الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
مفخرة نيتشه
الحسن علاج
2017 / 6 / 20الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقدم الفيلسوف كليمون روسيهClément Rosset) ( هنا قراءته لذلك الذي " قام ، لوحده، بقلب ألفيتين من الفلسفة المثالية " ، مُرَحِّباً بقوة مُوافَقَة مفكر اختار الزائل ضد الأزلي ، يكتشف العمق في السطحي ويلقي نظرة مرحة على المأساوي ذاته . حوار مع مُؤَلِّف القوة القاهرة .
أجرى الحوار : ألكسندر لاكروا
ترجمة : الحسن علاج
سوف أضع بين يديك ، في هذا الحوار الذي هو بمثابة مدخل إلى نيتشه ، استشهادات لهذا الأخير . الاستشهاد الأول مأخوذ من الكتاب الرابع من [كتاب]المعرفة المرحة (Le Gai Savoir): " أرغب في أن أتعود أكثر فأكثر على اعتبار الضرورة في الأشياء كالجمال في ذاته : حينئذ سوف أكون واحدا من أولئك الذين يزخرفون الأشياء . حُبٌّ قَدَرِيٌّ (amor fati): فليكن هذا هو حبي من الآن فصاعدا ! سوف لن أقوم بأي حرب على القُبح ؛ لن أتَّهِمَ قط ، وحتى المُتَّهِمين فإني لن أتَّهِمَهُم . "
كليمون روسيه : إن الكتاب الرابع للمعرفة المرحة ، والموسوم ب" يناير المقدس " ـ « sanctus januarus » ـ ، كتبه نيتشه أثناء شتاء اغتباطي قضاه ب[مدينة] جينوة Genes) (الإيطالية . في تلك الفترة حيث أكد الفيلسوف استعادة عافيته من جراء انهيار عصبي طويل . آنذاك ، يعلن لنا نيتشه بإقلاعه عن الهجوم . وسوف يكتفي ، منذ الآن ، بالثناء ، بقول ماهو حسن في هذه الحياة . " لن أتهم قط ، وحتى المُتَّهِمين فإني لن أتهمهم " : وبالفعل ، فإن نيتشه قضى جزءا مهما من حياته في اتهام المُتَّهِمين أو ، بالأحرى ، اولئك الذين يدرك أنهم " مُوَافِقِينَ مُزَيَّفِينَ " على الحياة ؛ منافحين عن المثالية والأخلاق اليهودية المسيحية الذين لا يمجدون قيمة الحقيقة ، الخير ، الحياة الأبدية أو الله إلا من أجل تبخيس دنيانا . حينما كتب نيتشه المعرفة المرحة ، كان في الثامنة والثلاثين من عمره . هاهو ذا قد بلغ قصده ؛ فقد صار ماهو عليه ويعتزم إظهار قوته في الإثبات في عمله .
إننا نضع اليد هنا ، على جوهر قراءتكم المبتكرة لنيتشه . على النقيض من غالبية الشُّرَّاح ، تقولون أنه أوَّلاً إثباتيٌّ وثانيّاً نقديٌّ .
نعم ، فهكذا قَرَأتُهُ وَفَهِمتُهُ دَائِماً . لم يكن نيتشه حقودا على الإطلاق . حينما تُقرأ نصوصه لَمَّا كان مراهقا ، حينما كان لا يزال مسيحيا ، يدرك المرء أنه على الدوام سلك سبيل الافتتان . من بين كل الفلاسفة ، فهو الذي يعبر عن عشق الحياة بشدة ، مع سبينوزا Spinoza) (. من جهة أخرى ، صحيح أن نيتشه يتمتع بقدرة لا تصدق على النقد . فقد شرع في ، ولادة التراجيديا ، بمهاجمة النزعة السقراطية والتَّعَقُّلية الأفلاطونية ـ حتى ولو أنه كان يعترف بكون أفلاطون كاتبا عبقريا ، فقد لامه لكونه لم يحمل على محمل الجد ، على خلاف الكتاب المسرحيين الإغريق ، مأساة الشرط الإنساني . وبعد ذلك ، وسع نيتشه نقده للتوحيد والأخلاق الدينية ، حينما بخست هذه الأخيرة من القوة ، الغريزة ، الجسد ، الطبيعة ... لماذا ؟ لأنه يعتبر أن الدافع الأول للأخلاق الدينية هو الضغينة le ressentiment))، بمعنى كراهية الحياة . وقد حكمت الأحداث الراهنة لصالحه . مسكينة[صحيفة] شارلي إيبدو Charlie Hebdo) (! لقد ذهبت للاحتفال بالذكرى الثلاثين لهذه الصحيفة وقد قدموا لي هدية لقميص والذي قمت بالاحتفاظ به .
( ذهب كليمون روسيه يبحث عن ذلك القميص في خزانة : فظهر عليه رسم لويلام Willem) ( الذي يمثل أوسامة بنلادن يستل سيفا مبللا بالدم وجورج بوش الابن George W.Bush) ( ممسكا برشاش وسط حقل مغطىً بالجثث ) :
لاحظوا الأسطورة : " اللهُ مَحَبَّةٌ " هذا كل ما يقال . ليست المحبة المزعومة التي يمجدها الدين ، دائما ، سوى مهزلة الكراهية الأكثر استبدادا .
باختصار ، من النادر جدا أن يتجاوز نيتشه الخط الأحمر ثم أن يبرهن من ناحيته على ضغينته . قلما يمثل نقيض المسيح هذا الاعوجاج . حينما كتب الفيلسوف : " لايملك المرء براهين ضد القس ، يملك الأشغال الشاقة " ، لا يكون الجنون بعيدا . وبالطريقة ذاتها ، فإن [كتاب] قضية فاغنر يرتهن إلى الانتقام . على أنه باستثناء تلك النصوص التي سبقت بقليل انهياره العصبي ب[مدينة] تورينو Turin) ( ، تَمَسَّكَ نيتشه بجانب الإثبات .
ما يوضحه هذا الاستشهاد المذهل ، الذي يتم اقتباسه دائما من المعرفة المرحة : " كل الوقائع التي تحدث لنا ، تصب باستمرار في مصلحتنا . "
نعم ، فقد ذهب نيتشه هنا أبعد من ليبنز Leibniz) ( في التفاؤل . إذ إن ، فما الذي يقوله لنا ليبنز ؟ إننا نعيش في أفضل العوالم الممكنة ، ولهذا السبب فإن الشر ملازم للخير . ففي نسق ليبنز ، فقبل أن يكون الله طيبا للغاية أو جبارا ، يتم تعريفه مثل ذكي غاية في الذكاء ـ بل هو نوع من حاسوب متفوق . وبصحبة هذا العقل المتفوق ، فقد نظم عالما كاملا بقدر المستطاع ، والذي لا يشكل فيه الشر جزئية ضرورية . نحن نعرف إلى أي درجة استخف فولتير Voltaire) ( من التفاؤل الليبنزي في [كتاب] كانديد candide) (. إن نيتشه ، والحالة هذه ، يمتلك تفاؤلا أكثر تطرفا : إن الشر ، بالنسبة إليه، ليس شرطا حيث يمكننا الاستغناء عنه نسبة إلى الخير ، على أنه يشكل في ذاته تكملة للخير . إذا كنا قادرين على مقاومة أسوأ الشرور ، فإننا نقوي عزيمتنا في الوجود ، قدرتنا في السعادة ، نصبح أكثر قوة ـ باطنيا ، نفسيا . وفي هذا الاتجاه يؤكد نيتشه ، في [كتاب] أفول الأصنام : " مَا لاَ يَقتُلُنِي يُقَوِّينِي . " ينسجم هذا القول المأثور مع الحكمة القديمة ؛ يجد المرء على سبيل المثال لدى المؤلف اللاتيني أولو ـ جيللي (Aulu- Gelle) الشعار التالي : " يَعمَلُ الجُرحُ عَلَى إنعَاش الشَّجَاعَةِ وَبَعثِهَا . " على أننا لسنا ببعيدين كذلك عن بصيرة ثم عن هذا القول المأثور الإسباني الذائع الصيت : " mierda que no mata engorda " ، " البِرَازُ الَّذِي لاَ يَقتُلُ يُسَمِّنُ " .
ثمة في الكتاب الأول من المعرفة المرحة ، أيضا هذا الانحدار لنفس الفكرة : " كُلُّ مَن يَرغَبُ فِي تَعَلُّمِ التَّهلِيلِ حَتَّى " السَّمَاءِ " عَلَيهِ أن يُعِدَّ نَفسَهُ إلَى أن يَكُونَ " حَزِيناً حَتَّى المَوتِ " . "
إن ما يذهلني ، هو اقتراب ذلك الأسلوب من أسلوب الروحية المسيحية . " نَفسِي حَزِينَةٌ حَتَّى المَوتِ " ، في إنجيل مَتَّى . وعلى المستوى الفلسفي ، فإن ذلك التفكير ، يبين كيف أن الحزن هو مُكَوِّنٌ للفرح . وبالفعل ، فإن فرحا ما يغض النظر عن أسوأ الآلام ، الذي ينفي كون أننا سريعوا الزوال وفانون ، يمكن أن يبدوَ نوعا من الجنون ، الرفض .غير أن فرحا يشكل جزءا مما هو مأساوي ، الذي يعترف بِجَرُوحِيَّةِ الكائن الإنساني ، معاناته ، والذي يعتبر في نفس الوقت أنه بالإمكان تجاوزهما من أجل بلوغ الإحساس بالامتنان ، لهو فرح رائع . كذلك فإني أرغب في تقريب هذا المقطع لواحدة من الكلمات العميقة والأكثر ندرة من [كتاب] هكذا تكلم زرادشت : " الفَرَحُ أعمَقُ مِنَ الحُزنِ . "
بتأييده للحياة ، قام نيتشه بمهاجمة الإيمان . فقد كتب في أفول الأصنام : " إن الحاجة إلى إيمان قوي لا تعتبر برهانا على إيمان قوي ، العكس هو الصحيح . فحينما يكون [الإيمان] في حوزتنا ، فإنه يمكننا تحمل ترف الشكوكية ـ نكون أكثر يقينا ، أكثر حزما ، أكثر صلابة ، أكثر التزاما من أجل ذلك . "
ثمة ما يقدم خلاصة لوضع مفارق لنيتشه . فهو من جهة ، يعتبر الأكثر شكوكية من كل الفلاسفة ـ يرتاب في كل شيء ، يتهم التقليد ، يخلخل القيم الأخلاقية والسُّلط العالمة الموقرة . ومن جهة أخرى ، فهو الأكثر موافقة من كل الفلاسفة ، إنه يدعونا إلى إلقاء نظرة مرحة على المأساوي ذاته . توجد شكوكيته في مستوى إرادته لإثبات الرغبة البسيطة في الوجود .
قلما كان هذا مفهوما من قبل القراء الفرنسيين لنيتشه . فقد قام الفلاسفة الفرنسيون ، في غضون السبعينات ، من ميشال فوكو (Michel Foucault) إلى جيل دولوز Gilles Deleuze) ( مرورا بجاك دريدا Jacques Derrida) (أو بيار كلوسوفسكي Pierre Klossowski) ( بتبرئة نيتشه من وصمة العار التي تمثلها استعادته من قبل النازيين . وهذا هو ما جعلهم يختلقون صورة لنيتشه يساري ، مثل فيلسوف للتفكيك ، يفكك كل الإيديولوجيات دون أن ينافح عن أية منها . وبالنسبة لثيمة الفرح والانتماء إلى العالم ، والتي مع ذلك لها حضور كلي في العمل ، فقد كانوا يفضلون إخفاء ذلك تحت الطاولة . لأنه ، أليس كذلك ، يوجد بؤس في العالم ، فوارق اجتماعية ، اغتصابات ، حروب ... إن القبول بهذا العالم كما هو ، مدح الواقع ، لهو ترف وسلوك اجتماعي ـ خائن . شخصيا ، إني أحارب هذا الأسلوب في تلطيف نيتشه ـ إن فكره ، مثل فكر سبينوزا ، عنيدٌ وقاسٍ . إن إثبات العالم ، إطراء الفرح ، يمتلك شراسة ، بما أن ذلك يعود إلى مناوأة جبهة غير مكترثة بأسوأ الكوارث . على أنه ، لو كان قد عاش تحت الرايخ الثالث ، فإن نيتشه ، بقريحته الجدلية ، هجوماته المتكررة ضد الروح الألمانية ، إهاناته ضد المعادين للسامية ، إشادته بالجنوب ، شخصيته ونمط عيشه ، كان سيصنف من ضمن المثقفين ال" منحطين " وكان ، بدون أدنى شك ، سوف يفتتح معسكرات الاعتقال .
لننتقل إلى ثيمة أخرى ذات أهمية ، الضغينة . يعرفها كتاب جنيالوجيا الأخلاق هكذا : " بَينَمَا يَكُونُ الإنسَانُ النَّبِيلُ مُترَعاً بِالثِّقَةِ وَالاستِقَامَةِ نَحوَ ذَاتِهِ ، فَإنَّ إنسَانَ الضَّغِينَةِ لاَ هُوَ بِالصَّادِقِ ، وَلاَ هُوَ بِالسَّاذَجِ ، وَ لاَ هُوَ بِالمُستَقِيمِ وَالصَّادِقِ تُجَاهَ نفسِهِ . نَفسُهُ مُرِيبَةٌ ... "
نعم ، تعتبر الضغينة لُقيَةً سيكولوجية رائعة . إن الضغينة هي أولية وفي نفس الوقت ، تعتبر مسألة جدية : ما من أحد يستسلم للضغينة لا يقبل بالواقع إلا تحت تحفظات تعديلات لا حصر لها . ثم إن سلاح الضغينة ، هو تَوَهُّمُ الضَّعِيفِ قَوِيّاً ، ووجود قوة معينة حتى لا يتم الاستسلام إلى أفكار أو أعمال دنيئة ؛ في حين أن الأقوياء يكمن عيبهم في الاستسلام إلى غرائزهم . إنه بواسطة المكيدة ، عبر استراتيجيات ملتوية يرمي إنسان الضغينة الخزي على كل من يتفوق عليه . ثمة ما يفسر تلك العبارة المستفزة لنيتشه ، في [كتاب] إرادة القوة : " غَالِباً مَا تَمَّ الوُقُوفُ إلَى جَانِبِ الأقوِيَّاءِ ضِدَّ الضُّعَفَاءِ . " إذَا مَا ظَهَرَ عَبقَرِيٌّ مَا ، فَإِنَّ زُمرَةً مِن [أناس] قَلِيلِي الذَّكَاءِ الحُسَّادِ سَوفَ يَسعَونَ إِلَى التَّحَالُفِ ضِدَّهُ ، مِن أَجلِ خَنقِهِ .
أيضا فإن إنسان الضغينة ، هو من يَجتَرُّ بِشَكلٍ سَيِّءٍ ، يُعَانِي عُسراً فِي الهَضمِ . وبالنسبة لنيتشه ، ثمة من بين الناس المجيدين والمسيئين للاجترار . يتوصل المجيدون إلى تمثل الأحداث ؛ يجتر المسيؤون الكلام ، غير قادرين على النسيان كما على الصفح . وبإمكانكم التعرف على المجترين السيئين من بين أقدم أصدقائكم : وكنت أعرف أكثر من واحد منهم ، عمره ستون سنة ، لا يصدق على الدوام أن العالم يكون كما هو ! فقد عاشوا أكثر من نصف قرن ثم إن هذا لا يحدث دائما ، ولم يستوعبوا الحقيقة !
خصص جيل دولوز صفحاتٍ عميقةً للضغينة في عمله نيتشه والفلسفة . ومع ذلك ، فإن موقفه جعلني أفكر قليلا في عبارة فولتير ، الذي قال بخصوص مالبرانش Malebranche) ( : " هو الذي يرى كل شيء في الله ، ألا يرى في ذلك أنه أحمق . " قام دولوز بتأمل وتحليل أهمية الضغينة ، لكنه نسي أخذها بعين الاعتبار . على أنه ، تمكن برصانة من التخفيف من حمولة الواقع كلما تقدم في مشروعه النظري !
أيضا فقد كتب نيتشه في أفول الأصنام : " وَحَدهُ العَالَمُ " الظَّاهِرِيُّ " مَوجُودٌ . وَلَيسَ العَالَمُ " الحَقِيقِيُّ " سِوَى كِذبَةٍ أُضِيفَت إِلَيهِ . "
ذلك هو ما يأسرني ويستولي عليَّ في هذا الفكر ، حينما كنت في الثامن عشرة سنة : كنت أندهش على الدوام وأنا أستمع ، في دروس الفلسفة ، تقريظ سقراط وأفلاطون كما لو كان الأمر يتعلق بالإله الأب وبالإله الابن ! وقد كنت أجد الحوارات الأفلاطونية مترعة بالمُمَاحَكات المتعبة وشبه هذيانات délires) ( حول عالم الأفكار ، خلود الروح ، التناسخ métempsycose) (، إلخ . تأملوا استعارة الكهف : سوف نجد أنفسنا محتجزين في هذا العالم كما في مغارة ، محكوم علينا بالاَّ نبصر إلا ظلال الواقع . لكن ، يالها من غرابة ! يبدو الأمر وكأننا بصدد الاستماع إلى الهذيان البودليري : " في أي مكان من هذا العالم ! " ولكن بطبيعة الحال ، من بعدكم ، سيدي ... فضلا عن ذلك ، فحينما اكتشفت نيتشه وإدانته للأفلاطونية ، لقد كان ذلك نوعا من الاغتباط : " مرحبا ، قلت في نفسي ، نحن اثنان ! " العالم الظاهري هو الوحيد ؛ العالم الحقيقي ، بعبارة أخرى عالم الأفكار الأفلاطونية ، ليس إلا وهما . وأخيرا ، لقد قيل ! لا تنسوا أن نيتشه كان فَقِيهَ لُغَةٍ ، فهو يعرف كيف يشتم الكذب في نص ما . لقد قال : " كُلُّ نُبُوغِي يُوجَدُ فِي مِنخَريَّ " .
قُبَالة الموت ، يُطري نيتشه على الموقف الذي يقطع صلته مع التقليد المهيمن في الفلسفة : " إن ما يجعلني سعيدا ، هو إدراك أن الرجال يرفضون إطلاقا الخوض في التفكير حول الموت ! "
نعم ، أيضا إنه مقطع من المعرفة المرحة ، أليس كذلك ؟ ينبغي القول أنه أهم كتاب لنيتشه ، مع ما وراء الخير والشر . بإمكانكم مقابلة هذه الجملة بباسكال ، الذي يشكو بأن الرجال يخوضون في اللهو بدلا من التأمل حول الخاصية المنتهية للوجود . إن نيتشه ، والحالة هذه ، لا يعتبر بأن نسيان الموت يرتبط بالطيش ـ خلافا لذلك ؛ يرى فيه قمة الحكمة . إن كل قوة الكائن البشري تكمن في هذا : معرفة أننا سوف نشيخ ، نتألم ثم نموت ، ونكون سعداء بالانخراط كليا في ذلك الفكر . وحده من يقبل بفكرة الموت ، حتى وإن لم يفكر فيه أبدا ، سوف يصبح قادرا على ولوج كمال الحياة .
نتصدى الآن إلى أهمية عمل نيتشه التي تعتبر أثيرة لديكم ، فأنتم مولعون بالموسيقى . ففي أفول الأصنام نعثر على هذه الجملة الشهيرة : " بِدُونِ مُوسِيقَى ، تُصبِحُ الحَيَاةُ حَمَاقَةً . "
لا تشكل هذه الصيغة بالنسبة إليَّ لغزا ، إني أشعر بها بعمق . ففي تقديري ، تعتبر الموسيقى حافزا للفرح ، لأنها تحدث قبولا غير مشروط بكل ما هو موجود . ففي عالم مجرد من كل جوهر وكل أهمية ، ماذا بمقدور المرء توقعه أكثر إن لم يكن مجتاحا من قبل إحساس بالابتهاج ، كذلك الإحساس الذي تحدثه خوتا jota) (مايوركية جميلة ؟
ثمة خاصية أخرى لقراءتكم نيتشه : إنكم تقومون بتنسيب أهمية ثيمة العود الأبدي ، الذي تمت صياغته هكذا في ما وراء الخير والشر : " إن الرجل الأكثر سخاء ، الأكثر إقبالا على الحياة والأكثر إثباتا [...] لا يكتفي بالقبول وبالتعود على تحمل الواقع مثلما وُجد ومثلما يُوجد ، على أنه [...] يرغب في رؤيته مثلما وُجد ومثلما يوجد ، إلى الأبد . "
إن معنى العود الأبدي ليس معقدا : يتعلق الأمر بنوع من حجر المِحَكِّ . هل أنت على تمام الاستعداد لاستعادة ظروف حياتك إلى ما لا نهاية ؟ أجب بكل صدق : هل ستوافق على الاستحضار بلا نهاية عبر كل المراحل منذ ولادتك ؟ لو أجبت بالإيجاب ، هذا يعني أن عشقك للحياة عميق وصادق .مثلما لاحظ دولوز ذلك ، نيتشه ، في الضرورة الحتمية للأخلاق الكانطية ـ " تصرف دائما وفقا لمبدأ أساسي " ـ يعارض معياره الخاص لتحديد السلوكات :" إن ما ترغب فيه ، ابتغيه بطريقة مماثلة لرغبتك أيضا في العود الأبدي . "
هنا ، تتعارض قراءتكم أماميا جدا مع قراءة مارتن هيديغر.
بإمكانكم قول ذلك ! لكي نكون صادقين ، فحتى النازيين لم يفلحوا في قول حماقات بخصوص نيتشه قدر حماقات هيديغر ! اقرأ درسه حول نيتشه وهو يوجد في مجلدين :كل شيء فيه باطل من البداية إلى النهاية . منذ البداية ، يقوم هيديغر بتوضيح أنه لن يسعى إلى الحديث عَمّا كتبه نيتشه ، بل عَمّا لم يكتبه . هذه هي الطريقة التي كان يبرر بها تلك المنهجية الغريبة نوعا ما : " إذا كانت معرفتنا تقتصر على ما تم نشره من قبل نيتشه ذاته ، فإننا سوف لن نأخذ خبرا عما كان نيتشه يعرفه في السابق ، ما كان يهيئ له ولم يتوقف عن النضج ، على أنه كان يحتفظ به ." يشرح هيديغر ، في مقدماته المنطقية ، بأن الأساسي بالنسبة لنيتشه هو فكرة العود الأبدي ، التي تثبت على أن نيتشه هو مفكر للكينونة ، لما هو يدوم ثم يعود مرة أخرى فيما وراء تتالي الأحداث ، ثم إنه سوف يصبح هيدغيريا قبل الوضع النهائي . الأمر الأكثر إدهاشا ، هو أن الفلاسفة الفرنسيين لما بعد الحرب ، دريدا ودولوز في المقدمة ، قد أخذا تلك القراءة على محمل الجد . لكني لا أعرف لماذا ، في الجامعة الفرنسية ، انتشار الأسطورة التي بحسبها سوف يصبح هيديغر أكبر فيلسوف في القرن العشرين . لاسيما وأن من غير المفهوم أن قصائد المدح بخصوص هيديغر بدأالشروع فيها مباشرة بعد الاحتلال ،دليل على أننا لسنا مفرطين في الحقد...
يعتبر نيتشه ، في واقع الأمر ، المفكر الهيدغيري الأكثر تعارضا الذي بحسبه يكون : الزائل أكثر أهمية من الأبدي ، الواقعي ذو قيمة أكبر من الكينونة ، السطح هو العمق الحقيقي . إني أعشق نيتشه ،لأنه عرف كيف يحمل على عاتقيه الواهنين ، أليس كذلك ، ألفيتين من الفلسفة المثالية ، ثم إنه عمل على قلبهما. أنا لا أتساءل دائما كيف تمتع بالقوة كي يدير جيدا معركة مماثلة ، في حين أنه كان يتمتع ببنية جسدية واهنة ومسار عابر على الإطلاق ، لكنها مفخرة نيتشه .
ـــــ
ـ كليمون روسيه (ـ 1939)
من كتاب إلى كتاب، أخذ هذا الفيلسوف على عاتقه دحض الأوهام التي يعمل الناس على تغذيتها بخصوص موضوع الواقعي .
إنه يقوم بتوسيع هذا النقد للمثالية من خلال أعمال عديدة ، التي أصبحت كلاسيكية ، مثل الواقعي وضِعفه ( غاليمار ، 1976 ) ، بعيداعني. دراسة حول الهوية (منوي ، 1999 ) أو ، منذ عهد قريب جدا ، اللا مرئي ( منوي، 2012 ) . على أنه في كتابه حول الفرح ، القوة القاهرة (منوي ، 1983) ، الذي يطور قراءة منعشة لنيتشه يمثلها هذا الحوار .
ـ مصدر النص الأصلي : مجلة الفلسفة الفرنسية (Philosophie , magaine .hors série) عدد ممتاز ، صيف 2015.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. احتلال لبنان.. هل يصبح خيار إسرائيل في مواجهة حزب الله؟
.. بعد عام من الحرب.. فلسطيني يرسم جدارية شمال غزة للتعبير عن ا
.. ناشطون يضعون ملصقا يوثّق مأساة غزة على لوحة -الأمومة- لبيكاس
.. لن تختلف عن بايدن.. ترمب يرفض إجراء مناظرة ثانية مع هاريس
.. استمرت 30 دقيقة.. البيت الأبيض يكشف تفاصيل مكالمة بايدن ونتن