوم ادراكهم "للمسؤولية "التي يتحملها الأشخاص الذين يقومون بهذا الفعل، أي مبدأ المحاسبة. فعندما يشعر الشخص أن المسؤولية لا تقع عليه بشكل مباشر، وهناك مؤسسه أو ايدلوجيا مسيطرة ، كالفكر الديني مثلاً، تقف من ورائه عندها يطلق العنان لمكامن الشر في نفسه لحدود لا يمكن تخيلها ،كما حصل في الاختبارين السابقين وكما يحصل في أفرعة الأمن والسجون السورية ، فعندما يذبح أي شخص من داعش شخصاً آخر، يكون مقتنعا أنه ينفذ ارادة الهية ضد شخص يستحق هذا القصاص. أما اذا كانت المسؤولية تقع يشكل مباشر عليه عندها ستكون النتائج مختلفة. إذاً نحن بحاجة لمتغير ثالث حتى يتحول الشر الكامن في الأفراد المتواجدين في بيئة شريرة الى فعل شرير وهو "مستوى المسؤولية"، أي مدى إحساس الأفراد بالمسؤولية التي تقع على عاتقهم نتيجة للفعل الذي يقومون به.
يعتقد زيمباردو إن إساءات شبيهة بتلك التي حصلت في اختبار سجن ستانفورد، حصلت عندما تم تعيين جنود أمريكيين غير مؤهلين بما يكفي ليعملوا كحراس في سجن أبو غريب، وقد نوقشت المقارنة بشكل موسع في وسائل الإعلام(17). إن انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في سجن أبو غريب، في أعقاب حرب العراق 2003، تعتبر تطبيقا نموذجياً لاختبار سجن ستانفورد. ولكن السؤال هو , لو كان نفس السجانين متواجدين في سجن أمريكي، هل كان اداؤهم مشابهاً لما فعلوه بسجن ابو غريب؟ اعتقد أن الجواب هو بالنفي، لأن البيئة تغيرت ومستوى المسؤولية تغير أيضاً، وبالتالي حتى لو كانوا شريرين لما استطاعوا أن يحولوا الشر الكامن فيهم الى سلوك شرير ، وذلك بحكم المسؤولية التي تقع على عاتقهم في بلادهم.
لإيضاح فكرة المسؤولية وتأثيرها على الفعل الإنساني نترك التجربتين السابقتين لبرهة، ونعرج على ما أورده الدكتور محمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن " ،حيث فرق بين البشر والإنسان، فالبشر يعبر عن الوجود الفيزيولوجي لكائن حي له صفة الحياة كبقية المخلوقات الحية .(18) ويضيف الدكتور شحرور أنه؛ عندما بلغ البشر مرحلة متقدمة من التطور العضوي ونضج ، اصبح مؤهلا لنفحة الروح ( الأنسنة) وهذا التأجيل كان في ظاهرتين رئيستين هما: انتصاب الإنسان على قدميه وتحرير اليدين، ونضوج جهاز صوتي خاص به، وهذا الجهاز قادر على اصدار نغمات مختلفة بعكس بقية المخلوقات التي تصدر نغمة صوتية واحدة... (19) ويضبف الدكتور شحرور إن الآية الكريمة " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون ( البقرة 30) تعبر عن احتجاج الملائكة على الله عز وجل، والذي جاء على اساس معلومات مشاهدة، أي أنه عندما كان البشر ما يزال في مملكة الحيوان قبل الأنسنة، ولكنه قائم على رجليه، وله جهاز صوتي قادر على التنغيم المختلف، وكان تصرفه كالبهائم ،أي يأكل اللحوم وله أنياب ،وربما كان يأكل بعضهم بعضا. (20)
اذاً؛ عندما تحول البشري الى انسان، اصبح "مسؤولاً "عن أعماله، يحاسب عليها، يعاقب أو يثاب، عندها بدأ الإنسان يطور آليات للسيطرة على غرائزه الحيوانية ويضبطها، وانتج مع تطوره منظومة اخلاقية تتنافى مع صفاته البشرية القديمة، وتنسجم مع انسانيته الجديدة. ولكن عندما يشعر الإنسان أنه ليس مسؤولاً عن أعماله، يعود الى طبيعته البشرية البهيمية ويتصرف كالبهام، فيعذب ويقتل ويغتصب وينحر بالسكاكين ويصدر اصوات الفرح والقهقهة، تماما كما يفعل من يلقون بالبراميل المتفجرة فوق رؤوس المدنيين وهم يقهقهون، وكما يفعل قناص عندما يسدد بندقيته على امرأة حامل، ويقول لرفيقه أنه سيصيب الجنين في رأسه، وكما يلقي الطيار بقنابله فوق رؤوس المدنيين، وكما يعذب السجانون السجناء حتى الموت ....
لقد لخص بروفيسور يشعياهو لايفوفتش ،وهو من أهم المفكرين اليهود في القرن العشرين، فكرة المسؤولية ،عندما وقف بحزم ضد الغزو الإسرائيلي للبنان، حيث قال: إن من يتذرع من الجنود الإسرائيليين بحجة أنه جندي ويجب عليه تنفيذ أوامر قادته، وأنه ليس مسؤولاً عن قتل المدنيين في لبنان ، يجب أن يعلم ؛ أنه نفس العذر، الذي ساقه ايخمان خلال محاكمته، على أنه عندما كان يقتل اليهود، كان ينفذ أوامر هتلر، وكان مجبراً على فعل ذلك، ولذلك هو ليس مسؤولا عن القتل. ويضيف لايفوفتش؛ إذا قبلنا عذر الجنود الإسرائيلببن، ابان الغزو الإسرائيلي للبنان، كان يجب أن نقبل أيضاً عذر ايخمان عنما قام بقتل اليهود تنفيذاً لأوامر أُصدرت اليه . وأضاف؛ أنه يجب على الجنود، أن يرفضوا كل أمر يتناقض مع ضمائرهم ،حتى لو خرقوا القانون وتعرضوا للعقاب.(21)
عودة الى اختبار ملغرام واختبار سجن ستانفورد، نرى أن المشاركين نفذوا الأوامر بحذافيرها، ولم يرفضوها، مع انها تتعارض مع ابسط القيم الإنسانية. ولكن في اختبار ملغرام وجدنا أيضا أنه عندما كانت العلاقة مباشرة مع الضحية، انخفض مستوى الانصياع للأوامر الصادرة عن السلطة، وبالعكس ، عندما كانت العلاقة مباشرة مع السلطة ازداد مستوى الانصياع. أي أن مستوى الخضوع تراجع عندما :
- صاحب القرار اعطى التوجيهات من خلال الهاتف ولم يكن موجوداً خلال التجربة.
- عندما تغير مكان اجراء التجربة.
-- الطالب كان موجوداً في نفس الغرفة مع المعلم، والمعلم رأى بأم عينيه مدى تأثير التعذيب عليه.
نلاحظ هنا أن كل التغيرات بمدى الانصياع للأوامر مشتقة من متغير آخر هو "مستوى المسؤولية " التي يشعر بها المشارك تجاه ما يقوم به من فعل مناف لأبسط قواعد الأخلاق تجاه الضحية. فعندما يأخذ الأمر عبر الهاتف يزداد احساسه بالمسؤولية، لأنه يقف وحيدا أمام الضحية، فينخفض مستوى الانصياع، أما عندما يأخذ الأمر من شخص موجود معه في نفس المكان، يزداد انصياعه، لأنه يشعر بقدر أقل من المسؤولية تجاه ما يحصل للضحية. وكذلك عندما يتغير مكان اجراء التجربة، ويشعر الفرد أن المؤسسة التي تقف وراءه لا تستطيع أن تحميه. لذا نرى أن هناك علاقة عكسية بين المتغيرين: الأول هو: مستوى المسؤولية، والثاني هو مستوى الانصياع، فكلما يزداد الإحساس بالمسؤولية تجاه الضحية، يقل مستوى الانصياع للأوامر وبالعكس.
بالمقابل، الإحساس بالمسؤولية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بفعل الأنسنة، والتي هي نفحة الروح عند المؤمنين، والطفرة عند داروين. فعندما ينتفي الشعور بالمسؤولية، تجاه فعل اجرامي يقدم عليه الإنسان، يعود الى طبيعته البهيمية البشرية، والتي تحوله الى ابشع من الحيوانات الضارية والمفترسة، وهذا ما يفسر لنا أفعال هؤلاء الشريرة. لذلك البيئة التي تتوفر للقاتل تؤثر يشكل كبير على ادائه، خصوصا عندما نتكلم عن اجرام منهج تقف وراءه مؤسسة، وعندما يشعر الذي يقوم بالفعل أنه جزء من تسلسل وظيفي يتموضع في اسفله، عندها يصبح احساسه بالمسؤولية تجاه الضحية شبه معدوم، خصوصا إذا ترافق هذا الفعل مع ايدولوجيا معادية.
اضافة الى ما ذكر حتى الأن، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار نتيجة أخرى لاختبار ملغرام، كانت من احدى النسخ ال 19 للتجربة التي اجراها، فعندما أجري هذا الاختبار بطريقة أخرى، حيث أُدخل مجموعة من الأفراد كمعلمين، واتفق مع قسم منهم ان يرفضوا المهمة بتوجيه صعقة كهربائية للمتعلم أي الممثل، لدراسة مدى تأثير قرار هؤلاء على المشاركين الآخرين، الذين لا يعلمون بالاتفاق، فكانت النتيجة انسحاب 90% من المشاركين الذين يتم عليهم الاختبار، أي الذين لا يعلمون بالاتفاق. وهنا يُسئل السؤال، ما الذي تغير وجعل هؤلاء ينسحبون؟ طبعاً هذه الظاهرة معروفة في علم النفس الاجتماعي، وهي تأثير سطوة أثر الجماعة على الفرد، وتظهر في قابلية الأفراد إلى الانصياع إلى قرارات معينة، بغض النظر عن صوابها من خطئها في ظاهرة تسمى بسلوك القطيع. (22). لقد درس هذه الظاهرة سولومون آش (Solomon Asch) في تجاربه التي عرفت ب (Asch conformity experiments) أو Asch Paradigm) ( .(23)
إن مبدأ الانصياع للجماعة له أيضاً تأثير كبير على فعل الشر، فعندما يتواجد مجموعة سجانين يقومون بفعل مناف للأخلاق، تتوزع المسؤولية على الجميع، وهكذا يشعر كل فرد من المجموعة بمستوى من المسؤولية أقل مما لو كان منفرداً، وينساق مع الجماعة في الفعل الإجرامي، خصوصاً إذا ترافق ذلك مع وجود مؤسسة تقف وراءهم وتعطيهم الأوامر للقيام بهذا الفعل، وهذا ما يفسر لنا سلوك السجانين الجماعي في فعل الشر. وهنا نرى أيضاَ أن المسؤولية هي حجر الزاوية في سلوك الأفراد، فعندما يقل الإحساس بالمسؤولية لوجود فعل جماعي، يزداد الميل الى اتباع الجماعة بما يقومون به.
خامساً: مفهوم المسؤولية في السلوك الشرير بين النظرية والتطبيق
نعود من جديد الى المدخل النظري لنستعرض فكرة المسؤولية وفقاً للنظريات التي عرضت هناك وكيف تفسر هذه النظريات مسؤولية الإنسان عن عمله؟ وكيف يؤدي هذا الفهم الى تغيير سلوك الإنسان؟
1- النظرية الدينية:
نعود الى الفكر الديني الذي يتبنى فكرة ابليس، الذي يجسد مصدر الشر في هذا العالم، بغض النظر عن الأديان، فكل الأديان السماوية، متفقة على أن ابليس هو مصدر الشر في هذا الكون . فلنتخيل للحظة أن ابليس قبل السجود لآدم، عندها سينتفي الشر من العالم، وبهذه الحالة سيصبح الخلق جميعهم في الجنة، لأن ماهية الجنة هو "عالم بلا شر"، ليس فقط شر البشر، وإنما أيضا شر الطبيعة المتمثل بالفيضانات والبراكين والهزات الأرضية والأمراض.... واذا كان الأمر كذلك لفسد النظام الذي أراده الخالق في الحساب والثواب والعقاب، ولذلك اقتضت مشيئة الله، أن يتواجد الشر في هذا الكون، ليدخل في صيرورة الجدل مع الخير داخل النفس البشرية، حتى يصبح مبدأ الثواب والعقاب والجنة والنار جائزاً. ويترافق مبدأ حرية الاختيار عند الإنسان بين الخير والشر، مع مبدأ المحاسبة على هذا الاختيار؛ أي "مسؤولية الخيار".
للتوضيح سنستعير ،في هذا السياق، من أرسطو فكرة الوسط الذهبي، والتي تقول إن الفضيلة تكمن في الوسط بين نقيضين فيقول أرسطو:" فكما أن كثرة الأطعمة تفسد الصحة، فكذلك قلتها عن الحد اللازم. فالأمر كذلك بالنسبة للفضائل الإنسانية كالعفة والشجاعة وغيرهما "إن الإنسان الذي يخشى كل شيء، ويفر من كل شيء، ولا يستطيع أن يحتمل شيئا هو جبان، والذي لا يخشى البتة شيئًا، ويقتحم جميع الأخطار هو متهور. كذلك الذي يتمتع بجميع اللذات ولا يحرم نفسه واحداً منها، هو فاجر. وهذا الذي يتقيها جميعًا بلا استثناء، كالمتوحشين سكان الحقول، هو بنوع ما، كائن عديم الحساسية. وذلك بأن العفة والشجاعة تنعدمان على السواء إما بالإفراط وإما بالتفريط، ولا تبقيان إلا بالتوسط. (24)
استناداً لهذا الفهم، نستطيع أن ندعي وفقاً لأرسطو ، أن الشجاعة فضيلة، لأنها الوسط الذهبي الذي يتوسط نقيضين، وهما الجبن والتهور، وكذلك العفة، لأنها تتوسط الفجور وعدم الحساسية، والكرم فضيلة، لأنه هو الوسط الذهبي بين البخل والتبذير، وهكذا...ويضيف أرسطو ". الفضيلة ليست غاية لسلوك الإنسان، وإنما هي وسيلة لغاية أسمى هي السعادة، ولذا فإن الفضائل إرادية وتتعلق فينا، وكذلك الرذيلة تتعلق فينا أيضًا، وإذا كان إتيان الفعل الصالح يتعلق بنا فإنه يتعلق بنا أيضًا ترك الفعل المخجل." (25)
من هنا إذا اسقطنا فكرة ارسطو على الخير والشر، فيمكننا الادعاء إن الملائكة بالمفهوم الديني تجسد الخير بتمامه، وبالمقابل يمثل ابليس فكرة الشر بتمامه، أما الإنسان فهو الوسط الذهبي، والذي يمثل عالم المساواة. فعندما يولد الإنسان تتساوى بنفسه قوتا الخير والشر وهو، أي الإنسان، صاحب القرار في تغليب أحدهما على الأخرى عن طريق أفعاله وسلوكه إن كان خيراً أو شراً، وبه تكمن الفضيلة، أي بالإنسان، لأن الخير فيه هو أحد خيارين، أما الملائكة فلا خيار لهم سوى الخير، وأما ابليس فلا خيار له سوى الشر. ولذلك عندما يقدم الإنسان على فعل الخير يجب أن يثاب عليه ، وعندما يقدم على فعل الشر يعاقب عليه.
وهنا يدخل مفهوم المسؤولية في المنطق الإلهي، فلكي يجوز الحساب، أصبح كل مخلوق مسؤولاً عن أعماله أمام الخالق يوم الحساب، يعاقب أو يثاب، وذلك وفقاً لأعماله في هذه الدنيا. فبقدر ما تكون أفعاله قريبة من الخير وبعيدة عن الشر يثاب والعكس بالعكس. فلو علم الإنسان، أنه غير مسؤول عن أعماله، لأطلق لنفسه العنان لشهواته الدنيوية بكل اشكالها، ولطغى الجانب الحيواني البهيمي على افعاله، وابتعد عن انسانيته، والدليل على ذلك انماط الحياة التي كانت سائدة قبل الإيمان بوجود خالق لهذا الكون، وإيمانهم أن الله سيقوم بعقاب المسيئين وإثابة المحسنين. وبمفهوم الدكتور محمد شحرور سيكون بشرباً أكتر من كونه انساناً. من هنا نستنتج أن مبدأ المحاسبة والمسؤولية هو القادر على تحسين مسلك الإنسان وتحويله الى مسلك أخلاقي.
2- التحليل النفسي عند فرويد:
كبف يمكن أن نفهم "المسؤولية" وفقا للتحليل النفسي عند فرويد؟ يقول فرويد إن النفس الإنسانية تتألف من (الهو "Id" – الأنا "Ego" – الأنا الأعلى "Superego"). إن ال- Id يعبر عن الغرائز في الإنسان: فهو متهور، عنيف، غير أخلاقي، خارج عن حدود اللياقة والأدب، لا يعترف بالتقاليد والعادات، كل ما يهمه هو أن تحقق له رغباته، دون أن يسأل: كيف، ومتى. فهذا لا يهمه، كل ما يهمه هو أن يشبع رغباته بأية طريقة وبأي ثمن(26). باختصار يعبر عن الجانب البهيمي في الإنسان او ما يمكن أن نسميه النفس الحيوانية.
بالمقابل ال "Superego" الأنا العليا، هو مجموع العادات والتقاليد والأخلاق التي يتعلمها الإنسان من أهله ومجتمعه. فهو على الغالب: متزمت، متسلط، دغمائي، مثالي للغاية، ينقاد للعادات والتقاليد بشكل أعمى، ويحب أن يكون كل شيء على النحو الأكمل والأمثل، والأكمل والأمثل بالنسبة إليه هو ما يراه المجتمع فقط بصرف النظر عن رغباته هو، سعادته الكاملة تكمن فيما يقبله ويرضاه الآخرون (المجتمع)(27)
أما ال الأنا ال "Ego" فهو الذي يوازن بين متطلبات النفس الحيوانية والبيئة الخارجية وهو: عاقل، متزن، واقعي يحاول إشباع رغباته بالمنطق وبالقدر المعقول، وفي الوقت الذي يسمح بذلك، إلا أنه قد يتجاوز عن رغباته لفترة حين لا يسمح الظرف، وقد يتنازل عن تحقيق رغباته إذا شق عليه ذلك. (28)
من هنا فالمسؤولية عند الإنسان تتموضع في الأنا العليا ، ويعبر عتها سلوكاً في الأنا ،التي تلجم الهو وتمنعه يأن يتمادى في بهيميته، حتى لا يعود الى يشريته بمفهوم الدكتور محمد شحرور. ولكن إذا سيطر الهو على النفس البشرية، وانطلق من عنانه، فيحول الإنسان الى حيوان ضارٍ، ممكن أن يرتكب أي فعل لإشباع رغباته. فسوف يلجأ مباشرة إلى إشباع حاجاته الأساسية دون الحاجة للتفكير بعوائق: الخير والشر والخطأ والصواب.

3- النظرية السلوكية:
النظرية السلوكية، وكما ورد في المدخل النظري، تعتبر أن البيئة هي التي تصيغ سلوكنا عن طريق التعلم، فكيف يمكن أن نفهم المسؤولية ودورها وفقاً لهذه النظرية؟
يعرفه سكينر (Skinner) السلوك بأنه مجموعة استجابات ناتجة عن مثيرات المحيط الخارجي، و هو إما أن يتم دعمه و تعزيزه فيتقوى حدوثه في المستقبل، أو لا يتلقى دعماً فيقل احتمال حدوثه في المستقبل. تغير السلوك هو أيضاَ نتيجة و استجابة لمثير خارجي(29). من خلال تجارب ثورندايك (Thorndike) أيضاً يبدو أن تلقي التحسينات والمكافآت بصفة عامة يدعم السلوك ويثبته، في حين أن العقاب ينتقص من الاستجابة وبالتالي من تدعيم وتثبيت السلوك. ويؤكد سكنر على أهمية المعزّزات الإيجابية، مثلما يعترف بوجود المعزّزات السلبية، ويرى أن التعزيز يتم عن طريق تقديم المعزّز الإيجابي أو عن طريق استبعاد المعزّز السلبي. أي أن الكائن الحي يتعلم الاستجابة بعدة أساليب، تقديم المعزّز الإيجابي أو استبعاد المعزّز السلبي، أو الإثنين معاً.
ويتوقف سكنر للتمييز بين ما يعنيه بالتعزيز السلبي والعقاب، فالثواب يأتي نتيجة حذف المعزّز السلبي. أما العقاب فهو أسلوب معاكس، إنه يعني تقديم معزّز سلبي(الضرب، التوبيخ، الصدمة الكهربائية...). ولذا فإن الآثار التي تتركها الحالتان مختلفة. فإذا كان التعزيز يقوي إمكانية صدور الاستجابة المطلوبة، فإن العقاب لا يقود حتماً إلى إضعاف إمكانية حدوث الاستجابة غير المرغوب فيها.(30)
ولتوضيح النظرية السلوكية في الاختبارين؛ أي اختبار ملغرام وسجن ستانفورد، يمكننا القول، إن السجانين في السجون يتعاملون مع السجناء عن طريق التعزيز السلبي ،من أجل تعزيز سلوك الخضوع وعدم التمرد، فهم يعيدون لهم امتيازاً بعد أن حرموهم منه، كتعزيز سلبي للسيطرة عليهم، كتقديم الماء أو الطعام بعد حرمانهم منه لفترة تضعفهم، ولكن تبقيهم على قيد الحياة، فتتحول ابسط حقوق الأنسان، الى مكرمة، كما حدث في تجربة سجن ستانفورد. اما الصدمات الكهربائية في تجربة ملغرام يصنف كعقاب على الخطأ، وهو لا يقوم بتعزيز السلوك التعليمي، ولكن طبعا هذا كان الهدف المعلن للتجربة، ولكن في حقيقة الأمر ،كان ملغرام يختبر سلوك المعلم وقبوله بتنفيذ تعليمات مناقضة لضميره صادرة عن جهة مسؤولة.
ان النظرية السلوكية تعتبر أن كل سلوك هو مكتسب ونتعلمه وفقا للتعزيزات التي ذكرناها سابقاً، وبالتالي عدم الإحساس بالمسؤولية تجاه ما يقومون به من أعمال، هو احساس اكتسبوه من خلال تعلم السلوك السادي، ومن خلال التعزيز الإيجابي أو السلبي الذي يتلقاه السجان في تجربة سجن ستانفورد، أو المعلم في تجربة ملغرام. فهو يتعلم أن هذا السلوك مرض لمن يعطونه الأوامر، وبالتالي هذا يعزز عنده هذا السلوك السادي في المرات القادمة . أما إدراك السجانين أنه لا يوجد عقاب على هكذا فعل، هو أيضا تعزيز سلبي، عن طريق ابطال أي عقاب أو محاسبة للسجانين، وهذا بدوره يعزز السلوك الشرير أيضاً عندهم بانعدام المسؤولية عن سلوكياتهم العنيفة. اضافة الى ما ذكر، يجب أن نؤكد أن عمل السجانين بمجموعات يعزز عندهم مبدأ الانقياد، حتى إذا كان لبعض الأفراد رأي مختلف، فهم لا يستطيعون المجاهرة به وفقاً لتجربة أش التي أتينا على ذكرها سابقاً.

4- النظرية الإدراكية (علم النفس المعرفي):
تعتمد هذه النظرية على طريقة فهم الإنسان لواقعه، فكل فرد يفهم واقعه بطريقته، وفقاً لرؤيته الشخصية، ولذهنيته، ولما تخزنه ذاكرته من تجارب، هذه النظرية تركز على اكتشاف العمليات الذهنية الداخلية. حيث يدرس هذا العلم كيف يقوم الناس بالتفكير ، والإدراك و التذكر، والتحدث، وحل المشكلات. علم النفس المعرفي يقر بشكل واضح بوجود حالات ذهنية داخلية مثل الإيمان، الرغبة، الفكرة، المعرفة، والدافع. من هنا فإن نظرة الإنسان وطريقة فهمه لما يدور حوله هي التي تقرر طريقة تصرفه وبكلمات أخرى ليست البيئة التي تقرر سلوكنا كما في النظرية السلوكية وانما طريقة فهمنا لهذه البيئة.
ولكن ما يهمنا هنا، هو كيف يمكن أن تفسر النظرية الإدراكية سلوك السجانين الشرير وكيف تحولوا الى اشرار؟ مع أن السجانين في تجربة ستانفورد كانوا اصحاء من ناحية نفسية بالفحص الذي أجري لهم قبل الاختبار، ولم تظهر عندهم الأعراض التي ظهرت بعد ممارستهم لدورهم كسجانين، حيث تقمصوا الدور، وتحولوا الى اشرار عبر تقليدهم لشخصية السجان المخزنة في ذاكرتهم وفقاَ لنظرية المحاكاة عند بندورة (Albert Bandura). وهي إحدى نسخ النظرية المعرفية، حيث ترى هذه النظرية بأن السلوك العدواني، سلوك مكتسب يتعلمه الطفل من مصادر مختلفـة، من أهمها القدوة، حيث يشير بندورا( Bandura) إلى أهمية القدوة، أو النموذج ،بالنسبة للطفل فـي تعلمه السلوك الاجتماعي، واكتسابه للاتجاهات أو أنماط السلوكيات المتعددة، وتفترض أن العـدوان لا يختلف عن أي استجابات متعلمة أخرى، ومن الممكن أن يتم تعلـيم العـدوان عـن طريـق الملاحظة أو التقليد، وكلما دعم السلوك زاد احتمال حدوثه (31) .من هنا فإن تفسير هذه النظرية للسلوك الشرير والمسؤولية يتمحور حول محاكاة نماذج قامت بهذه الأدوار ولم تتحمل أية مسؤولية عن فعلها هذا، فهذا يعزز عند المراقب فكرة تقمص نفس الدور، لأنه رأى نتائجه المشجعة في نسخ أخرى.
5- النظرية الوجودية:
يقول المبدأ الأساسي في الفلسفة الوجودية أن قيمة الوجود والطبيعة البشرية قد لا يمكن فهمهما من خلال العلوم الطبيعية والاجتماعية مثل الطب والفيزياء وعلم النفس والكيمياء، أو حتى من خلال الاتجاهات الأخلاقية الموجودة في التقاليد الاجتماعية وفي الأديان عند بعض المفكرين الوجوديين، لكن كل هذا يمكن أن يوجد من خلال الأصالة والحرية وإثبات الإنسان للقيم والمعاني الموجودة في حياته، من خلال التجربة والأفكار الذاتية، دون التقيد بكافة الأفكار السائدة عن الحرية الإنسانية، وأن الضمير الإنساني هو المحرك الأول، وأن لكل إنسان قانون أخلاقي يمكن من خلاله أن يعرف الخير من الشر، وأن الإنسان قادر على التغلب على الفساد والدمار الذي يحدث من خلال التكنولوجيا والتحركات السياسية الكبيرة. كذلك فإن الفلاسفة الوجوديين يؤمنون بأنه لا توجد مُثل عليا موجودة في العالم منذ الأزل، وأنه لا يوجد ترتيب مكون لكافة الأشياء الموجودة في العالم أو في حياتنا، لا يوجد قدر محدد سلفًا، وأن الإنسان قادر على التغيير من قدره ومن كافة الأشياء التي تحدث من حوله، وأنه غير مجبر، وقادر على إيجاد المعاني في أفعاله الروتينية المختلفة، طبقًا للوجودية فإن الإنسان يحتاج إلى أن يعوض النقص الموجود في المعاني بابتكاره للمعاني الخاصة.(32)
وتتلخص إذاً مبادئ الوجودية في النقاط التالية:
1- الانطلاق من الذات التي هي مركز المبادرة ومقر الوجدان والشعور.
2- الإنسان موجود متكامل بعقله ومشاعره، وجسده وروحه.
3- المعارف والخبرات نسبية دوماً، ولا توجد حدود حاسمة نهائية لها؛ بل تبقى فيها ثغرات، وليس هناك حقيقة مطلقة.
4- تشتبك الذات الفردية بالعالم الخارجي اشتباك تفاعلي، وكل من هذين الطرفين شرط لوجود الطرف الآخر؛ وهذا هو الواقع.
5- للواقع المعاش، أي الراهن، أهميةٌ مركزية. اليوميّ هو المهم ولا عبرة للماضي لأنه غير موجود، أما المستقبل فيجب أن نوجده، وشعار الوجوديّ:(أنا الآن وهُنا)، والفرد متواصل مع العالم الخارجي من خلال وجوده وحواسّه ومشاعره وجسده.
6- الحريّة لديهم هي الوجود الإنسانيّ، ولا إنسانية من دونها، والحرية لدى الوجوديين تعمل ضمن المعايير الفرديّة لا ضمن المعايير الأخلاقية والسياسية والدينية السائدة.
7- يتخذ الفرد قراره وموقفه. وهذا الموقف ذو قيمة مستقبلية لأنه اتجاه في عملية تجديد المستقبل حين تتلاقى القناعات والمواقف في نقطة واحدة.
8- ترفض الوجودية كلّ الأشكال الجاهزة والموروثة والسائدة لأنها قيود تحد الحرية الفردية، ولذا فهي ترفض الدين.
9- هنالك وجوديات عديدة، بعدد منظّريها، ولكنها تتفق جميعاً في التركيز على موضوعات أساسية مثل: الحرية، الموقف الإرادي، المسؤولية، الفرد، الإثم، الاغتراب، الضياع، التمزّق، اليأس، السؤوم، الاستلاب، الخيبة، الرفض، القلق، الموت...(33)
اذاً هي نظرية تنطلق من الذات وتتمحور حول الإنسان ككائن حر ، يصنع واقعه بيده ويصيغ مستقبله، وهو مسؤول عن أعماله، ولذلك ووفقاً للنظرية الوجودية ؛ الخير والشر خياران انسانيان، ويتحمل الإنسان الحر مسؤولية خياراته. وبكلمات أخرى ،فإن كل ما يقوم به الإنسان من فعل، سواء كان خير اً أو شراً هو خياره بامتياز. الواقع ، وفقاً للوجوديين كما ذكر سابقاً، هو اشتباك الذات الفردية بالعالم الخارجي، أي البيئة، اشتباك تفاعلي ، وكل من هذين الطرفين شرط لوجود الطرف الآخر؛ وهذا ما يعنيه الوجوديون بالواقع، فالشخص هو الذي يخلق واقعه سواء كان خيراً أم شراً، ويجب أن يتحمل مسؤولية خياراته. بهذا المعنى ينفي الوجوديون تأثير البيئة على الفرد ويعتبرونها من صنعه. وكذلك يرفضون أي قيم خارجة عن ارادة الإنسان تحاول أن تفرض ماهيتها عليه. أما المسؤولية في النظرية الوجودية فهي مركزبة لأن خيار الفرد الحر مرتبط بالمسؤولية عن خياره . من هنا فإن السلوك الشرير هو خيار الأفراد وهم الذين يتحملون مسؤولية خياراتهم والأشخاص يتحولون الى شريرين بخيارتهم هم. فالسجانون أو المعلمون في تجربتي ستانفورد وملغرام أقدموا على أعمالهم الشريرة بحكم خياراتهم ،وعايشوا هذا الواقع الذي أنتجوه بمحض ارادتهم، أي كان من صنعهم، وبالتالي يتحملون المسؤولية عن كل ما قاموا به من فعل شرير. اذاً الذي يحول الإنسان الى شرير هو خيار الشر النابع من ذاته والذي اختاره لنفسه.
6- النظرية العصبية البيولوجية
تفترض هذه النظرية ، إن الوراثة والعوامل الجينية من العوامـل الهامـة المسـببة للعدوان وأكدت تلك الدراسات التي أجريت على التوائم أن الاتفاق في الإجرام بين التوائم المتماثلة أكثر من غير المتماثلة، ولوحظ أن السلوك العدواني المضاد للمجتمع يكثر بين الأفـراد الذين لديهم الجين الوراثي (xyy) وقد دللت عدد من التجـارب التـي أجريـت علـى الغـدة الهيبوسلامية Hypothalamus الموجودة في قاع المخ بالتيار الكهربائي ، أنه تبدو على الكائن الحي جميع أعراض السلوك العدواني مع عدم وجود سبب يثير مثل هـذا السـلوك. ووجهـة النظـر البيولوجية، أن منطقة الفص الجبهي والجهاز الطرفي مسؤولان عن ظهور السلوك العدواني عنـد الطفل، وهذا ما أشارت اليه بعض النتائج، عندما تم استئصال بعض التوصـيلات فـي هـذه المنطقة ، مما أدى إلى خفض التوتر والغضب والميل إلى العنف، وأدى إلى حالة مـن الهـدوء والاسترخاء (34).
ساهمت العلوم البيوكيماوية في أبحاث العدوان والعنف، وركزت على النواحي الفسيولوجية وخاصة الاهتمام بمنطقة (الاميجدالا) (Amygdala) التي تعتبر من أهم المراكز المسؤولة عن العنف والعدوان في المخ. يوجد (اميجدالتان) كامنتان، واحدة في كل جانب من جانبي المخ باتجاه طرفي الجمجمة، وهذا النتوء اللوزي هو المسؤول عن الاحتفاظ بالمشاعر المتعددة، وهو أكبر نسبياً من نظيره في أقرب الثدييات منّا في التطور. فعندما ترسل الاميجدالا إنذاراً من نوع ما، في حالة الخوف نتيجة ممارسة عنف مثلاً فإنها تبعث برسائل عاجلة إلى معظم أجزاء المخ التي تثير إفرازات في الجسم وهي عبارة عن هرمونات تجند مراكز الحركة وتنشط الجهاز الدوري (Cardiovascular-System) والعضلات والقناة الهضمية، كما تبعث دوائر كهربائية أخرى من الاميجدالا إشارة إفراز عاجلة إلى هرمون النوريبا ينفرين (Norepinephrine) لوضع مناطق المخ الرئيسية في حالة استعداد، فمثلاً في حالة الغضب: يتدفق الدم إلى اليدين ليجعلهما قادرتين بصورة أسهل على القبض على سلاح أو ضرب عدو. وتتسارع ضربات القلب، وتندفع دفقة من الهرمونات مثل هرمون (الأدرينالين) فيتولد كم من الطاقة القوية تكفي للقيام بعمل عنيف.(35)
من هنا نرى أن النظرية العصبية البيولوجية توعز العنف الى تفاعلات تحدث في دماغ الكائن الحي. طبعا الإحساس بالخطر يصل الى الدماغ عن طريق الحواس المعروفة النظر، السمع، الشم، اللمس والذوق عندها يدرك الدماغ أن هناك خطراً ويبدأ بتفاعلات كيمائية نؤدي الى أخذ الحيطة والحذر ووضع الجسم في حالتي الدفاع أو الهجوم. اذاً هناك مناطق في الدماغ مسؤولة عن اثارة العدوان عند الأنسان، فعندما تتحفز يتحول هذا الكائن العضوي الى كائن عدواني كما عند الحيوانات. إن تحكم الحالة العصبية البيولوجية في الإنسان تحوله الى الحالة البهيمية وتجعله يتصرف وفقها. وفي هذه الحالة ممكن أن يقدم على أي فعل شرير.
من هنا ووفقاً لهذه النظرية، فإن سلوك الشر ناتج عن التركيبة البيولوجية للإنسان، وعندما تتهيج مناطق محددة في الدماغ يتم فرز هرمونات تؤدي الى تحول الإنسان الى انسان عدواني وشرير. هذا التحليل ينسجم مع الفكرة القائلة أن الشر مولود بداخلنا، ولكن البيئة التي يتواجد فيها الشخص تحفز دماغه باتجاه توليد حالة الشر . من هنا يصبح الإنسان غير مسؤول عن عمله إلا من خلال فهمه للبيئة المتواجد فيها . فطريقة فهمه لبيئته هي التي تحدد ردات فعله، وهذا يعيدنا الى علم النفس المعرفي أو النظرية الإدراكية. وبالنتيجة تبقى هذه النظرية محاولة لتفسير ما الذي يجري بداخل ادمغتنا بيولوجياً وكيميائياً فهي تكمل النظرية المعرفية ولكنها لا تستطيع لوحدها ان تفسر فعل نفسي اجتماعي. فهي تتعامل مع ردات فعل الإنسان كما تتعامل مع أي كائن حي آخر محيدة قدرة الإنسان على ضبط فعله البهيمي.

خلاصة واستنتاجات:
بعد هذا الاستعراض لمسألة الشر، يمكننا أن ندعي أن الفعل الشرير نانج عن سلسلة من التفاعلات بين الأنسان وبيئته والعمليات الذهنية، التي تؤدي بالنتيجة الى السلوك الذي يأخذ اشكالاً متعددة، يبدأ بأقصى الخير أي سلوك ملائكي، وينتهي بأقصى الشر أي سلوك شيطاني، وبين هذين السلوكين هناك عدد لا متناه من السلوكيات، التي تحكمها نسب الخير والشر في الإنسان، فهي ليست شراً خالصاً وليست خيراً مطلقاً. فالسلوك الذي يغلب فيه الخير على الشر نسميه مجازاً سلوكاً يميل الى الخير ،والسلوك الذي يغلب فيه الشر على الخير نسميه سلوكاً يميل الى الشر. أم العمليات الذهنية فيقصد بها قدرة الإنسان الذهنية على ادراك ما يقوم بفعله، ومدى فهمه للمسؤولية الملقاة على عاتقه نتيجة هذا الفعل.
إن السلوك الإنساني محكوم بالمتغيرات التالية:
1- طبيعة الإنسان: يمكن لهذا المتغير أن يأخذ قيم لانهائية ،فهو يتحرك على محور من أقصى الخير الى أقصى الشر ، ولكنه يحتوي على قيمتين قصوتين متناقضتين( الخبر، الشر).
2-البيئة: التي يتواجد فيها الفرد، والتي يمكن أن تتحرك أيضاً قيمها بين الخير والشر، على محور من أقصى الخير الى أقصى الشر، بعدد لا نهائي من الحالات، ولكنها تحتوي أيضاً على قيمتن متناقضتين (الخير، الشر)
3- المسؤولية: وهي متغير ثالث أساسي، يتفاعل مع المتغير الأول والثاني ويحتمل قيمتين قصوتين ( محاسبة، عدم محاسبة)
4-السلوك: هو حاصل التفاعلات بين المتغيرات السابقة، ويمكن أن ينتج عنه عدد لا نهائي من السلوكيات، نختصرها في أربع سلوكيات جامعة؛ الأول سلوك الخير المطلق، ثانياً سلوك الشر المطلق، وبين هذين القطبين يوجد عدد لا نهائي من السلوكيات المركبة من نسب متفاوتة من الخير والشر، نختصرها بسلوك يغلب عليه الخير وهو السلوك الثالث، والمقصود به كل السلوكيات التي فيها نسب الخير أكثر من نسب الشر، أم السلوك الرابع فنسميه السلوك الذي يغلب عليه الشر أي كل السلوكيات التي فيها نسب الشر أكبر من نسب الخير.




بمكن تلخيص عملية أخذ القرار بالسلوك أياً كان نوعه بالمسار التالي:


تفاعل تفاعل



الفرد البيئة المسؤولية السلوك

شر خير شر خير محاسبة عدم محاسبة شرير خيّر يغلب عليه الخير يغلب عليه الشر
ح1    
ح2    
ح3    
ح4    
ح5    
ح6    
ح7    
ح8    

من الجدول السابق، يمكن أن نرى أن الشر المطلق ينتج في حالة واحدة فقط والمرموز لها في ح6 ؛ وهي عندما يجتمع الشر المطلق في الإنسان، مع الشر المطلق في البيئة التي يتواجد بها، ويدرك الشخص ويتأكد أن لا مسؤولية أو محاسبة تقع على عاتقه نتيجة افعاله، عندها يكون مؤهلاً للقيام بأي فعل عدواني مهما بلغ من قسوة، وهي حالة فريدة ووحيدة كما يتبين من الجدول أعلاه وهي لا تجتمع إلا في أعتى الدكتاتوريات فتاريخياً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن ان نراها في النازية الألمانية، والفاشية الإيطالية، والستالينبة السوفياتية والخمير الحمر الكمبودية واليوم تحدث في سجون النظام السوري. وهذا ما بفسر لنا سلوك الذين وصلوا الى 450 فولت في تجربة ملغرام، وهذا أيضاً ما يفسر لنا تحول ثلث السجانين في اختبار ستانفورد الى ساديين. وهذه هي الحالات القائمة في السجون السورية والتي حولت السجانين الى مجرمين وقتله يقتلون ويعذبون بدم بارد دون وازع من ضمير ، وهذا ما يفسر لنا كيف يمكن أن يلقي شخصاً ما برميلاً متفجرا على منطقة سكنية وهو يقهقه ، وهو نفسه ما يفسر لنا سيكولوجية الشخص الذي يذبح شخصاً أخر بالسكين أو يحرقه حياً وهو في قفص كما تفعل داعش.
ومما يزيد من شرور الأفراد التقاء الشر مع ايدولوجيا تبريرية، كالأيدولوجية الدينية مثلاً والتي يمكن ان تبرر للمؤمن ذبح الكافر، أو الحرب الطائفية أو الدينية التي يمكن ان تعتبر القتل هو تقرباً من الله وتنفيذاً لأمره. إن وجود مؤسسه او أيدولوجيا ينتمي البها الفرد ويعمل باسمها وتحت رايتها تشكل الغطاء الذي ينمي الشعور عنده أن ما يقوم به هو تنفيذ لأوامر فوقية وبالتالي لا يتحمل الفرد الذي يقوم بهذا الفعل أي مسؤولية.
أما الخير المطلق فينتج في حالتين (ح1،ح2) وهو سلوك مثالي يصبو اليه الإنسان، فعندما يصل الإنسان الى هذه المرحلة من التطور الخلقي فمتغير المسؤولية كما نرى لا يعمل، لأن الإنسان في هذه الحالة ليس بحاجة الى رقيب، فرقيبه هو ضميره والخير الذي يسيطر على سلوكه. إن هذه الحالة وصفت في النظرية الماركسية بالحالة الشيوعية، وفي فكر الفارابي بالمدينة الفاضلة ، وعند افلاطون في جمهوريته. أما ما تبقى من سلوكيات فنجدها في حياتنا اليومية وفي المؤسسات التي نتعامل معها ، فالسلوك الذي يغلب عليه الخير أو الشر هو السلوك الأكثر انتشاراَ في حياتنا.
على أساس ما ورد وحتى نتلافى الفساد والظلم والقمع والاستبداد في المستقبل، يجب ان لا نركن الى الطبيعة البشرية، ولذلك يجب أن يكون هناك جهاز محاسبة مستقل عن أي سلطة، في كل مؤسسة نريد لها التطور والنجاح. وهذا ينطبق على كل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، من أصغر مؤسسه كالأسرة مثلاً، وصولا الى مؤسسة الدولة، ومن هنا يجب أن يستحدث في دستور سوريا المستقبل، سوريا المدنية الديمقراطية، مؤسسة رقابة لا تخضع لأي سلطة الا الى سلطة القانون، ليتسنى لها القدرة على محاسبة المتجاوزين، وخلق روح جديدة من المسؤولية تساعد على بناء دولة القانون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد إسرائيل في شمال قطاع غزة هو الأعنف منذ إعلان خفض القوا


.. طفل فلسطيني برفح يعبر عن سعادته بعد تناوله -ساندويتش شاورما-




.. السيناتور ساندرز: نحن متواطئون فيما يحدث في غزة والحرب ليست


.. البنتاغون: لدينا بعض المخاوف بشأن مختلف مسارات الخطط الإسرائ




.. تظاهرة مؤيدة لفلسطين في بروكلين للمطالبة بوقف تسليح إسرائيل