الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غوستاف يونغ في محالة لفهم الإنسان المعاصر

مهدي جعفر

2017 / 6 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من أكثر العلوم التي تلقى مصنفاتها و دراساتها إقبالا كبيرا من طرف القراء هو علم النفس ، لما يعتقد الناس (خصوصا في مجتمعاتنا) بأنه علم يدرس شيء اسمه "روح" أو "نفس" و هذا خطأ شائع ، لذلك يجمل بنا أولا أن نصحح ما تخشب في عقول بعضنا خطأً ؛ عموما نؤكد أن العلم ابستمولوجيا -أي علم- لا يدرس شيء رمزي غير قابل للتجريب و الملاحظة و القياس و إعادة التحقق ، أو بكلمة "لا يدرس العلم شيء لا يدخل للمختبر" ، لذلك فبما أن الروح أو النفس شيء رمزي لا يمكن ملاحظته أو لمسه و بالتالي لا يمكن دراسته علميا ، فما موضوع دراسة علم النفس إذن ؟ هناك أكثر من 60 فرع تخصصي في البسيكولوجيا حسب الجمعية الأمريكية لعلم النفس ، إذ يدرس هذا العلم مجموعة من الموضوعات منها : دراسة السلوك الإنساني و الحيواني - الذكاء و اللغة - المخاوف - الإندماج و التكيف - التَّعلم - الإحساس و الإدراك و غيره من العمليات العقلية - الذاكرة ثم الأمراض العقلية كالفصام و الذهان و الصرع (...) و به يتضح أن موضوع علم النفس ليس رمزيا بل ظواهر سيكولوجية قابلة للقياس و الملاحظة و بالتالي الدراسة العلمية .

اخترنا في هذه المشاركة قراءة في أحد كتب مؤسسي علم النفس أو أحد فروعه ، و هو "كارل غوستاف يونغ" الذي ولد سنة 1875 في كسويل بسويسرا ، بحيث التقى مع "سيغموند فرويد" الغني عن التعريف ، لكن سرعان ما افترقا سنة 1913 نظرا لاختلافات نظرية بينهما في بعض التفسيرات السيكولوجية ، ما جعل يونغ يرسم طريق تفكيره السيكولوجي بعيدا عن أب "مدرسة التحليل النفسي" . إذ اختطت يداه الكثير من الكتب لعل من بين أكثرها قيمة كتابه الذي يحمل عنوان "التنقيب في أغوار النفس" ، الجميل فيه أنه يحمل أفكارا مستفزة و في حجم لا يتعدى 106 صفحات ، موزع على سبع فصول تتعالج مسائل اجتماعية و دينية و فلسفية من زاوية سيكولوجية .

يمكن أن نجمل أطروحة الكتاب كالتالي : " أن كارل يونغ يحاول فهم الإنسان بشكل عميق و غير علموي ناضح باللااعتبارية لسيكولوجية الإنسان ، ما يدفعه إلى التأكيد أن بقاء حضارة الإنسان تتوقف إلى حدّ كبير على سدّ الفجوة المتسعة بين جانبي الواعية و الخافية في النفس الإنسانية ، إذ يحذر بشكل جدي من اختزال الإنسان إلى أرقام و إحصاءات تُغَرِّبه عن كينونته باسم العلم ، ما يساعد الدولة على تغوله و الحد من فاعليته . بحيث وصف يونغ الإنسان مطولا ليُبيَّن أن و هو يعيش في عصر لم تعد تهدده فيه الكوارث الطبيعية ولا أخطار الأوبئة العالمية ، بات عرضة لأخطار التغيرات التي تحدث داخله ، فقط عندما يفهم الفرد ثنائية طبيعته -قدرته على إتيان الشرّ كقدرته على إتيان الخير- يستطيع أن يفهم ويكافح الخطر الذي يأتي من قبل من هم في السلطة ".

يستهل غوستاف يونغ كتابه كما هي عادة مؤسسي فروع العلوم الإنسانية "بالنقد" ، نقد المناهج العلمية في زمانه التي تدرس الإنسان بطريقة يراها يونغ اختزالية ، إذ ثرَّب (استنكر) بشدة المنهح الإحصائي الذي يساوي الإنسان برقم ليس إلا ، ما يجعل هذا المنهج يَعدم القدرة على تقديم صورة حقيقية للإنسان و للظواهر السيكولوجية بشكل عام ، هذا كميا أما نظريا فيؤكد يونغ أن معرفة النفس لا يمكن أن تتأسس على مسلمات نظرية ، هنا يقول: "تقدم لنا المناهج الإحصائية و العلوم بما فيها الطبيعية ، العالم و كأنه خال من البعد النفسي السيكولوجي عكس العلوم الإنسانية " ، ما يدفعه إلى التصريح بأن الرغبة في فهم الإنسان يجب أن يسبقها طرح لجميع المناهج الإحصائية و النظريات التخيلية جانبا ، و مقاربة الإنسان من زاوية عميقة أكثر ، هنا يقترح يونغ أن "معرفة النفس الإنسانية مسألة تحصيل معرفة وقائع فردية" ، غير أن "الدولة" في نظره تَعتور هذه المقاربة لتحصيل معنى الإنسان ، إذ تماهى معنى هذا الأخير مع الدولة و مقتضيات المجتمع ما شوه معناه أكثر فأكثر أو زاد بعداً على أبعاده ، نقتبس للقارئ توضيح ذلك بتعبير يونغ : "لم يعد هدف و معنى الإنسان كامنا فيه ، بل في سياسة الدولة التي تجنح إلى انتزاع حياته لنفسها" ، لا يتوقف الأمر هنا بل يمتد ليظهر في معالجة الإنسان سيكولوجيا ، ينبه يونغ و يربط تعقد ذلك بتعقد وضعية الطبيب النفسي مع المريض ، إذ يتلخص عَملُه في "فهم" الإنسان المريض قبل معالجته و هو أمر ليس باليسير .

ينتقل بعد ذلك يونغ إلى فصلين جميلين يحلل فيهما "المسألة الدينية" في علاقة ذلك مع الدولة الحديثة و المعرفة العقلانية ، و هو ما أصابني بدهشة خصوصا و أنني كنت أعتقد أن يونغ شخص "لاديني أو ملحد" كصديقه "فرويد" و أغلبية معاصريه من العلماء ، غير أن كتابه هذا يوضح مدى و شكل إيمانه ، إذ يشجب في الفصل الثاني بشدة حلول الدولة محل الله في أوربا خصوصا في شكل الدولة الإشتراكية السوفييتية ( لا يقصد بذلك العلمنة ) ، كما يستنكر قضائها على الفرد و على قواه الدينية عبر تجريده من الأسس الميتافيزيقية و الروحية لوجوده ، يقول يونغ في هذا الصدد "لا يجد الإنسان تبريرا حقيقيا لوجوده و لا لاستقلاله إلا عبر الإيمان بمبدأ غير دنيوي (أي ديني)" ، غير أن تحريف هذا المعنى بسبب بعث الدولة الحديثة أدى بيونغ إلى تمييز الدين religion عن العقيدة creed ، فالأول يعتبره علاقة شخصية مع الله و الثاني تعبير عن ايمان جمعي ، ما يجعله يلاحظ أن الدولة الحديثة نفخت في العقيدة بل تغولتها و ازدَرت (استهزءت أو حطت من قيمة) الدين ، يقول يونغ "إن الدين يعلم للناس سلطة أخرى غير سلطة الدولة" ، هذا التعارض يجعل هذه الأخيرة تستبعد الدين لكي تستفرد بسلطان الطاعة و جبروت السلطة ، ما يجعلها تجرم في حق الإنسان رمزيا و روحيا .

في الفصل الثالث يقارب يونغ "موقف الغرب من الدين" ، فهو يُقر بأن الدين قيمته تضاؤلت في أوربا و لم يصبح سوى عقيدة موروثة ، ما أصاب الإنسان الغربي بفراغ روحي دائما ما يَتخطَّفه على شكل أمراض نفسية و عقلية ، يلاحظ يونغ أن تضاؤل حضوة الدين جاء بعد تعاظم قيمة العلم و الفلسفة في أوربا ، ما جعل الأوربيين يسقطون في وهم إمكانية تعويض وظيفة العلم لوظيفة الدين ، إذ يؤكد يونغ أن "النقد العقلاني للدين لا ينفي وظيفته السيكولوجية الإيجابية" فالدين حسب رأيه يعمل على حفظ التوازن النفسي بين عالمين مادي و رمزي لا يفتئ التفرغ للإهتمام بأحدهما حصرا حتى يُحدث الآخر مشاكل فكرية وفلسفية و أكيد نفسية و وجدانية ، غير أن المصالحة بين هذين العالمين ليست بالسهلة خصوصا مع المعرفة العلمية التي لا تعترف سوى بالمادي و لا تصدق ما لا يصدقه العقل ، ما يجعل يونغ يؤكد أن الدين مستودع فكر لاعقلاني فعلا إلا أن إمكانية عقلنته قائمة ، كيف ذلك ؟ يقترح غوستاف يونغ تأويل الأفكار الدينية بشكل رمزي حتى نفك التناقض بين العقل و الدين ، يضرب المؤلف مثال قيام "السيد المسيح" من القبر بعد موته ، إذ يفضل يونغ الإعتراف بحصول ذلك بشكل رمزي ، و هو ما يولد معاني و أخلاق و قيم سامية مثلها المسيح عبر تسامحه و وعده بفداء و خلاص المؤمنين ، يحرض على ذلك بقوله: "ألم يحن الوقت لكي نفهم الميثولوجيا المسيحية فهما رمزيا بدل القضاء عليها نهائيا" ، معلوم أن الميثولوجيا هو علم الأساطير ما يوضح أن يونغ يعتبر القصص المسيحية أساطير ، غير أن لها معاني سامية تخلف في من يعتقد بها أثرا سيكولوجيا إيجابية ، هنا نختم بقولة يونغ البليغة : "إن الذي لا يتعلق بحبل الله لا يستطيع بالإعتماد على موارده الخاصة ، مقاومة ثقل العالم المادي و المعنوي" .

يَعرُج بعد ذلك يونغ في باقي الفصول إلى توضيح مقاربته لفهم الإنسان نفسيا ، فهو يوضح أن "الإنسان أكبر لغز بالنسبة لنفسه" ، من أجل فك هذا اللغز يقترح الكاتب شَطر (قََسم) الإنسان وجوديا إلى شطرين و هما : "الوعي= الواعية" الذي لا وجود للعالم إلا بمقدار ما ينعكس في الوعي و تعبر عنه النفس تعبيرا واعيا ، و الشطر الثاني هو "اللاوعي=الخافية" الذي تشكل معرفتنا عنه نسبة قليلة و هو ما يحاول يونغ تحصيل معرفة حوله في هذا الكتاب ، إلا أن فراغ معرفة علمية حول النفس يترك الساحة لتسرب معرفة خرافية أسطورية حولها ، ما يدفع يونغ إلى التأكيد على "إننا يجب تخليص علم النفس من الأفكار الميثولوجية (الخرافاتية)" ، كل ذلك من أجل معرفة علمية بـ"الخافية" الذي أكد فرويد ليونغ أن كشف أسرارها من أهم ما يجب توجيه البحث العلمي باتجاهه ، في سياق متصل يلاحظ يونغ أن الواقع دينامي (متغير) في حين أفكارنا التفسيرية له تبقى ستاتيكية (غير متغيرة) ، ما يخلق هوة بين الفكر و الواقع ، و هذا يتصل بالمعرفة السيكولوجية ، إذ يستنكر يونغ كيف أن المعرفة الحديثة أتبثت خافية و أن الإنسان المعاصر في مسلكياته و طرق تفكيره خصوصا العلمية لا يهتم إلا بالواعية ، فالخطر كل الخطر ينشىء من هذا الإنشطار الذي يصبح مرضيا في اللحظة التي لا تقوى فيه الواعية على إهمال الجانب الخفي الغرزي المقموع ، و هو ما يساعد على ظهور و تفاقم "أمراض العصر النفسية" .

ينبه كارل يونغ أن "داخل كل واحد منا شخصا آخر لا يعرفه" ، هامشيا فالعلم الحديث يتبث أن داخلنا شخوصا عديدة و ليس شخص واحد فقط ، فهناك أكثر من 70 نوع في الشيزوفرينية لوحدها (انفصام الشخصية) ، يلتقط بتعجب يونغ أن الفلسفة العقلية المعاصرة لم تكلف نفسها عناء سؤال "مدى توافق هذا الشخص الذي بداخلنا و هو الخافية مع مقاصدنا و نوايانا الواعية" ، إذ يعزي يونغ مشاكل العصر إلى هذا الفصام بين الظاهر و الباطن في النفس الإنسانية .

بعد ذلك يحاول يونغ التعريف بأهم عقبات معرفة الذات ، التي جعل من أحد عواملها اللاإيمان و كذا تسييج الدولة لوجدان الإنسان لضمان طاعته ، دون أن يغفل سوء التعاطي مع المعرفة العلمية ، التي فهمها العوام على أنها شيء يقطع مع العالم الرمزي و الروحي ، ما دفع إلى الحط من قيمة ما يسميه يونغ بالخافية ، الذي يجسد عدم توازنها مع عالم الواعية اظطراب نفسي فردي و حضاري ، يردف في آخر فصل يونغ إلى تسليط الضوء على "أهمية و معنى معرفة الذات" ، إذ يؤكد أن الخافية التي وضح فرويد أنها مستودع للغرائز الدنيئة تحمل أكثر من شيء إيجابي و هو ما يجعل البحث و التنقيب في أغواره أهم عمل سيكولوجيا للمسقبل ، إذ أن التغاضي عنه يشكل خطرا على الإنسان بل على مستقبل حضارته ، و هنا تكمن أهمية معرفة الذات التي تتجسد في ضمان حد أدنى لتوازن كيان الإنسان بين عالمه الرمزي و المادي ، أو بلغة يونغ حفظ التوازن بين الواعية و الخافية .

أخيرا و على أمل و تمني تقريب القراء من أهم أفكار الكتاب ، نُذكِّر بأننا لا ندعي الإلمام كليا بأفكار عالم نفس مثل "كارل غوستاف يونغ" في كتابه هذا . بل يستدعي ذلك احتواء بعض أهم كتب هذا التخصص العلمي فهماً و استيعاباً التي سبقته حتى تتبدى الصورة بشكل واضح ، بل و حتى الإستفادة و تملك ثقافة سيكولوجية تساعدنا في حياتنا اليومية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال